النوع الأدبي وقـــبول الآخر
بقلم: د. علاء عبدالهادى
تميل نظريات الأنواع الأدبية أو الفنية التقليدية إلي الاتفاق علي وضع قواعد للسلوك الإبداعي‏,‏ ثم تحاول بعد ذلك أن تفسر تجليات كل نوع‏,‏ علي أساسها‏,‏ وهو سلوك تسبب في إقصاء الكثير من الأعمال الإبداعية التي لم تلتزم بهذه القواعد‏.
 
 

 

إما بسبب فرط تجريبيتها‏,‏ أو بسبب بدائيتها من وجهة نظر نظرية الأنواع الأدبية السائدة‏.‏
وقد خضعت تجليات الأنواع الأدبية والفنية‏-‏ في تاريخ تطورها الغربي الخاص‏-‏ إلي سياق تراكمي‏,‏ نما في مجتمعات‏,‏ تقاربت فيها ظروفها المعرفية والتقنية‏,‏ وكانت مستويات نضوجها العلمي والاجتماعي‏,‏ وأنماط إنتاجها الاقتصادي متقاربة إلي حد بعيد‏,‏ وهذا ما منح سمات الأنواع الأدبية الأوروبية سمة الثبات‏,‏ وجعل التعامل معها يأخذ سمت التفوق والسيادة‏,‏ ذلك برغم خضوع هذه السمات في مراحل نموها إلي أسس تاريخية ونسبية‏;‏ سواء في خصائصها الفنية‏,‏ أو في شكول إنتاجها وتلقيها‏,‏ لكن شيوعها علي نحو عالمي‏,‏ قد أضعف الوعي بحقيقتها النسبية‏,‏ كون هذه التجليات الأدبية أو الفنية التي قام علي أساسها تأسيس نظرية الأنواع الأدبية السائدة‏,‏ قد حددت من منظريها الغربيين بناء علي معاينة واقع موضوعي‏,‏ ومعطي تاريخي‏,‏ أفرزته بيئة ثقافية بعينها‏,‏ فما يظل مميزا في بيئة ثقافية ما‏,‏ قد يكون نسبيا‏,‏ ولا يلتفت إليه في بيئة أخري‏,‏ لأنه يظل مرتبطا بسياقه المعرفي‏,‏ ومشدودا إلي مكانه الذي أنبته‏,‏ بناء علي نمط إنتاجه الاقتصادي‏,‏ ومحيطه الثقافي المحلي‏,‏ إلي غير ذلك من محددات تاريخية تحققت فيها تجلياته‏.‏
يتصارع مع أية محاولة جديدة لمعالجة نظرية الأنواع الأدبية‏,‏ في ثقافتنا العربية‏,‏ عدد من الصعوبات‏,‏ أهمها ثبات الجهد التنظيري في مسألة الأنواع الأدبية علي اجتهادات الأنواع الأدبية الأوروبية الكلاسيكية الراسخة‏,‏ دون الاهتمام بغيرها من نصوص وتجليات أدبية وفنية تنتمي إلي ثقافات غير أوروبية‏,‏ بحيث إننا لا نعدو الحق إذا قلنا إن قوانين النوع القائمة‏,‏ وأصوله‏,‏ قد اعتمدت علي إرث تاريخي غربي‏,‏ قام التنظير فيه علي التحديق إلي ذاته الإبداعية‏,‏ دون غيرها‏,‏ أكثر من اعتماد هذه القوانين علي استقراء أفقي‏,‏ يتسع لتجليات أكبر عدد ممكن من الأنواع في بيئاتها الثقافية العديدة‏,‏ من أجل تحديد الثوابت المشتركة بين مختلف أساليب النوع الأدبية أو الفنية‏,‏ علي اختلافها الثقافي‏,‏ واختلافاتها الأسلوبية‏,‏ وهو استقراء ضروري لتحديد شعرية نظرية صحيحة لمسألة النوع الأدبي‏,‏ ونقصد بالشعرية هنا تلك‏'‏ المحاولة التي نقوم من خلالها بتفسير التأثيرات الأدبية عن طريق وصف تقاليدها‏,‏ وقراءة العمليات التي تجعلها ممكنة‏,‏ وهي عملية مرتبطة في نظر عدد من النقاد بالبلاغة‏'‏ التي اهتمت بدراسة وسائل اللغة الإقناعية والتعبيرية‏,‏ منذ العصور الكلاسية‏;‏ أي تقنيات اللغة والفكر‏,‏ التي يمكن أن تكون مستخدمة لتشييد الخطابات التأثيرية‏',‏ كما يذهب إلي ذلك الناقد البنيوي الأمريكي جوناثان كللر‏(1944).‏
وبالرغم من صعوبة تجريد واقع التجربة الأدبية‏,‏ أو الفنية من سياقها التاريخي‏,‏ فإنني أري أن نزع أولولية الخصوصية الثقافية من مفهوم النوع يقودنا إلي علم دراسة النوع من منظور كلي‏,‏ أكثر اتساعا وشمولا‏,‏ فوجود نموذج عام للنوع‏,‏ لا يعني إلغاء ما يسمي الخصوصية الثقافية‏,‏ بقدر ما يعني التعرف علي حدود اشتغال هذه الخصوصية علي المستوي الجمالي‏!‏
علي جانب آخر‏,‏ كثر ما نظر إلي النوع من مستواه النصي‏,‏ دون أن يوضع في الحسبان أهمية عامل التلقي في تحديد هوية النص الأدبي‏,‏ هذا برغم أهمية دور التلقي في أية دراسة علمية للنوع‏,‏ فلكل متلق نص‏,‏ أما المكتوب فنص واحد‏,‏ فضلا عن أن ما يظن أنه أصل تفسيري أو تأويلي يكون محملا بمئات التأويلات الكامنة الأخر‏,‏ التي قد تغير درجة الانتماء النسبي‏,‏ باختلاف زمان التلقي‏,‏ ومكانه‏,‏ وهذا ما يمنح الحكم علي انتماء عمل أدبي أو فني ما إلي نوع بعينه نسبيته المتغيرة‏,‏ بسبب تغير منظور كل نوع علي المستوي الزمني التعاقبي عند تلقيه‏,‏ وهو أمر يثبت خطأ التعويل علي سمات النص الأدبي أو الفني الجمالية وحدها‏,‏ بمنأي عن زمان تلقيها ومكانه‏..‏
من أجل هذا تأتي أهمية أن نعيد النظر إلي مشكلات النوع الأدبي من خلال آليات التلقي‏,‏ هذا إذا تحرينا أن نفهم نظرية النوع في اتساعها‏,‏ في ظل التعدد التأويلي الذي قد يقبله كل نوع أدبي أو فني من خلال سياقه التاريخي‏,‏ وخصوصيته الثقافية‏,‏ وذلك بسبب قدرة التجليات الأدبية أو الفنية المعاصرة علي قبول أكثر من معيار للانتماء النوعي‏,‏ من هنا يكون التلقي عاملا مهما في تحديد النوع‏,‏ بل إنه أهم عنصر يضمن تلاحم البني الأسلوبية والشعرية في النص‏,‏ وذلك بما يقوم به من تنظيم إدراكنا للنص‏,‏ الأمر الذي يمنح الرسالة الأدبية أو الفنية تماسكها التأويلي والدلالي‏..‏
وبالرغم من شيوع نظريات النوع القائمة علي إرث أوروبي لم يزل يحدق إلي ذاته الإبداعية‏,‏ والنقدية‏,‏ محاولا فرض ثقافته النسبية بصفتها حضارة‏,‏ لها صفة الإطلاق‏!‏ فإن هذه النظريات السائدة لم تزل عاجزة عن استيعاب كل التجليات المتحققة في النصوص الإبداعية والنقدية‏,‏ قديمة كانت أو معاصرة‏,‏ وذلك لاختلاف السمات الجمالية لكل بيئة ثقافية عن بيئة ثقافية أخري‏,‏ هذا فضلا عن وجود تنوع هائل في الأعمال الأدبية والفنية‏,‏ وأساليب إنتاجها‏,‏ ومفهوماتها التي تخرج عن تعريف الأنواع الأوروبية القارة‏,‏ حيث تظل لكل تقسيم نوعي قائم استثناءات كثيرة‏,‏ لا يضمها المفهوم المعتاد للنوع‏.‏ هذا بالإضافة إلي عجز الأطروحات القائمة عن تفسير التغيرات التي تطرأ علي النصوص الأدبية أو الفنية‏;‏ ويظل طرح مسألة النوع بالنسبة إلي أجناس غير أدبية‏,‏ أو نشاطات خطابية شفهية‏,‏ تعتمد علي الفرجة الشعبية‏,‏ في نظريات النوع الكلاسية أمرا نادراعلي الدوام‏.‏
ونذهب هنا إلي أن تشابك آلاف التجليات النصية المعبرة عن نوع واحد‏,‏ في سمات دنيا‏,‏ علي الرغم من اختلاف شكولها الجمالية‏,‏ ومكوناتها الأسلوبية‏,‏ أمر ممكن دائما‏,‏ ويشكل جزءا من نموذج نووي واحد تشترك فيه مختلف الصناعات والشعريات العديدة لنوع ما‏,‏ من هنا يكون سؤالنا مشروعا عن نوع يقوم علي نواة ثابتة‏,‏ نوع نووي يتسم بقبول الآخر‏,‏ يؤسس الطريقة المنهجية لما هو مشترك ومتقاطع بين النصوص الجمالية والأسلوبية العديدة‏,‏ من خلال البحث عن نموذج نوعي يجاوز شعرياته المختلفة‏,‏ ويكون قادرا علي جمع ثوابت هذه النصوص المختلفة وتجلياتها‏,‏ ذات الخصوصيات الثقافية المتعددة‏,‏ في سبحة واحدة‏.‏ الأمر الذي يصعب القيام به إلا عبر الإمساك بالأشكال الكلية للنوع‏,‏ أي الإمساك بالبنية النوعية التي تتشكل عبرها‏,‏ أو انطلاقا منها بقية البنيات‏.‏
وهذا ما يلزم أي اجتهاد تنظيري بإعادة اختبار المفهومات الأولية‏,‏ علي نحو يكون فيه الواقع الأدبي في شموليته مرجعا للفهم‏,‏ وهو السبيل الصحيح‏,‏ وربما الوحيد‏,‏ الذي يمكن من خلاله مراجعة فهمنا لنظرية النوع الأدبي أو الفني‏,‏ وذلك عبر الاهتمام بالأساس المشترك في عديد التجليات الإبداعية المختلفة لكل نوع‏,‏ قياسا علي ثوابت عالمية واسعة في الظاهرة المدروسة‏.‏ أي أن نموذجنا فيما نسميه النوع النووي في حقيقته‏,‏ لا ينفي حقل الشعريات المقارنة‏,‏ ولكنه يحد من نسبيته المطلقة‏!‏ ويحصر الاختلاف‏-‏ من خلال بنية النموذج الكلية‏-‏ في إطاره الجمالي‏,‏ لا البنيوي‏..‏

المصدر: مؤسسة الأهرام
azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 60/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
20 تصويتات / 33 مشاهدة
نشرت فى 14 فبراير 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,794,687