واحتدمت المناقشات وتشعبت, وكان ثمة اتفاق تام بين الحاضرين جميعا علي ما أبداه رجال الدين الحاضرون في بداية الاجتماع من ان جانبا كبيرا من اضطراب معالجتنا لمشكلاتنا الاجتماعية وليس لقضية الختان فحسب انما ترجع لابتعادنا عن الاحتكام لصحيح الدين, ولكن ما ان بدأ النقاش حتي تبين اننا حيال رؤيتين اسلاميتين متعارضتين حيال قضية واحدة, وان كلا من وجهتي النظر تستند إلي اسانيد دينية شرعية بدت لي ـ رغم تعارضها ـ مقنعة لي تماما مما وضعني في موقف مربك, خاصة أنني لا اعتبر نفسي بحل من أهل التخصص الفقهي مما يمكنني علي الاقل من المفاضلة بين وجهتي النظر. تذكرت ذلك الموقف حين تابعت يوما حوارا جري تحت قبة مجلس الشعب بين السيدة الفاضلة وكيلة المجلس وهي من المتخصصات في الدين الإسلامي, وفريق من السادة النواب ممن لايقلون عنها فضلا ولاتخصصا, حول قضايا مثل توريث الزوجة الكتابية التي مات عنها زوجها المسلم, وتساوي شهادة الرجل والمرأة, مما ارتبط لدي بحوارات اعلامية جرت ومازالت تجري حول عديد من القضايا من جواز نقل الاعضاء إلي مشروعية فوائد البنوك إلي اخره. لقد نشأت التخصصات في علوم الدين وكذلك المذاهب الدينية المختلفة, تالية لنشأة واكتمال الدين ذاته بل وبعد رحيل من حمل إلينا الرسالة من السماء إلي الارض, ينطبق ذلك علي ديننا الإسلامي الحنيف كما ينطبق علي غيره من الديانات السماوية, بل وكذلك بصورة قد تبدو مختلفة علي العقائد الايديولوجية الشاملة التي لم يزعم لها اصحابها صلة ما بوحي تلقاه منشئها من السماء كالماركسية أو البوذية أو الكونفوشوسية إلي اخره. وإذا كان استيعاب كتاب بشري متخصص ايا كان نوع تخصصه يحتاج إلي من يقوم بتبسيطه لكي يصل إلي عامة البشر, ولايجد صاحب النظرية العلمية حرجا في ان ينسب له العامة غموض نظريته وقصور افهامهم عن استيعابها, باعتباره قد طرح فكرة متخصصة لاقرانه من المتخصصين ومن ثم لايجد احد من العامة حرجا في ان يطلب من مدرس للفيزياء مثلا أو متخصص في تبسيط العلوم ان يشرح له نظرية النسبية أو الفيمتوثانية, كما ان احدا لايجد حرجا في ان يوصف بأنه غير متخصص في الفيزياء وبالتالي فليس له ان يتوقع النظر إلي رأي يبديه في هذا المجال باعتباره فرضا علميا جدير بالفحص والاختبار, وإذا ما اختلف علماء الفيزياء في قضية معينة تدخل في نطاق تخصصهم لم يجدوا بأسا في الاعلان عن اختلافاتهم والاحتكام إلي التجربة العلمية فيصلا نهائيا فيما كانوا فيه يختلفون. تري هل يمكن ان تنطبق مقولة التخصص بهذا المعني المحدد علي كتاب سماوي موجه للبشر جميعا دون تمييز بين العامة والمتخصصين؟ وبصرف النظر عن الاجابة, فإن شواهد الواقع العملي التاريخي تجسد حقيقة ان جميع الأديان دون استثناء عرفت ظاهرة المتخصصون في تفسير الكتب المقدسة وسير الانبياء, والجميع يعرف ايضا ما نجم عن ذلك من نشأة الفرق والمذاهب التي يتفق اصحابها علي قداسة النص الإلهي وانه موجه للبشر جميعا كما يتشابهون في القول بأنهم الاكفأ والاقدر علي التوصل للتفسير الصحيح لمقاصد ذلك النص, ثم يختلفون بعد ذلك في تأويلاتهم للنص المقدس, وقد تصل خلافاتهم تلك إلي حد التكفير بل والتقتيل, وقد تلتزم حدود الاختلاف الفكري ولكنها لاتتنازل قط عن تمايزها, فلم يعرف التاريخ قط اندماجا فكريا لمذهبين أو فرقتين دينيتين بحيث يذوبان في بعضهما ويتبنيان فكرا واحدا, كما يحدث احيانا في مجال الاحزاب والفرق السياسية. ولعل الأمر كان محدودا بدرجة أوبأخري في عصر وسائل الاتصال الشفاهية والمكتوبة, ولكن في ظل عصر مايعرف بالانفجار الاعلامي, وما تضمنه من يسر غير مسبوق في بث المعلومات واستقبالها, كان من الطبيعي ان تتعدد القنوات والبرامج الدينية ومن ثم تتعدد الفتاوي الدينية بل وتتضارب في كثير من الاحيان, ويصبح الكثير من العامة في موقف فكري مربك: انهم حريصون علي تبين الرأي الديني الصحيح في أمور حياتهم وهم في نفس الوقت لاتتوافر لديهم المعرفة المتخصصة التي تمكنهم من المفاضلة بين الفتاوي, وبذلك لايصبح امامهم سوي واحد من تلك السبل: الاعتماد علي تقديرهم الذاتي لشخص الداعية وجاذبيته الاعلامية وسمعته الشخصية: زهده بساطته تاريخه الجهادي... إلي آخره. الاعتماد علي مدي اقتراب الفتوي من استعدادهم وتكوينهم النفسي, التشدد التسامح, الموقف من المرأة.. إلي آخره. الاعتماد علي مدي اقتراب الفتوي من توجهاتهم السياسية: الموقف من النضال الفلسطيني معارضة السلطة. الاعتماد علي ما تحمله الفتوي من تبرير لممارساتهم الحياتية الفعلية: تبرير الرشوة بضرورات الحياة مثلا. ان يولي المرء ظهره لتلك الفتاوي جميعا وأن يقدم علي مخاطرة التفسيرالذاتي للنص المقدس, وهو ما يلجأ إليه الكثيرون. تري هل ثمة حل لتلك الاشكالية في عالم اليوم
المزيد من مقالات د . قدرى حنفى |
ساحة النقاش