جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قضايا أدبية من وجهة نظر خلدونية.. دراسة في بعض القضايا الأدبية (3) |
صحيفة 26سبتمبر
د. نادي ساري الديك# بما ان ابن خلدون وضع رأياً واضحاً في عملية التفريق بين المنظوم والمنثور، نجده ينكر على المتأخرين من الكتاب والمترسلين الذين يخلطون بين الفنين المعنيين، إذ استعملوا أساليب ومقومات الشعر الاسلوبية في الخطابات والمراسلات السلطانية، وهذا الخلط يضر بالبناء الفني إذ يجعل البلاغة العربية تضمحل، وتصبح الامور متداخلة في التوجهات ، ويصبح الكلام ركيكاً سمجاً لا يليق بمقام السلطان، فما يليق بالعامة لا يليق بالسلطان بمعنى نجده يؤكد ان الشعر لا يليق بالمخاطبات السلطانية، وإنما النثر المسترسل دون تكلف هو ما يليق بالسلطان، فوجب ان ننزه المخاطبات السلطانية عنه، فأساليب الشعر تنافيها اللوذعية وخلط الجد بالهزل والاطناب في الاوصاف وضرب الامثال وكثرة التشبيهات والاستعارات حيث لا تدعو ضرورة الى ذلك في الخطاب والتزام ايضاً من اللوذعة والتزيين وجلال الملك والسلطان وخطاب الجمهور عن الملوك بالترغيب والترهيب ينافي ذلك ويباينه والمحمود في الخطابات السلطانية الترسل وهو إطلاق الكلام وإرساله من غير تسجيع الا في الاقل النادر وحيث ترسله الملكة إرسالاً من غير تكلف له، ثم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمقتضى الحال، فإن المقامات مختلفة، ولكل مقام أسلوب يخصه من إطناب او إيجاز أو حذف أو إثبات او تصريح او إشارة وكناية واستعارة، وأما إجراء المخاطبات السلطانية على هذا النحو الذي هو على اساليب الشعر ، فمذموم، وما حمل عليه اهل العصر الا استيلاء العجمة على ألسنتهم» (33). ان استخدام هذه الاساليب في المخاطبات السلطانية، لهو من اثر العجمة في القول والأداء ، بمعنى نجد الضعف يسيطر على التراكيب والاساليب الادبية من خلالها تتداخل الاساليب النثرية والشعرية، فيطغى الاسلوب الركيك، وتضعف الحجة والبراهين، وهذا لا يليق بحال من الاحوال بالمقامات السلطانية، لأن عدم إعطاء الكلام حقه في مطابقته لمتقضى الحال يشكل حالة من العجز في المرسل اولاً ويؤدي الى تهتك في الملكة لدى المستقبل، ثانياً: ومثل ذلك تمثل في كتابات اهل المشرق وشعرائهم فهم يجهدون انفسهم لمجانسة المفردات حتى تلتقي مع مطابقة الحال، وإن كان ذلك على حساب البناء النحوي واللغوي السليمين» حتى أنهم ليخلّون من التجنيس ويدعون الاعراب ويفسدون بقية الكلمة عساها تصادف التجنيس»(34). لذا نجده يرفض تداخل الاساليب، بمعنى يريد ان يبقى اسلوب النثر خالصاً من تدخلات الاساليب الشعرية، كما يريد كذلك نصاعة الاسلوب الشعري وابتعاده عن الاساليب الممجوجة، وهذا يشكل ثورة كبيرة في زمن تزدحم فيه التداخلات وتسيطر على الادب حالات السجع والركاكة والسماجة في القول، فما تفشي البديع المصطنع الا حالة راكدة في بنائية الابداع الفني، فالمبالغة في طلب البديع يشكل امتداداً للصنعة والتصنع، بينما الاقتصاد في طلبه اي البديع يكون متجانساً للطبع والسجية على السواء. فالكلام إما أن يكون مسجوعاً وإما ان يكون مطبوعاً ،و هذا يخلق فارقاً كبيراً بين الامرين، فعندما يخاطب الانسان الناس بكلام مطبوع فإنه يصل الى قلوبهم وعقولهم بيسر وسهولة، فما الخطاب في الحالات كلها الا وسيلة يراد بها نقل اشياء محدودة، إن كانت فنية او فكرية فليس الخطاب مقصوداً بحد ذاته، وإنما ما يحمله الخطاب من دلالات عميقة ومتعددة يشكل الحالة المطلوبة، وهذا لا يعني عدم استخدام اي نوع من المحسنات البديعية واللفظية، وإنما يترك الامر لمقدرة المنشأ ، فإذا استطاع ان يدخل بعض المحسنات القول المرغوبة في نصه فهذا لا يبطل النص مطلقاً ، في حين إدخال المحسنات دون دواع يؤدي الى تدهور بنائية النص وتهتك العلاقة بين المستقبل والنص معاً، فالاشارات البديعية الجمالية وبعض حالات التورية في المفردات قد تسهم في تفعيل دور النص، خاصة اذا اكتملت حالات التجانس بين الالفاظ والمعاني فتكون حالة اللذة الاستماعية بالجمال قد تحققت، وإن وجدناه يؤكد ان تلك المحسنات تبقى زائدة على الرغم من الجماليات التي أحدثتها في طبيعة النص. وقد استند ابن خلدون في مواقفه من البديع وكثرته وقلته في النص على ثقافته الادبية والفنية والمعرفية ، فكأنه يعيد الى الاذهان طبيعة الخطاب الادبي وبنائيته إبان الدولة العربية الاسلامية في العصرين الاموي والعباسي، إذ كان الذوق العربي في بنائية النص الادبي مسيطراً حتى عند ذوي السلطان والإمامة في السياسة، وقد أورد مجموعة من الأبيات الشعرية التي تدلل على السليقة والذائقة واستند على النص القرآني لآيات متعددة كي ينقل طبيعة الخطاب عند الشعراء في عصر ما قبل الاسلام والعصور اللاحقة ومن ثم بيان طبيعة النص القرآني، وكأنه يقول: «إن الشعر سليقة العرب فلا يجوز إدخال ما يثقله ويجعله ممجوجاً عند المتلقين، والقرآن الكريم كذلك نزل بلغة يفقهها العرب، واساليب اعتادوا التعامل معها، فلم يكن النص القرآني ثقيلاً على العرب فلو كان القرآن قد نزل بلغة يصعب فهمها عبر اساليب صعبة المراس، لكانت العلاقة اللغوية هي المدخل للطعن في النص من قبل المشركين، الا أنهم لم يطعنوا فيه من حيث البناء الاسلوبي وإنما من حيث الدلالة العقدية والروحية للآيات الحاملة لمثل تلك الاشياء لعدم ايمانهم بها، فعلى الرغم من موقف ابن خلدون من البديع واستخداماته، الا انه يؤكد ان الشعراء الاسلاميين قد استخدموه وتفاوتوا في استخداماته، فمثلاً ما قام به بشار بن برد في بعض نصوصه الشعرية لا يتساوى مع نصوص أبي تمام وابن المعتز، ومن يتتبع ذلك في نصوصهم يجد الفارق الواضح في الاستخدام، لذا نجده يتمثل بأبيات شعرية لشعراء اسلاميين، حتى يدلل على صحة موقفه من الصنعة في القول والطبع ايضاً، وهذا تمثل في قول قيس بن ذريح صاحب لبنى:
وأخرج من بين البيوت لعلني أحدث عنك النفس في السر خاليا ثم يردفه بقول كثير عزّة، وإن انتسبا الى المدرسة العذرية ذاتها:
وإني وتهيامي بعزة بعدمــــا تخليت عما بيننا وتخـــــلتِّ لكالمرتجي ظل الغمامة كلما تبوّأ منها للمقيل اضمحلتِ الأبيات الشعرية والنص القرآني التي تمثل بها، ترينا موقفاً واضحاً لابن خلدون من البديع، فهو لا ينكره البتة، وإنما يريده معتدلاً، أي من استخدم المحسنات البديعية واللفظية عليه ألا يثقل عليه نصه، بها وإنما عليه أن يدعها تأتي عفو الخاطر فتصبح للتلميح لا للتقبيح، لهذا الامر نجده يعقب على تلك الاشعار بقوله: «فتأمل هذا المطبوع الفقيد في الصنعة في إحكام تأليفه وثقافة تركيبه، فلو جاءت في الصنعة من بعد هذا الاصل زادته حسناً»(35). كل ذلك يؤكد مدى حرص ابن خلدون على البناء الفني القريب من السليقة العربية، علماً انه افاد من سابقيه ونقل عنهم ودون شروط قال بها ابن رشيق القيرواني وغيره من النقاد القدماء، إذ يجب مراعاة بعض القيم عند استخدام البديع من قبل اصحاب الحيك الفني كما يسميهم ابن خلدون، فالذوق كما يعتقد يشكل عماد العلاقة مع البديع، ونجده يعوّل على الذوق والملكة كثيراً فيقول: «فالمتكلم بلسان العرب والبليغ فيه يتحرى الهيئة المغيرة لذلك على اساليب العرب وإنما مخاطبتهم وينظم الكلام على ذلك الوجه جهده، فإذا اتصلت مقاماته بمخالطة كلام العرب حصلت له الملكة في نظم الكلام على ذلك الوجه، وسهل عليه امر التركيب حتى لا يكاد ينحو فيه غير منحى البلاغة التي للعرب، وإذا سمع تركيباً غير جار على ذلك المنحى مجّه ونبا عنه سمعه بأدنى فكر وبغير فكرة، الا بما استفاده من حصول هذه الملكة وهذه الملكة كا تقدم إنما تحصل بممارسة كلام العرب وتكرره على السمع والتفطن لخواص تراكيبه، وليست تحصل بمعرفة القوانين العلمية في ذلك التي استنبطها اهل صناعة اللسان، ولو رام صاحب هذه الملكة حيداً عن هذه السبيل المعنية والتراكيب المخصوصة لما قدر عليه ولا واقفه عليه لسانه، وإذا عرض عليه الكلام حائداً عن اسلوب العرب وبلاغتهم في نظم كلامهم أعرض عنه ومجه وعلم انه ليس من كلام العرب الذين مارس كلامهم، وربما يعجز عن الاحتجاج لذلك كما تصنع أهل القوانين النحوية والبيانية فإن ذلك استدلال بما حصل من القوانين المفادة بالاستقراء، وهذا امر وجداني خاص بممارسة كلام العرب حتى يصير كواحد منهم» (36). كلام ابن خلدون عن الذوق والملكة يستند الى الدربة والمراس والوعي تجاه العمل المراد صنعه، وهذا ما يؤكده في كثير من اقواله، فالتذوق والدربة كما يرى تخلق احساساً صادقاً بالشيء ولا تجعل ذلك مدخلاً للعمل باللسان، وإنما تخلق همساً تذوقياً باللسان، ومثل هذا الموقف ليس غربياً على الذوق والبيئة العربيين بمعنى نجد ابن خلدون قد أفاد من سابقيه، وبالذات الآمدي في كتابه الموازنة بين الطائيين، إذ انتصر للبحتري على ابي تمام، الا انه في نهاية المطاف انتصر لابي تمام لاقتدائه بعمود الشعر العربي (37). فانتصار الآمدي للبحتري يعني انتصاراً للسليقة والذوق العربيين، وهذا ما نراه يترسخ في ذهنية ابن خلدون ونفسيته، فهو مقلد إذا جاز التعبير اكثر منه مجدد وبالذات فيما يخص التذوق والملكة والبناء الفني الادبي بشكل عام، وكأن طبيعة الحياة بأنماطها المختلفة وانهيارات النظم السياسية للأسر العربية في اشياء كثيرة، على رأسها الفن والابداع وإن رفض فلسفاتهم في الحكم والغلبة على سبيل المثال لا الحصر (38)، لذا نجده ينتصر للذوق ويحتكم اليه اكثر من انتصاره للعلوم المكتسبة في النقد، وهذا يؤدي الى ضياع حالة الاحتكام وعدم الدقة في إصدار البناء الابداعي او النقدي، لأن الارتكاز على رؤية واحدة تبقى قاصرة ، بينما الارتكاز في اصدار الاحكام على اكثر من ركيزة يعني الانبعاث الايجابي والمقدرة على إصدار الاحكام ومصداقيتها. وفي معرض حديثه عن التفريق بين النظم والنثر، نجده يعرّج على القرآن الكريم، ويقف وقفة المتيقن فيما يقول، وإن كان كلامه تجاه تعريف القرآن يشكل إعادة صياغة إذا جاز التعبير لآراء السابقين له امثال الجرجاني والباقلاني، وغيرهما، الا انه يضع رأياً صريحاً لما يقول: «وأما القرآن وإن كان من المنثور إلا أنه خارج عن الوصفين وليس يسمى مرسلاً مطلقاً ولا مسجعاً، بل تفصيل آيات ينتهي الى مقاطع يشهد الذوق بانتهاء الكلام عندها ثم يعاد الكلام في الآية الاخرى، بعدها ويثنى من غير التزام حرف يكون سجعاً ولا قافية، وهو معنى قوله تعالى: «الله نزل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم» وقال : قد فصلّنا الآيات ويسمي آخر الآيات منها فواصل إذ ليست اسجاعاً ولا التزام فيها ما يلتزم في السجع ولا هي ايضاً قواف، واطلق اسم المثاني على آيات القرآن كلها على العموم لما ذكرناه واختصت بأم القرآن للغلبة فيها كالنجم للثريا، ولهذا سميت السبع المثاني» (39). رأي ابن خلدون هذا يؤكد ان القرآن ليس شعراً وليس نثراً ايضاً فهو أي القرآن لا تنطبق عليه تعريفات النثر ولا سماته ولا تعريفات الشعر ولا سماته، وإنما له تعريفاته ومسمياته التي تمايزه من غيره من الابداعات والفنون الانسانية، ويضيف ان حفظ القرآن والتعامل مع نصه لا يشكل ملكة او ينمي الملكة إن وجدت كما هي الاشعار والمحفوظات منها ومن غيرها، وكأنه يغلق باب أي توجه يقول بإمكانية تفعيل الملكة وتنميتها عن طريق خلق العلاقة مع القرآن الكريم، فكما يقول: «إن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة، كما ان البشر مصروفون عن الاتيان بمثله»، وهذا يتعارض مع قول صريح آخر تجاه أثر القرآن في نفوس المسلمين إذ يؤكد على الملكة المتجددة والمتأثرة بالقرآن لدى الشعراء المسلمين فيقول: «إنّ كلام الاسلاميين من العرب أعلى طبقة في البلاغة وأذواقها من كلام الجاهلية ومنظومهم، فإنا نجد شعر حسان ابن ثابت وعمر بن ابي ربيعة والحطيئة وجرير والفرزدق ونصيب وغيلان وذي الرمة والاحوص وبشار، ثم كلام السلف من العرب في الدولة الاموية وصدراً من الدولة العباسية في خطبهم وترسيلهم ومحاوراتهم للملوك، أرفع طبقة في البلاغة من شعر النابغة وعنترة وابن كلثوم وزهير وعلقمة بن عبدة وطرفة بن العبد، ومن كلام الجاهلية في منثورهم ومحاوراتهم، والسبب في ذلك ان هؤلاء الذين أدركوا الاسلام سمعوا الطبقة العالية من الكلام في القرآن والحديث اللذين عجز البشر عن الإتيان بمثليهما..» (40). أستاذ مشارك – جامعة القدس المفتوحة -رام الله - فلسطين
هوامش: 33- مقدمة ابن خلدون، ص 418. 34- مقدمة ابن خلدون ص 418. 35- مقدمة ابن خلدون ص 420. 36- مقدمة ابن خلدون، ص 414. 37- الآمدي، الموازنة بين شعر أبي تمام والبحتري، ج1 تحقيق السيد احمد صقر، دار المعارف، القاهرة، 1961. 38- المقدمة ص 106 - 107 وغيرهما من الصفحات. 39- مقدمة ابن خلدون، ص 417. 40 المصدر نفسه ص 420.
|
|
مع أطيب الأمنيات بالتوفيق
الدكتورة/سلوى عزازي
ساحة النقاش