حـوار الثقافـات

في "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني

أحمد بوحسن

ملخص البحث:

يقوم هذا العرض على استحضار لحظة من لحظات تاريخنا الثقافي والحضاري العربي والإسلامي، وذلك للوقوف على تجربة غنية من تجارب تعامل الثقافة العربية الإسلامية مع الثقافات الأخرى. وقد وجدنا في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني نموذجا من أرقى النماذج الثقافية والحضارية التي عبرت بعمق عن حوار الثقافات في ظل الحضارة العربية الإسلامية.

والفرضية التي يقوم عليها هذا العرض، هي أن الثقافة العربية والإسلامية ليست ثقافة منغلقة على نفسها، وليست متحجرة، وإنما هي ثقافة منفتحة ومتسامحة وقادرة على التعايش مع مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية، أخذا وعطاءا. وذلك للتدليل على أصول هذه الثقافة، وعلى طبيعتها القابلة للتطور والعطاء، في ظل التطورات العالمية المعاصرة، ما دامت أصولها كذلك. كما أن تجاربها التاريخية تدل على ذلك. وتجربة كتاب الأغاني واحدة من أهم تلك التجارب.

لقد تمثل كل ذلك في استعراض الأصفهاني لأنساب المؤلفين والمؤلفات ولصفاتهم الخُلقية والخَلقية ولإنتاجاتهم، التي وجدت قابلية تداولية في المجتمع العربي والإسلامي الذي تحدث عنه الأصفهاني، دونما اعتبار لأصولهم العرقية أو اللون أو المكان أو الزمان أو الدين، أو للموضوع أحيانا، ما دام الإنتاج الفني يتوفر على قدر من الفنية والجمالية التي اعترف له بها أصحاب الصنعة الغنائية والشعرية. كتاب الأغاني نموذج لتعدد الأصوات التي كانت تتعايش في ظل الحضارة العربية الإسلامية إلى حدود القرن الرابع الهجري، العاشر الميلادي. لذلك فإن تجربة الأغاني تدلنا على الأصول الإنسانية للثقافة العربية الإسلامية؛ من حيث قابليتها للتساكن والتحاور مع الآخر وثقافة الآخر كيفما كان جنسه أو لونه أو دينه أو لغته. وكذلك قابليتها للتطور واستيعاب المستجدات الإنسانية المعرفية والعلمية والفنية.

1 – لماذا الثقافة؟

لعل الذي يدعونا إلى اللجوء إلى الثقافة هو حاجتنا إلى البحث عن المشترك الإنساني، وعن العنصر الجامع بين بني الإنسان، وبالخصوص حينما ندرك بأننا بدأنا نفتقد ذلك الخيط الرابط بين المجموعة البشرية. والمفهوم الأنثروبولوجي للثقافة يركز على هذا المشترك بين المجموعة البشرية، لأنه هو الذي جعل من الإنسان كائنا متميزا عن سائر الكائنات الحية الأخرى. فالإنسان يسعى دائما وباستمرار إلى الاجتماع وتكوين مجتمعه، بل ويبحث دائما عن تغيير مجتمعه وتطويره.

الثقافة بهذا المعنى تقوم على بناء التواصلات وتجديدها، تحقيقا لاستمرارية الإنسان وبحثا عن وضع أحسن لوجوده. ولتحقيق تلك التواصلات والبناءات المشتركة، لا بد من تحريك المشترك الإنساني في الثقافة. والمشترك الثقافي الإنساني يقوم أساسا على الحوار والحوارية التي تميز كل ثقافة، وإلا فقدت ثقافيتها، وبالتالي إنسانيتها(1).

الحوار كما جاء في اللغة العربية، يفيد الرجوع على الشيء، وعن الشيء. والتحاور هو التجاوب. هم يتحاورون، أي، يتراجعون الكلام. والمحاورة، مراجعة المنطق والكلام في المخاطبة، أي المجاوبة. وهذا يعني أن الحوار في اللغة العربية يفترض فسح المجال للآخر ليتم التجاوب، ومن ثم إنتاج الخطاب.

وللحوار تاريخ هام وطويل في المجال الفلسفي اليوناني والإسلامي، وما تولد عنه من مفاهيم الكلام والمناظرة والمجالسة والاحتجاج. وكلها أنتجت الاختلاف في مختلف أنواع الإقناع، وطورت المعرفة الإنسانية، وأنواع التواصل الإنساني. الحوار إذا ينتج الاختلاف، أي غنى الآراء والأفكار والتصورات المرتبطة باختلاف المتحاورين في أصولهم الثقافية واللغوية والمرجعية التي لا بد من مراعاتها عند الحوار، ريثما يتم الوصول إلى بناء المشترك الإنساني من كل ذلك.

المشترك الإنساني هو هذه القدرة على التواصل التي تشكل القوة الدافعة لكل ثقافة، وإلا فقدت صفتها، وبالتالي ثقافيتها، فترتد إلى ما هو غير ثقافي، أي غير إنساني؛ من تعصب وتحجر وتعال وتفرد. ولا شك أن هذا يؤدي في النهاية إما إلى العزلة أو إلى الغرور الإنساني؛ العرقي أو الحضاري، مما يؤدي إلى الكوارث الإنسانية التي عرفها التاريخ البشري القريب والبعيد. لا شك أن مسائلتنا لمشتركنا الإنساني المتمثل في ثقافيتنا هو الكفيل بخلق لغة حوارية بين الشعوب والحضارات. ثم يدرأ كل فكر صدامي يحاول أن يلغي الآخر أو يقلل من قيمته الثقافية والحضارية بأي دعوى من الدعاوي التي لا تصمد أمام التجارب الحضارية الإنسانية المختلفة. ولما كانت الحضارة العربية الإسلامية من الحضارات الإنسانية الكبرى، فإن في تجاربها مع الثقافات الإنسانية ما يدل على احترامها للمشترك الإنساني الثقافي، بل وقابليتها للتحاور والتفاهم مع مختلف الثقافات الإنسانية التي كانت تعيش في ظلها. وفي ذلك ما يدفع عنها كل ما يراد لها من وصفها بصفات لا علاقة لها بها في أصلها؛ كالتحجر وعدم قابليتها للتطور أو عدم قابليتها للتحاور مع الثقافات الأخرى، وغير ذلك من الأوصاف التي لا تخفى أبعادها الإيديولوجية والسياسية والاقتصادية. وسنحاول هنا أن نقدم تجربة من تجارب الثقافة العربية الإسلامية في علاقتها مع الثقافات الإنسانية الأخرى، وهي تجربة أبي الفرج الأصفهاني في كتابه الهام كتاب الأغاني.

2 – كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني:

كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني (284-356هـ)(2) من أمهات الكتب العربية القديمة. ويعرف أحيانا بـ: كتاب الأغاني الكبير، كما وصفه بذلك ابن النديم في الفهرست، فقال عندما تحدث عن مؤلفات الأصفهاني: (وله من الكتب كتاب الأغاني الكبير نحو خمسة آلاف ورقة، كتاب مجرد الأغاني..)(3). وتلحق به صفة الكبير، في الغالب، لتمييزه عن كتاب آخر للأصفهاني يحمل نفس الاسم تقريبا، وهو كتاب مجرد الأغاني. ويبدو أن هذا الكتاب الأخير كان قد وضعه الأصفهاني قبل كتاب الأغاني الكبير، بدليل قوله نفسه في مقدمته للأغاني: (ولم يستوعب كل ما غني به في هذا الكتاب ولا أتى بجميعه، إذ كان قد أفرد لذلك كتابا مجردا من الأخبار ومحتويا على جميع الغناء المتقدم والمتأخر)(4). غير أن كتاب مجرد الأغاني لم يصل إلينا، ولا نعرف عنه الشيء الكثير، كما تذكر جل المصادر التي تعرضت للأصفهاني ومؤلفاته. كما أن إشارات أخرى قد وردت في أماكن أخرى من كتاب الأغاني(5).

لم يكن كتاب الأغاني للأصفهاني هو أول كتاب سمي بهذا الاسم، لأن التأليف في الأغاني، ووضع الكتب فيها كان أمرا معروفا قبل الأصفهاني. فصاحب الفهرست يذكرنا بمجموعة من الكتب باسم الأغاني. غير أن كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني هو الذي بقي معروفا ومشهورا بهذا الاسم. وقد أشار الأصفهاني في الأغاني إلى العديد من الكتب التي ألفت في الغناء، مثل قوله: (فقد ألف جماعة من المغنين كتبا، منهم، يحيى بن المكي، وكان شيخ الجماعة وأستاذهم)(6). ومن أشهر الكتب التي ألفت في الغناء واتخذت بدورها اسم الكتاب الكبير، كتاب الفارابي، بعنوان: "كتاب الموسيقى الكبير"(7).

ولعل الكتاب المنسوب إلى إسحاق الموصلي (150-235هـ) المعروف بـكتاب الأغاني الكبير، هو الذي سيدفع الأصفهاني إلى التأليف في هذا الموضوع، ووضع كتاب يستحق اسم الأغاني الكبير؛ ذلك أن الكتاب الذي وضعه إسحاق الموصلي لا يرقى إلى اسم كتاب الأغاني الكبير، لما لحقه من عيوب كثيرة ستدفع أحد رؤساء الأصفهاني، وهو الوزير المهلبي (291-352هـ)، الذي كان أبو الفرج منقطعا له، ليطلب منه أن يؤلف كتابا يستحق اسم كتاب الأغاني الكبير. يقول الأصفهاني: (والذي بعثني إلى تأليفه أن رئيسا من رؤسائنا كلفني جمعه، وعرفني أنه بلغه أن الكتاب المنسوب إلى إسحاق مدفوع أن يكون من تأليفه، وهو مع ذلك قليل الفائدة، وأنه شاك في نسبته، لأن أكثر أصحاب إسحاق ينكرونه، لأن ابنه حماد أعظم الناس إنكارا لذلك. وقد لعمري صدق فيما أنكره)(8).

هكذا يرجع سبب تأليف الأصفهاني لكتاب الأغاني إلى ما كان يدور حول كتاب إسحاق الموصلي؛ إذ كانت بعض عيوبه قد تكشفت، ولم يعد كتابا ثقة يعتمد عليه. ولهذا طلب المهلبي من أبي الفرج أن يضع كتابا في الأغاني يعوض به كتاب إسحاق، الموسوم بكتاب الأغاني الكبير، ويصبح كتابا ثقة لا ترقى إليه الشكوك، وتعظم فائدته. وهنا يبدو أن أمر التأليف في الأغاني كان أمرا مهما في زمن أبي الفرج بل حتى قبله. فلما كان الرئيس، المهلبي، وهو صاحب الشأن العام، وصاحب الشأن السياسي، يهتم بما يدور بين الناس في شأن كتاب الأغاني لإسحاق الموصلي، ويبلغه ما بلغه منه، ثم يطلب من الأصفهاني أن يصلح هذا الأمر بوضع كتاب يستحق اسم الأغاني، ويرضي انتظارات الناس في شأن الأغاني، فإن هذا يدل على الحظوة التي كانت للأغاني عند الناس وعند الرئيس كذلك، أو عند الخاصة والعامة. وهل كان الاهتمام بالذوق العام إلى هذا الحد؟ يبدو أن الأمر كان كذلك، لأن الذوق العام مثل الرأي العام، قد تكون له عواقب غير متوقعة في الحياة العامة. أم أن الخوف من الوضع كيفما كان نوعه، وفي أي فن من الفنون من القول، كان أمرا غير مقبول، وكان يشين صاحبه؟ لا شك أنه كما كان الوضع مستهجنا وغير مقبول في المجال الديني، فإنه كان كذلك في المجالات الثقافية والإنسانية الأخرى. ونحن هنا غير بعيدين عن زمن التدوين الذي عرف كثيرا من مشاكل الوضع في مختلف المعارف العربية الإسلامية؛ الدينية والأدبية.

يبدو أن وضع كتاب في الأغاني يقوم على صنعة جيدة، غير مشكوك فيه، ويلبي طموحات الناس الفنية ويعبر عن أحاسيسهم أكثر، وتعظم فائدته بين الناس، هو أمر غير هين في الحياة العربية الإسلامية في ذلك الوقت، كما أن صاحب الشأن العام أو السياسي، ما عليه إلا أن يولي اهتماما خاصا بهذا الأمر، لأنه من المقومات الحضارية الأساسية التي كان يعلو بها شأن السلطان، وبه تعظم المقومات الاجتماعية والفنية التي يقوم عليها المجتمع العربي الإسلامي، بل هو إحدى ركائزه الحضارية والثقافية. وفي الاهتمام بفن الألحان والأشعار اهتمام بأرقى الفنون الإنسانية التي تعبر عن المشترك الثقافي بين الناس بمختلف مشاربهم اللغوية والعرقية والدينية. وفي تركيز أبي الفرج على هذا الجانب الثقافي ما يدل على رهافة الإحساس الفني والإنساني لصاحب الأغاني وللثقافة العربية الإسلامية في النهاية التي تشبع بها صاحب الأغاني(9).

3 – حوار الثقافات في الأغاني:

يقوم حوار الثقافات على مفهوم التعدد الثقافي الذي يعتمد أساسا على استماع كل صوت ثقافي إلى الصوت الآخر. حسن الاستماع إلى الآخر هو جوهر كل حوار إنساني يحترم فيها الواحد الآخر. ولعل هذا هو المبدأ الديموقراطي الأسمى، الذي يعبر عنه بحسن الاستماع إلى الآخر. ولعل فن الألحان والأشعار هو المشترك الإنساني الذي يمكن للثقافة أن تمارس فيه ذلك الفن. لقد اختار الأصفهاني فنا يمكن أن تختبر فيه الثقافة العربية الإسلامية قدرتها على الاستماع والاستماع بالآخر في نفس الوقت. فكيف عبر عن ذلك؟

عندما نستعرض كيف تعامل صاحب الأغاني مع الألحان والأشعار وأصحابها، والمقاييس التي اعتمد عليها في ذكر اللحن أو الشعر أو حتى الخبر، فإن أول ما يستوقفنا هو اعتماده على مقياس فني واحد هو أساس نسق الكتاب كله، وهو المقياس الفني، الذي يقوم على جودة اللحن والشعر الذي قيل فيه اللحن، والمعترف به من أصحاب الصنعة، سواء كان رجلا أو امرأة ومن أي طبقة كان أو من أية طبقة كانت. وكذلك سواء كان قديما أو حديثا أو عربيا أو غير عربي، مسلما أو غير مسلم، من البادية أو الحاضرة، أبيض أو أسود.. ولذلك جاء ترتيبه للشعراء في الأغاني ترتيبا لا يراعي السبق الزمني المعروف في التاريخ الأدبي العربي، الذي يعطي الأسبقية للجاهلي ثم الإسلامي فالأموي فالعباسي. هذا المفهوم تغير في الأغاني، بحيث نجده يبدأ كتابه بشاعر أموي، وهو ابن قطيفة، وينهي الجزء الرابع والعشرين بشاعر جاهلي، وهو المتلمس.

إن هذا المبدأ الفني هو الذي يجعلنا منذ البداية نقف أمام مفهوم ثقافي عميق يسمح لتواجد كل الأصوات وتحاورها في ظل مقياس إنساني عام، يرتاح له كل من له حظ من الثقافة اللحنية والشعرية. إنه إذا هو المشترك الإنساني الذي تقوم عليه الثقافة الإنسانية. ومن تجليات الحوار الثقافي في الأغاني، نذكر ما يلي:

1 – ترجمة الأصفهاني للمؤلفين:

كتاب الأغاني كما وصفه ابن خلدون، هو ديوان العرب(10). ويمكن أن نضيف بأن الأغاني هو ديوان العرب في الألحان والأشعار، أو هو الديوان الثقافي لهم. فقد ترجم فيه لعشرات المئات من المغنين والمغنيات والشعراء والشاعرات، كما ذكر أخبارا كثيرة مرتبطة بكل ذلك. هو في النهاية إسطوغرافية للبيوغرافية العربية الإسلامية الخاصة بالألحان والأشعار والأخبار. وعن طريق عرضه للمؤلفين نستطيع أن نخلص إلى ما يلي:

ـ أن المؤلف كان يقدم المؤلف بذكر نسبه وصفاته الخلقية والخلقية، وعلاقاته المختلفة، وإنتاجاته الفنية في الألحان أو الأشعار.

ـ أن المؤلف كان يذكر بمعتقده الديني، كيفما كانت عقيدته، ولكنه كان يركز أكثر على إنتاجه الفني والثقافي.

ـ كان يشير أحيانا إلى اللغات التي كانت تتعامل معها العربية، مثل الفارسية والسريانية واللغات المحلية، أو اللغات الخاصة، التي تختلف عن اللغة العربية.

ـ كان يشير إلى بعض الممارسات الفنية والاجتماعية للحضارات الأخرى، التي كانت تتعايش مع الحضارة العربية.

1-1- نسب المؤلف:

كان الأصفهاني يركز على نسب المؤلف الذي يترجم له، عربيا كان أو غير عربي، مسلما أو غير مسلم. بل كان يقدمه حتى ولو كان يخالفه الرأي أو المذهب، أو حتى إذا كان يخرج عن المتعارف العربي أو الإسلامي أحيانا.

يقدم المؤلف بذكر نسبه، ويحاول أن يستجمع كل ما يعرف عنه في أصوله وفروعه، بل ويتطرق أحيانا إلى نسب أمه، أو نسب ولائه إذا كان مولى، أو يذكر بعض أصوله إذا لم يكن عربيا أو مسلما. والنموذج المتبع في ذكر النسب هو ذكر أصوله وفروعه وإرجاع نسبه إلى الأصل الأول للنسب إذا وجد إلى ذلك سبيلا. فترجمته للشاعر ابن قطيفة، وصل بنسبه إلى آدم(11). وعند غيره من الشعراء العرب كان يصل بنسبهم إلى نزار أو قحطان. وعن الذين لا يعرف عنهم كثيرا كان يقتصد في نسبه. وإذا كان الأصفهاني من النسابة العرب وله تآليف في الأنساب(12)، فإنه كان يطيل في الأنساب العربية كثيرا، ولكنه مع ذلك فقد أظهر حسن اطلاعه على الأنساب غير العربية. ومن الأمثلة على ذلك نشير إلى تأكيده على ديانة المؤلف، ولكنه مع ذلك لا يتعرض لدينه بسوء، ولو اختلف الناس معه في بعض تصرفاته، شريطة أن يكون إبداعه مقبولا.

يقول عن الأخطل مثلا: (كان الأخطل نصرانيا من أهل الجزيرة.. سئل حماد الراوية عن الأخطل فقال: ما تسألوني عن رجل قد حبب شعره إلي النصرانية)(13).

ويقول عن نابغة بني شيبان، وهو شاعر أموي: (كان نصرانيا لأنه كان يحلف بالإنجيل والرهبان وبالأيمان التي يحلف بها النصارى)(14).

ويقول عن أعشى ميمون: -كان الأعشى قدريا.. أخذ ذلك من نصارى الحيرة.. كان نصرانيا وعلى ذلك مات)(15).

ويقول عن أبي زبيد: (كان أبو زبيد نصرانيا وعلى دينه مات.. كان من زوار الملوك وخاصة ملوك العجم، وكان عالما بسيرهم، ومع ذلك كان عثمان بن عفان يقربه ويدنيه من مجلسه)(16).

ومن الشعراء الذين أطال فيهم الحديث أبو الفرج بشار بن برد. فرغم ما اتهم به من زندقة، بل وقتل بسببها، فإن شعره كان شائعا في الناس، وكان معترفا به، وهو من أصل أعجمي، يقول الأصفهاني. على لسان راوية بشار بن برد: (قال: لما دخلت على المهدي قال لي: فيمن تعتد يا بشار؟ فقلت: أما اللسان والزي فعربيان، وأما الأصل فعجمي كما قلت في شعري يا أمير المؤمنين:

ونبئت قوما بهـم جنــــة          يقولون من ذا وكنت العلـم

ألا أيها السائلي جاهـــدا          ليعرفني أنـا أنــف الكـــرم

        نمت في الكرام بني عامر        فروعي وأصلي قريش العجم) (17).

لقد حاول بشار هنا أن يربط بين الأصول الأصيلة في الثقافة العربية والثقافة الفارسية، من جعله من قريش نموذجا مثاليا يتم فيه التصالح بين الأصول المختلفة، لأن قريشا اكتسبت قيمتها في الثقافة العربية من تاريخها ومن انتماء النبي محمد صلى الله عليه وسلم إليها. والأصفهاني قد اهتم ببشار الشاعر الفنان، وما قدمه للثقافة العربية، بل وما أغنى به هذه الثقافة من أصوله الأعجمية كما قال.

هذه بعض النماذج فقط من كتاب الأغاني عن الشعراء الذين كانت عقيدتهم نصرانية، وهم كثيرون، سواء في الجاهلية أو في العصر الإسلامي، ولكنهم عوملوا معاملة سمحة في ظل الحضارة العربية الإسلامية. كما نالوا حظوتهم عند الناس من خلال إنتاجهم الشعري، والفني الذي كان مشبعا بالروح الإنسانية التي كان يتلقاها العربي المسلم بصدر رحب رغم ديانته المختلفة. وأعظم دليل على ذلك ما أشرنا إليه من قبل من تقريب الخليفة عثمان بن عفان للشاعر أبي زبيد النصراني من مجلسه. والأمثلة على ذلك كثيرة.

أما الشعراء اليهود فقد ذكر منهم الأصفهاني من وضعت الألحان في أشعارهم، وذكر أنسابهم ونماذج من شعرهم وبعض أخبارهم. ولم يكن الأصفهاني أول من ذكر الشعراء اليهود، لأن ذلك كان شأنا عربيا إسلاميا يعترف لهم بإنتاجهم الشعري بخاصة. ولكن الأصفهاني يتميز عن غيره بالاعتراف للشعر اليهودي في مجال الألحان التي كانت تتغنى به. والعربي المسلم كان لا يتورع في ذكر تلك الأشعار وحفظها، ولا يميزها عن الأشعار العربية، أو ألحانها، أو ينبذها، ما دامت تعبر عن الحس الإنساني الذي يلامس جانبا من الجوانب الثقافية الإنسانية، التي كان يلتقطها العربي المسلم بحسه المرهف لكل ما هو فني، رغم ديانته اليهودية. وهذا جانب آخر من جوانب السماحة للثقافة العربية الإسلامية التي كانت ترحب بكل ثقافة مختلفة ما دامت تخدم الجانب الإنساني السامي الذي هو تهذيب الذوق. ومن الشعراء اليهود الذين وضعت في أشعارهم الألحان، والتي كانت متداولة بين الناس، نذكر:

ـ غريض اليهودي: يقول أبو الفرج عن نسبه: (وغريض هذا من اليهود من ولد الكاهن بن هارون بن عمران صلى الله عليه وسلم، وكان موسى عليه الصلاة والسلام وجه جيشا إلى العماليق وكانوا قد طغوا وبلغت غاراتهم إلى الشام وأمرهم إن ظفروا بهم أن يقتلوهم أجمعين فظفروا بهم فقتلوهم أجمعين سوى ابن ملكهم كان غلاما جميلا فرحموه واستبقوه، وقدموا الشأم بعد وفاة موسى عليه السلام فأخبروا بني إسرائيل بما فعلوه؛ فقالوا: أنتم عصاة لا تدخلوا الشام علينا أبدا، فأخرجوهم عنها. فقال بعضهم لبعض: ما لنا بلد غير البلد الذي ظفرنا به وقتلنا أهله، فرجعوا إلى يثرب فأقاموا بها وذلك قبل ورود الأوس والخزرج إياها عند وقوع السيل العرم باليمن. فمن هؤلاء اليهود قريظة والنضير وبنو قينقاع وغيرهم، ولم أجد لهم نسبا فأذكره لأنهم ليسوا من العرب فتدون العرب أنسابهم، إنما هم حلفاؤهم. وقد شرحت أحبارهم وما غني به من أشعارهم في موضع آخر من هذا الكتاب)(18).

وقد ذكر الأصفهاني في الجزء الثاني والعشرين من الأغاني مجموعة من الشعراء اليهود الذين وضعت الألحان في بعض أشعارهم، وهم: أوس بن دبي من بني قريظة، والسموءل بن عاديا، وسعية ابن عريض، والربيع بن أبي الحقيق، وكانت مجازاة شعرية بينه وبين النابغة(19)، وكعب بن الأشرف(20).

والملاحظ عن ذكر الأصفهاني للشعراء اليهود أنه لم يذكر لنا سوى شعرهم الذي كان متداولا في الثقافة العربية الإسلامية، وأن المغنين العرب المسلمين قد وضعوا ألحانا عربية فيها دونما النظر إلى أصحابها أو إلى دينهم. فقد وضع ابن صاحب الوضوء لحنا في شعر غريض اليهودي(21). كما وضع ابن محرز لحنا في شعر السموءل بن عاديا(22). ووضع ابن محرز وابن سريج لحنا في شعر سعية بن عريض بن عاديا أخو السموءل(23). وغنى ابن محرز من شعر الربيع بن الحقيق(24)، كما غنى مالك من شعر لكعب بن الأشرف اليهودي(25). هذه الألحان التي وضعها كبار المغنين العرب المسلمين في أشعار اليهود تدل على أن الثقافة العربية الإسلامية كانت ترحب بكل ثقافة فنية تملك قسطا من الجمالية التي تسمح لها بالتداول بين الناس، بغض النظر عن صاحبه وديانته.

ونظرا لاعتراف الثقافة العربية بالقيم الإنسانية التي تجدها في الديانات الأخرى، فإننا نجد الأصفهاني يذكرنا باعتراف أبي سفيان بيهودي قراه وقال فيه شعرا. يقول الأصفهاني: (والأبيات التي فيها الغناء يقولها (أبو سفيان) في سلام بن مشكم اليهودي، ويكنى أبا غنم. وكان نزل عليه في غزوة السويق، فقراه وأحسن ضيافته، فقال أبو سفيان فيه:

سقاني فرواني كميتا مدامــــة         على ظمأ مني سلم بن مشكم

تخيرته أهل المدينة واحــــــدا         سواهم فلم أغبن ولم أتنــــدم

فلما تقضى الليل قلت ولم أكن         لأفرحه أبشر بعرف ومغنـــــم

     وإن أبـــــا غـنـــم يجـــود وداره        بيثرب مأوى كل أبيض خضرم)(26

 

وهذا الشعر في هذا اليهودي يدل على الاعتراف بالجميل من طرف العربي أبي سفيان الذي كان سيد قومه. ويدل أيضا على تسجيل كرم اليهودي في ديوان العرب الذي كان لا يسجل فيه إلا من كان له حظ كبير في الحياة العربية. ولم يمنع دين اليهودي أبا سفيان في أن يخصه بما يخص به أي عربي، ما دام قد قدم له خدمة إنسانية وجدت صدى في نفسه. فلو كان عنصريا أو قليل المروءة لما خصه بأرفع فن كان يعتز به العربي وهو الشعر.

ومن الشعراء السريان الذين ذكرهم الأصفهاني، أبو ذؤيب، وهو شاعر مخضرم، جاهلي إسلامي. يقول عنه الأصفهاني: (أخبرني أبو خليفة قال حدثنا محمد بن سلام قال: أخبرني محمد بن معاد العمري قال: في التوراة: أبو ذؤيب مؤلف زورا، وكان اسم الشاعر بالسريانية "مؤلف زورا". فأخبرت بعد ذلك بعض أصحاب العربية، وهو كثير بن إسحاق، فعجب منه وقال: قد بلغني ذاك. وكان فصيحا كثير الغريب متمكنا في الشعر)(27). لم يمنع إذا الأصل السرياني لأبي ذؤيب أن يكون متمكنا من الشعر ويعترف له بذلك في الثقافة العربية.

هذه بعض الأمثلة من تعامل الأصفهاني مع المؤلفين من مختلف الديانات ومن مختلف الأجناس. وكلهم وجدوا مكانتهم في ظل الثقافة العربية الإسلامية، ودخلت معارفهم الفنية في سجلها، دونما تمييز أو إقصاء أو الغض منها، حتى إن القارئ لا يحس بأي اختلاف بينها وبين سائر الأشعار الأخرى.

أما المغنيون والمغنيات الذين تعرض لهم الأصفهاني في كتابه، وهو الموضوع الأصلي للكتاب فيكاد يكون معظمهم من أصول غير عربية، أو أنهم من الموالي أو أنهن من الجواري أو القيان. فالغناء العربي قد ارتبط بشكل وثيق بالغناء الفارسي بخاصة، والرومي، واليوناني. فجل المغنين الذين وضعوا الألحان العربية قد أخذوا ذلك في البداية من الأصل الفارسي ثم كيفوه مع الأشعار العربية، ومع الآلات العربية فيما يسمى بالمدرسة الغنائية العربية القديمة التي كانت تنسب إلى إسحاق بن إبراهيم الموصلي، تمييزا لها عن المدرسة الحديثة في الغناء التي كان يتزعمها إبراهيم بن المهدي.

فابن محرز المغني المشهور، مولى بني عبد الدار بن قصي، كان أبوه من سدنة الكعبة، وأصله من فارس. تعلم ألحان الفرس والروم، فأخذ محاسنها وألف الأغاني التي صنعها أشعار العرب فأتى بما لم يسمع مثله. وكان يقال له صناجة العرب. يقول عنه الأصفهاني: (وذكر إسحاق أنه كان يسكن المدينة مرة ومكة مرة، فإذا أتى المدينة أقام بها ثلاثة أشهر يتعلم الضرب من عزة الميلاء، ثم يرجع إلى مكة فيقيم بها ثلاثة أشهر. ثم شخص إلى فارس فتعلم ألحان الفرس وأخذ غناءهم، ثم صار إلى الشام فتعلم ألحان الروم وأخذ غناءهم، فأسقط من ذلك ما لا يحس من نغم الفريقين، وأخذ محاسنها، فمزج بعضها ببعض وألف منها الأغاني التي صنعها أشعار العرب، فأتى بما لم يسمع مثله. وكان يقال له صناجة العرب)(28).

وكذلك فعل ابن مسجح، وهو من المغنين المشهورين وصاحب الألحان المشهورة، ومن الذين نقلوا غناء الفرس إلى غناء العرب. قال عنه الأصفهاني: (سعيد بن مسجح أبو عثمان مولى بني جمح، وقيل: مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب. مكي أسود، مغن متقدم من فحول المغنين وأكابرهم، وأول من صنع الغناء منهم، ونقل غناء الفرس إلى غناء العرب، ثم رحل إلى الشام وأخذ ألحان الروم والبربطية والأسطوخوسية(29)، وانقلب إلى فارس فأخذ بها غناء كثيرا وتعلم الضرب، ثم قدم الحجاز وقد أخذ محاسن تلك النغم، وألقى منها ما استقبحه من النبرات والنغم التي هي موجودة في غناء الفرس والروم خارجة عن غناء العرب، وغنى على هذا المذهب، فكان أول من أثبت ذلك ولحنه وتبعه الناس بعد)(30). وكان ابن مسجح يعرف اللغة الفارسية، وهو من الذين أعتقهم غناؤهم. دعاه مولاه مرة وقال له: (يا بني، أعد ما سمعته منك علي، فأعاده فإذا هو أحسن مما ابتدأه به، فقال: إن هذا لمن بعض ما كنت أقول، أنى لك هذا؟ قال: سمعت هذه الأعاجم تغنى بالفارسية فثقفتها وقلبتها في هذا الشعر، قال له: فأنت حر لوجه الله)(31).

يبدو واضحا من هذه الأمثلة أن العلاقة بين الثقافة العربية والفارسية والرومية كانت علاقة تحاور والأخذ بما هو أحسن في كل ثقافة. فقد كان هؤلاء المغنون وأضرابهم من الذين ساهموا في خلق حوار فني وإنساني بين الثقافات المختلفة، مما أنتج ثقافة عربية إسلامية متعددة الأصول التي تبلورت بفضل المهارات الفنية للعناصر غير العربية مع المهارات العربية، وفي ظل حضارة عربية إسلامية تفتح المجال للطاقات الفنية لكي تقدم أحسن ما عندها. إن التعدد اللغوي والثقافي هو الذي أوصل الثقافة الفنية العربية الإسلامية إلى ما وصلت إليه من تحضر في القرن الرابع الهجري. وكل ما كان يؤتى به من الثقافات الأخرى كان يجد مكانته في ظل الحضارة العربية الإسلامية كلما كان في ذلك ما يغني هذه الثقافة.

2 – تعدد الأصوات واللغات:

المقصود هنا بتعدد الأصوات واللغات هو فتح المجال لكل ذي صوت أو لغة أن يعبر عن نفسه أو تعبر عن نفسها. ويمتاز كتاب الأغاني بمنح هذه الحرية في التعبير عن النفس من منظورها الخاص. فقد رأيناه يتيح الفرصة للعربي وغير العربي وللمسلم وغير المسلم وللحر والمولى وللأبيض والأسود. وبذلك تنوعت الألحان والأشعار والمعارف في النهاية، واغتنت بذلك الثقافة العربية الإسلامية. وهذا التعدد كان يقدمه المؤلف في تحاور مستمر فيما بين الأجناس، بحيث لم يكن تعددا تجاوريا فقط بل تعددا تحاوريا. ومما ساعد على هذا التحاور هو انفتاح أبي الفرج على مختلف اللغات واللهجات التي كانت تتعايش داخل المجتمع العربي الإسلامي. وساعده على ذلك إدراكه لقيمة اللغات الأخرى غير العربية. فقد كان هو نفسه يتقن اللغة الفارسية، لأنه هو أصله من مدينة أصفهان، كما كان يتقن السريانية.

ولكي يعبر الأصفهاني عن الحوار اللغوي في كتابه حاول أن يحافظ على لغة المتكلم الأصلية سواء كانت فارسية أو سريانية أو لهجة عربية خاصة. ومن هذه اللغات التي كانت تتحاور داخل الثقافة العربية الإسلامية التي تحدث عنها الأصفهاني نجد ما يلي:

2-1-اللغة الفارسية:

اهتم أبو الفرج باللغات المختلفة التي ظهرت في بعض النصوص والروايات، من جراء التداخل الثقافي والحضاري الذي عرفته الحضارة العربية الإسلامية. فتواجد الأجناس والأقوام المختلفة يؤدي بالضرورة إلى وجود لغات ولهجات مختلفة ومتنوعة. ولما كانت هذه هي الحقيقة التاريخية في الحضارة العربية الإسلامية، فإن الأصفهاني عبر عنها ليستدل على التسامح اللغوي وعدم النفور من لغة الآخر. وهذا نوع آخر من الحوار الثقافي الذي تجلى في الحوار اللغوي. كان الأصفهاني يشير إلى وجود الغناء بالفارسية إلى جانب الغناء بالعربية مثلما جاء في هذا الخبر:

ـ جاء في حديث الأصفهاني عن إسحاق الموصلي: (.. فلما دخلنا على الواثق قال له: يا سيدي، هذان غلامان اشتريا لي من خراسان يغنيان بالفارسية، فقال: غنيا، فضربنا ضربا فارسيا وغنينا غناء فهليذيا؛ فطرب الواثق وقال: أحسنتما، فهل تغنيا بالعربية؟ قلنا نعم، واندفعنا نغني ما أخذناه عن إسحاق وهو ينظر إلينا ونحن نتغافل عنه..)(32).

كما كان الأصفهاني يعرض أشعارا مختلطة بالعربية والفارسية ثم يشرح العبارات الفارسية، من ذلك ما جاء في قصيدة ضمن أخبار إسحاق الموصلي:

وهل أسمعن ذاك المزاح الذي به         إذا جئته سليت همي وأحزاني

إذا قال "يا مرد مي خر" وكرهــا         علي وكناني مزاحا بصفــــوان

 (هذا كلام بالفارسية تفسيره: يا رجل اشرب النبيذ)(33).

وقوله في شرح بيت آخر:

إذا فتحت فغمت ريحها                وإن سيل خمارها قال: خش

خش: كلمة فارسية تفسيرها طيب)(34).

2-2-السريانية:

أما السريانية فيبدو أن الأصفهاني كان يعرفها أيضا، وذكر بعض كلماتها التي جاءت في بعض الأشعار منها قوله:

فقال "إزل بالشين" حين ودعني             وقد لعمرك زلنا عنه بالشين

قوله: "إزل بالشين" كلمة سريانية، تفسيرها امض بسلام، دعا له بها لما ودعه)(35).

2-3-اللهجات:

اهتم الأصفهاني كذلك باللهجات التي كانت تتواجد في الثقافة العربية الإسلامية، فكان يشير إلى بعضها من حين لآخر. ونذكر من ذلك (أن الرشيد قال لبرصوما الزامر، وكانت به لكنة، ما تقول في ابن جامع؟ قال: زق من أسل (يريد عسل)، قال فإبراهيم؟ قال: بستان فيه فاكهة وريحان وشوك. قال فيزيد حوراء؟ قال: ما أبيد أسنانه! (يريد ما أبيض). قال فحسين بن محرز؟ قال: ما أهسن خظامه! (يريد ما أحسن خضابه). قال: فسليم بن سلام؟ قال: ما أنظف ثيابه)(36).

إن هذه الأمثلة تدل على وجود مختلف اللغات واللهجات داخل الثقافة العربية الإسلامية، وهي تعبر عن نفسها بصورتها الأصلية دون النفور منها، أو إلغائها أو التنقيص من قيمتها. ثم إن التعايش مع مختلف الثقافات قد وصل إلى العلاقات الإنسانية الحميمة؛ مثل الارتباط العاطفي بين أصحاب الديانات المختلفة. ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره الأصفهاني عن الشاعر والمغني المطبوع عبد الله بن العباس الربيعي، وكان يهوى جارية نصرانية، قال: (كان عبد الله بن العباس يهوى جارية نصرانية لم يكن يصل إليها ولا يراها إلا إذا خرجت إلى البيعة، فخرجنا يوما إلى السعانين، فوقف حتى إذا جاءت فرآها ثم أنشد لنفسه، وغنى فيه بعد ذلك:

صوت:

إن كنت ذا طب فداويـني           ولا تلم فاللوم يغريــــــني

يا نظرة أبقت جوى قاتلا           من شادن يوم السعانيـــن

ونظرة من ربرب عيـــــن          خرجن في أحسن تزييـــن

خرجن يمشين إلى نزهـة           عواتقا بين البساتيـــــــن

مــزنرات بهمــــاييهـــــا          والعيش ما تحت الهمايين

لحن عبد الله بن العباس في هذا الشعر هزج)(37).

وهناك نوع آخر من التحاور مع الثقافات والديانات التي عبر عنها الأصفهاني في الأغاني، ويتجلى في استلهام الشاعر لبعض المعاني التوراتية التي تدل على الانفتاح الثقافي على مختلف المرجعيات الدينية أيضا. يقول الأصفهاني عن مسلم بن الوليد: (أخبرني الحسين بن علي قال: حدثنا محمد بن القاسم بن مهرويه قال: حدثني الحسين بن أبي السري. وأخبرني بهذه الأخبار محمد بن خلف بن المرزبان، قال: حدثني إبراهيم بن محمد الورق، عن الحسين بن أبي السري قال: قيل لمسلم بن الوليد: أي شعر أحب إليك؟ قال: إن في شعري لبيتا أخذت معناه من التوراة، وهو قولي:

دلت على عيبها الدنيا وصدقها         ما استرجع الدهر مما كان أعطاني)(38

 

ويمكن أن نشير في الأخير إلى ما وصلت إليه الروح الإنسانية في الثقافة العربية الإسلامية من حيث تداخل الأجناس والألوان، وعدم التميز بين المرأة الجميلة، سواء أكانت بيضاء أم سوداء. فإذا كان النموذج الجمالي الغالب في الثقافة العربية الإسلامية في المرأة هو المرأة البيضاء أو الصفراء، فإن هذا لم يمنع من ظهور الاعتراف بجمال المرأة السوداء. وهذه التفاتة مهمة جدا في العلاقات الثقافية والعرقية. ويعطينا الأصفهاني مثالا على ذلك بالشاعر أبي الشبل العباسي، الذي أحب امرأة سوداء وقال فيها شعرا، وعوتب في ذلك فقال:

(غدت بطول الملام عادلة         تلومني في السواد والدعج

ويحك كيف السلو عن غرر         مفترقات الأرجاء كالسبح

لا عذب الله مسلما بهــم          غيري ولا حان منهم فرجي

    فإنني بالسواد مبتهــــــج          وكنت بالبيض غير مبتهج)(39

هذا مثال فقط أتينا به لنستدل به على الجمالية العربية الإسلامية التي وسعت من رؤيتها عندما فتحت نفسها لمختلف المكونات الثقافية والبشرية، من أجناس ولغات وألوان، بل وتكونت حساسية جمالية أخرى تغني الجمالية العربية الإسلامية التقل

azazystudy

مع أطيب الأمنيات بالتوفيق الدكتورة/سلوى عزازي

  • Currently 105/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
35 تصويتات / 1537 مشاهدة
نشرت فى 13 فبراير 2010 بواسطة azazystudy

ساحة النقاش

الدكتورة/سلوى محمد أحمد عزازي

azazystudy
دكتوراة مناهج وطرق تدريس لغة عربية محاضر بالأكاديمية المهنية للمعلمين، وعضوالجمعية المصرية للمعلمين حملة الماجستير والدكتوراة »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

4,829,096