كما أنها ظاهرة عالمية لاتنفرد بها دولة بعينها, وإنما هي مشكلة ملحة في بعض البلدان ـ شرقا وغربا ـ التي يتسم بنيانها الاجتماعي والثقافي والسياسي بالضعف, ومنها دول مجاورة لمصر, ودول عربية شقيقة أيضا, تأثرت مسيرتها التاريخية بالانقسامات الطائفية داخلها, وأصبحت تهدد مستقبلها, بل ووجودها ذاته. وليس بخاف علي أحد ان الظاهرة الطائفية هي نتاج للتفاعل بين العديد من العوامل: بعضها خارجي والآخر داخلي. فهي في بعض الأحيان نتاج لظروف تاريخية معينة, مثل الحدود المصطنعة بين الدول التي تم ترسيمها لتقسيم القارة الافريقية كمناطق نفوذ بين القوي الاستعمارية السابقة مراعاة لمصالحها المتبادلة, وبالتالي فإن كل دولة ضمت داخلها العديد من الأعراق والقبائل والتنوعات اللغوية والدينية التي يوجد جزء منها داخل دولة والآخر في الدول المجاورة لها, الأمر الذي أدي الي اشتعال الصراعات العرقية والطائفية داخل الدولة الواحدة, والحروب بينها وبين جيرانها, بناء علي هذا الانقسام والتشرذم الطائفي. كذلك فإن تأثير العامل الخارجي لم يقف عند البعد التاريخي لظاهرة الطائفية. ففي حالات كثيرة أدي وجود مصالح دولية في منطقة بعينها أو إقليم جغرافي معين الي محاولة هذه القوي الدولية زرع الفتن والانقسامات بين طوائف الشعب الواحد في بعض دول العالم الثالث, والأمثلة علي ذلك عديدة لايتسع المجال لحصرها. ولكن تأثير العوامل الخارجية لايمكن ان يتحقق الا اذا كانت هناك عوامل داخلية, او فلنقل بيئة داخلية, مهيأة لزرع هذه الفتن والانقسامات الطائفية, مثل ضعف البنيان الداخلي للمجتمع, وعجزه عن امتصاص الصدمات الخارجية, أو انقسام الولاءات داخله, أو مروره بمرحلة تحول اجتماعي تتغير فيها المفاهيم والمعايير والقيم ولم تستقر بعد اختياراته الاساسية لتحديد مستقبله. وعندما يتحدث البعض عن الفتنة الطائفية بمصر, او مخاطر الطائفية علي الوحدة الوطنية المصرية, تثور في الذهن عدة تساؤلات مباشرة عن مدي صدق هذه المقولات؟ وهل ينطبق مفهوم الطائفية علي حياتنا المعاصرة؟ وهل عرفت مصر الانقسام الطائفي عبر تاريخها الطويل تحت اي مسمي: عرقيا كان أو قبليا أو دينيا أو لغويا؟ ولعله من المنطقي والأوفق ايضا قبل ان احاول الإجابة عن هذه التساؤلات أن أضع مفهوم الطائفية ذاته محل التأمل والتمحيص, وأن أتناول تحديد معناه الدقيق: فالطائفية ليست مجرد الانتماء الي دين أو عرق أو مذهب, وإنما تتجاوز ذلك الي الانتماء الي جماعة معينة داخل الوطن تقوم علي هذا الاساس, بحيث يؤدي ذلك الي صراع بين هذا الانتماء, والمشاعر الوطنية التي تربط ابناء هذه الجماعة بالوطن والمجتمع الذي تحيا فيه. وهذا الانتماء الي جماعات ـ بغض النظر عن طبيعتها ـ دينية/ عرقية/ لغوية ـ عرفته البشرية في المجتمعات التقليدية قبل نشأة الدولة القومية الحديثة, وما نتج عنها من تطورات اجتماعية/ سياسية قامت علي اساس التنظيم المجتمعي الذي فرض إطارا وطنيا جامعا لكافة الجماعات المندمجة داخله, وذلك من خلال أبنية تنظيمية علي مستوي الوطن, أعرض وأشمل من الطوائف التي كانت قائمة من قبل, كالأحزاب السياسية والتنظيمات النقابية والاتحادات والروابط...... إلخ. ولكن في ظل الصراع علي السلطة ومحاولة تحقيق مصالح فئوية فرعية عادت ظاهرة الانتماء الطائفي تبرز علي السطح, كنتاج للعوامل الداخلية والخارجية السابق ذكرها. وهنا تعدت الطائفية إطارها التقليدي كتعبير عن حالة انتماء لمذهب أو دين أو عرق الي كونها هوية مستقلة تحاول ان تحل محل القومية او الوطنية, وتتعالي عليها, بل وتعبر عن استعدادها لاحتلال مواقعها. وبالتالي تحولت من انتماء لدين أو عشيرة أو قبيلة الي انتماء لجماعة محددة ذات مصالح جزئية مشتركة تحول تحقيقها علي حساب المصلحة العامة وعلي حساب الدولة الوطنية التي تضمها بين جنباتها مع جماعات اخري ذات طبيعة مختلفة. وهنا استعير مقولة للدكتور برهان غليون في كتابه:نظام الطائفية: من الدولة الي القبيلة(1990) بأن الطائفية تنتمي الي مجال السياسة لا إلي مجال الدين أو العقيدة, وأنها تشكل سوقا موازية اي سوقا سوداء للسياسة ـ علي حد تعبيره ـ أكثر مما تعكس دفاعا متعصبا عن دين أو مذهب. كذلك تتفق الأدبيات المطروحة حول مفهوم الطائفية علي توصيفها بانها عصبية تتجاوز المذهب أو العرق, يحاول المنتمون اليها تحويلها الي عصبية سياسية لتحقيق مطالب فئوية ومصالح خاصة, قد تتعارض مع مصالح الوطن. وفي بعض الأحيان يقوم نظام سياسي طائفي عندما تنجح هذه الطائفية في ان تصبح جزءا من النظام السياسي, الذي يقوم علي التقسيمات الطائفية التي تنتقص بطبيعة الحال مما حققته الدولة الحديثة أو الدولة القومية من وحدة وطنية بين كافة جماعاتها, وتكسر أو تؤثر علي جوهر هذه الدولة وهو علاقة المواطن بالأمة وتحقيق المصالح المشتركة لكافة ابنائه, وذلك لصالح علاقة المواطن بالطائفة التي تعود به الي أوضاع تم تجاوزها من قبل نشأة الدولة الحديثة. هذا التحديد لمفهوم الطائفية يبدو جليا واضحا في تطور اوضاع دول ومجتمعات مجاورة لنا, كانت وما زالت تعاني من الظاهرة الطائفية, تغلبت فيها العصبيات الدينية أو العرقية علي نظام الدولة ذاته, وبعضها اصبحت الطائفية فيها جزءا من نظامها السياسي والاجتماعي مثل لبنان والعراق, مما حد من تطورها وإسهامها في الحضارة الانسانية, الآخر تضطرب فيه الصراعات والحروب القبلية والمذهبية حتي اختفي فيها نظام الدولة ذاته, أو تزعزعت اركانه تاركا المجال للصراعات والحروب الأهلية والأحداث الإرهابية كي تعبث بمصير شعوبها مثل الصومال. أما عن مصر, فقد حبا الله هذا الوطن بقدرة هائلة علي إذابة الفوارق والتمايزات الاجتماعية داخله, منذ البدايات الاولي للحضارة الانسانية. وقد كان هذا هو سر استمرارية المجتمع المصري لآلاف السنين, وتواصل عطائه الحضاري والإنساني. فقد كانت مصر قادرة باستمرار علي صهر الاختلافات والانقسامات داخلها, وان تخرج منها جميعا بخلطة ثقافية/ اجتماعية نجحت في امتصاص أي رافد ثقافي هب عليها أو اي جماعة وفدت اليها, بحيث تحولت هذه التيارات والجماعات الي جزء من النسيج الاجتماعي المصري الذي صبغها بصبغة مصرية جعلها تتجاوز ملامح وسمات المصدر الذي هبت منه اليها, وتكتسي بصفات ونكهة مصريتها, الامر الذي دعا عددا من المفكرين الي وصف مصر بأنها البوتقةالحقيقية التي تذوب داخلها الاختلافات والمذهبيات والأعراق. ومن ثم فإن مصر لم تعرف في تاريخها الحديث الحروب الطائفية او الصراعات العرقية او النزاعات القبلية او المذهبية, بل ضمت داخل شخصيتها العبقرية ألوانا كثيرة للطيف, ذابت جميعها في ضوء واحد هو مصريتها, التي نبذت دائما وطوال تاريخها لغة الصراع او العنف او شطط الاقتتال والحروب الاهلية. ولم يعرف شعب مصر إلا لغة الوسطية والاعتدال والاعتزاز بمصريته علي مر العصور, وإعلائها علي ماعداها من انتماءات تقليدية. وكان هذا هو مصدر صلابة المجتمع المصري منذ فجر التاريخ, وملهم استمراريته وبقائه لآلاف السنين, ومن ثم مفجرا لطاقات مصر, في عطاء حضاري للإنسانية عامة ولأمتها العربية خاصة. بل ان التاريخ يزخر بالعديد من الدلائل علي قوة النسيج الاجتماعي المصري ومتانته, فقد كانت مصريتنا هي السد المنيع امام كافة الغزوات ومحاولات اخضاع شعبها للهيمنة الخارجية, ويكفي ان ندلل علي ذلك بالموقف الواحد لشعب مصر تجاه غزوات التتار أو أثناء الحروب الصليبية, ثم كفاحه كجبهة واحدة ضد الاستعمار البريطاني, والمطامع الصهيونية. وليكن في وعينا جميعا ونحن نناقش تداعيات الأحداث الاخيرة ان الأجندة المصرية الوطنية لم تكن أبدا ضمن محتوياتها هذه النزاعات الطائفية, وان نتنبه الي القوي الداخلية والخارجية التي تحاول إن تفرضها وتزرعها في تربتنا. ان التذكير بهذه الحقائق لايعني الركون اليها والاكتفاء بما كان في التاريخ وانما الهدف ان نشحذ الهمم للتمسك بمصريتنا والايمان بمتانة نسيجها الاجتماعي وصلابته, وان نتخذ من هذا الايمان ركيزة لرأب التصدعات التي تطرأ هنا أو هناك, والتصدي لها بالفكر والحوار, وهو ايضا مادعا اليه الرئيس حسني مبارك في خطابه في عيد الشرطة أخيرا, من ضرورة تحمل النخبة المثقفة في مصر لمسئولياتها من اجل تعزيز الفهم المتبادل بيننا, وتحديد القوي العاكفة علي تحريك هذه الفتن, وتحليل وزن العوامل المؤدية اليها, وهل هي ذات ابعاد دينية أو اغراض سياسية؟ كما أن الأمر يستلزم قيام الخطاب الديني المعتدل الذي يدعمه التعليم والإعلام والكتاب والمثقفون. خطاب يؤكد قيم التسامح وقبول الآخر والحوار معه, وينشر ـ في نفس الوقت ـ الوعي بان الدين علاقة بين الانسان وربه. وكل ذلك لابد ان تتبعه تصورات للسياسات الوقائية: تشريعية وثقافية واجتماعية, والتي ترسخ من مبدأ المواطنة الذي تتساوي فيه الحقوق والواجبات بين جميع أبناء مصر. حفظ الله مصر آمنة مستقرة, عزيزة قوية, لتواصل إسهاماتها في الحضارة الإنسانية, بفضل عطاء أبنائها المتحدين دائما.
|
ساحة النقاش