أشباح الماضي وآفاق المستقبل‏!‏
بقلم: السيد يسين
العالم كله شرقه وغربه‏,‏ شماله وجنوبه‏,‏ مشغول بالمستقبل‏,‏ ونحن في المجتمع العربي المعاصر قابعون في كهف الماضي نتعبد في محرابه وتخايلنا أشباحه‏,‏ وبعضنا من ذوي العقليات الرجعية يحاول اقناعنا بأن الماضي بكل ما دار فيه يصلح لكي يكون مرجعيتنا في الحاضر ويوصلنا للمستقبل‏!‏
 
 

 

لقد عالجنا من قبل موضوع تحديات النهضة الثقافية العربية‏,‏ وأبرزها عدة سلبيات‏,‏ أهمها علي الإطلاق هيمنة النص الديني وخصوصا تأويلاته غير الصحيحة وتأثيراته علي قيم واتجاهات جماهير المسلمين قرونا طويلة‏,‏ وتهافت الخطاب العربي بحكم الخلط الواضح بين المستويات المعرفية البرهانية والبيانية والعرفانية‏,‏ مما يفقده التماسك ويحرمه من الإقناع‏.‏
واذا أضفنا الي ذلك سيادة القيم الأبوية في المجتمع العربي من الناحية السياسية والاجتماعية والثقافية‏,‏ مما يكرس قيم الخوف والخضوع‏,‏ لأدركنا أن أزمة المجتمع العربي بالغة العمق حقا‏.‏
غير أن هنا بعدا آخر فاتنا أن نشير إليه في هذا السياق‏,‏ وهو ما بدأنا به المقال ويتمثل أساسا في الاستنجاد بخبرات الماضي لحل مشكلات الحاضر‏,‏ في حين أن آفاق المستقبل لا يتم استطلاعها بالشكل المنهجي الذي ترسم به المجتمعات المتقدمة خرائط مستقبلها‏.‏
ويمكن القول إنه نشأ في المجتمع الغربي منذ عدة عقود مبحث علمي جديد‏,‏ هو علم المستقبل‏Futurology,‏ الذي يعني بتطبيق مناهج وأساليب بحثية شتي لاستشراف المستقبل من الزوايا السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية‏.‏
وقد نشرت حول المستقبل كتب بالغة الأهمية وتقارير عالمية شهيرة‏.‏
ومن أبرز هذه الكتب علي الإطلاق كتاب توفلر صدمة المستقبل الذي ترجم الي عشرات اللغات الحية‏,‏ وأصبح المرجع الذي استطاع تحفيز الرأي العام العالمي للاهتمام بالمستقبل‏,‏ واتبعه بنشر كتاب الموجة الثالثة‏,‏ الذي تحدث فيه باستفاضة عن التحول من نموذج المجتمع الصناعي الي نموذج مجتمع المعلومات العالمي‏,‏ وأخيرا نشر كتابه تحولات السلطة‏,‏ الذي هو إبداع خالص في رسم خريطة المجتمع العالمي الراهن‏,‏ بكل ما تزخر به من تضاريس متنوعة‏.‏
أما التقارير الدولية التي ذاع صيتها في العالم‏,‏ فأبرزها كان التقرير الذي أصدره نادي روما‏,‏ وهو مركز بحثي عالمي وعنوانه حدود النمو‏,‏ والذي تضمن رؤية تشاؤمية عن مستقبل العالم‏,‏ علي أساس أن نضوب موارد الكون سيؤدي الي كارثة إنسانية لا حدود لها‏.‏
غير أن تقديرا آخر صدر عن مجموعة من المفكرين اليساريين في أمريكا اللاتينية نشر بعنوان نموذج باروليتشي‏,‏ وقد تضمن نقدا عنيفا لتقرير نادي روما لأن استشرافه للمستقبل قام علي أساس بقاء النظام الرأسمالي بما يتضمنه من توزيع ظالم للإنتاج علي مستوي العالم الي الأبد‏,‏ مع أنه لو تغير هذا النظام الذي اعتدي بوحشية علي الموارد الطبيعية للكون‏,‏ جريا وراء التراكم الرأسمالي وجني الأرباح الفاحشة‏,‏ لتغير الوضع واعتدل الميزان الكوني ـ إن صح التعبير ـ وما شهدنا خطورة الاحتباس الحراري الذي يتهدد الكون في الوقت الراهن‏.‏
غير أن الدراسات المستقبلية في العالم تمر بأزمة حقيقية‏,‏ وهذه الأزمة ترد الي سببين رئيسيين‏:‏ الأول هو التغيرات الجسيمة في الوضع العالمي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وكتلة الدول الاشتراكية ونهاية عصر الحرب الباردة‏,‏ وزوال نظام الثنائية القطبية الذي هيمن علي مجمل القرن العشرين من ناحية‏,‏ والثاني هو اللحظة التاريخية التي تمر بها العلوم الاجتماعية الغربية والتي تتسم بسقوط النظريات القديمة والصراع حول تأسيس نظريات جديدة‏,‏ من ناحية ثانية‏.‏
ولعل السؤال الذي يفرض نفسه‏:‏ ما العلاقة بين انهيار النظام العالمي القديم وأزمة الدراسات المستقبلية؟
لقد أجبنا عن هذا السؤال من قبل في كتابنا الزمن العربي والمستقبل العالمي الصادر عن دار المستقبل العربي عام‏1998.‏
وكان خلاصة رأينا أنه في الواقع أن هناك علاقة وثيقة‏,‏ وبيان ذلك أن النظام العالمي القديم الذي سيطر علي مناخه السياسي والفكري الصراع الحاد والعنيف بين الرأسمالية والماركسية‏,‏ كان يتسم بالثبات النسبي‏,‏ ذلك أنه بالإضافة الي العالم الأول ممثلا في الولايات المتحدة الأمريكية وباقي الدول الغربية الرأسمالية المتقدمة‏,‏ كان هناك العالم الثاني متمثلا في الاتحاد السوفيتي وغيره من البلاد الاشتراكية‏,‏ غير أنه بالإضافة الي ذلك كان هناك العالم الثالث‏,‏ ونعني عالم الأطراف الذي يزخر ببلاد تنتمي الي ثقافات متباينة‏,‏ وتطبق فيها نظم سياسية متعددة‏,‏ وإن كان يجمعها سمة واحدة‏,‏ هي تدني المستوي الاقتصادي‏,‏ وقصور البنية التكنولوجية‏,‏ وضعف الإنتاج وانخفاض مستواه‏.‏
المعركة بين هذه العوالم الثلاثة كانت محتدمة‏,‏ العالم الأول يتصدر سباق المنافسة العالمية‏,‏ من خلال حملة دعائية صارخة تدور حول أفضلية الرأسمالية كاختيار اقتصادي يقود حركة البشر‏,‏ والليبرالية باعتبارها أرقي نظام سياسي يحقق الحرية الإنسانية‏,‏ والعالم الثاني الذي يشن حربا ايديولوجية ضد العالم الأول علي أساس أن الماركسية هي وليس غيرها‏,‏ الايديولوجية التي ستبني علي أساسها المجتمعات الاشتراكية‏,‏ تمهيدا للوصول الي المجتمعات الشيوعية‏,‏ ويبقي بعد ذلك العالم الثالث الذي توزعت ميوله واتجاهاته بين العالم الأول والعالم الثاني‏,‏ بالإضافة الي أنه كان ـ في كثير من الأحيان ـ يمثل ساحة الصراع الأساسية العسكرية والسياسية والاقتصادية بين العالم الأول والعالم الثاني‏.‏
في ظل هذه الخريطة العالمية بثوابتها وسماتها الراسخة‏,‏ كانت تدور الدراسات المستقبلية في الغرب والشرق‏,‏ في ظل مناخ يتسم في الواقع بالثبات النسبي‏,‏ وهذا الثبات النسبي كان يتبلور حول الصراع بكل تجلياته العسكرية والسياسية والاقتصادية بين الولايات المتحدة الأمريكية زعيمة ما أطلق عليه العالم الحر‏,‏ والاتحاد السوفيتي زعيم البلاد الاشتراكية وبلاد العالم الثالث التي تدور في فلكه‏.‏
في هذه الحقبة الحاسمة من تاريخ الإنسانية‏,‏ سمح الثبات النسبي للوضع العالمي بأن تنمو الدراسات المستقبلية نظريا‏,‏ وأن يتتبلور عديد من مناهجها وأدوات بحثها‏,‏ غير أن هذا النمو وقف أمام تطوره الحقيقي‏,‏ التحيز الايديولوجي الصارخ في كلا المعسكرين‏,‏ ففي المعسكر الرأسمالي طغي التحيز الرأسمالي علي الموضوعية العلمية الواجبة‏,‏ والتي كان من شأنها أن تشير الي السلبيات الواضحة في النموذج الليبرالي نفسه‏,‏ ولا تتجاهل المؤشرات الخاصة بالتفكك الاجتماعي‏,‏ وتلك المتعلقة بتدهور أحوال الطبقات الاجتماعية الدنيا‏,‏ ومن ناحية أخري ظهر التحيز الصارخ في المعسكر الاشتراكي علي أساس التنبؤ بالانهيار الوشيك للنظام الرأسمالي‏,‏ وقرب انتصار الاشتراكية المؤكد‏.‏
وانتقل الوضع العالمي من الثبات النسبي الذي ميز التفاعلات الدولية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتي سقوط الاتحاد السوفيتي‏,‏ الي حقبة تاريخية مختلفة تماما‏,‏ تتسم بالسيولة التي تحكمها ضوابط معينة‏,‏ وكأنها انتقال من النظام الي الفوضي‏!‏
ولم يكن الفراغ الايديولوجي فقط هو أبرز سمات مرحلة ما بعد سقوط الاتحاد السوفيتي‏,‏ بل إن أحوال الأمم ذاتها ـ في مختلف القارات ـ شابتها ظواهر جديدة غير مسبوقة‏,‏ لقد شاهدنا ثورة عديد من الجماعات اللغوية والاثنية والدينية علي الدولة القومية‏,‏ وبرزت مطالبها السياسية التي تتمثل في حق تقرير المصير‏,‏ والانفصال عن الدولة الأم‏,‏ وتأسيس دول جديدة بغض النظر عن امتلاكها لمقومات العيش والبقاء‏,‏ وكذلك ظهرت المطالب الثقافية لعديد من الجماعات‏.‏
غير أن أزمة الدولة القومية التي تتمثل في خروج عديد من الجماعات عليها‏,‏ ومطالبتها سواء بالانفصال التام عنها وتأسيس دول جديدة‏,‏ بالقوة أو بالتراضي السياسي‏,‏ ليست سوي صورة جديدة واحدة من صور الأزمة‏,‏ ذلك أن هناك صورا أخري تتعلق بأزمة الدولة القومية في البلاد الرأسمالية المتقدمة مثل فرنسا وألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية‏,‏ وتتعلق هذه الأزمة بنهاية عصر ما أطلق عليه من قبل دولة الرفاهية‏,‏ ويعني بها الدولة التي استطاعت بحكم الارتفاع المتزايد في معدلات الدخل القومي‏,‏ أن تصوغ شبكة متكاملة من التأمينات الاجتماعية في مجال الصحة والبطالة والعلاج‏,‏ كانت هي بذاتها العاصم من حدة الصراعات الطبقية‏,‏ التي كان يمكن أن تسود هذه المجتمعات‏.‏
ونستطيع أن نضيف أسبابا أخري لأزمة الدولة القومية‏,‏ بعضها يتعلق باتساع نطاق العولمة وخصوصا العولمة الاقتصادية‏,‏ وبروز الشركات الدولية النشاط‏,‏ باعتبارها هي وليس غيرها المسيطرة علي عملية إصدار القرار الاقتصادي في عديد من بلاد العالم‏,‏ وهكذا يمكن القول إنه تشكلت خاصة في العقد الأخير‏,‏ قوة اقتصادية كونية كبري‏,‏ تهيمن الي حد كبير علي اقتصادات العالم‏,‏ وتضيق كثيرا من حرية صانع القرار الاقتصادي‏.‏
واذا أضفنا الي كل ذلك بروز التكتلات الاقتصادية كضرورة اقتصادية تكفل دوام تطور الاقتصادات القطرية‏,‏ كما هو الحال في الاتحاد الأوروبي وغيره من التكتلات‏,‏ لأدركنا أن صانع القرار الاقتصادي القطري لابد له أن يتكيف مع الارادة الجماعية للتكتل الاقتصادي الذي ينتمي إليه‏,‏ ولابد أن نضع أيضا في الاعتبار المنافسات الكبري التي ستقوم بين التكتلات الاقتصادية‏.‏
هذا الوضع العالمي الجديد الذي يتسم بالسيولة الشديدة‏,‏ وهذا المناخ الفكري الذي يميزه عدم اليقين‏,‏ إن كان يمثل بعض العقبات في الوقت الراهن أمام الدراسات المستقبلية‏,‏ فإن مراكز الأبحاث العالمية تجاوزت هذا الوضع وأصبحت في حالة تسمح لها باستشراف مستقبل العالم في العقدين المقبلين بحيث أصبحنا قادرين علي الحديث عن حالة المستقبل‏!‏
 

 

المزيد من مقالات السيد يسين
المصدر: مؤسسة الأهرام
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 75/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
25 تصويتات / 153 مشاهدة
نشرت فى 25 فبراير 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,792,546