<!--<!--<!--[if gte mso 10]> <style> /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0cm 5.4pt 0cm 5.4pt; mso-para-margin:0cm; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman"; mso-ansi-language:#0400; mso-fareast-language:#0400; mso-bidi-language:#0400;} </style> <![endif]-->

 أجوبة عن الإيمان بقلم  /  مصطفى ثابت

                             [email protected]

 لوحظ في السنوات الأخيرة، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، تزايد الهجوم على الإسلام، وكأن الإسلام الآن أصبح هو العدو اللدود بعد أن نجح الغرب في القضاء على انتشار الخطر الشيوعي، وبعد أن تفكك الاتحاد السوفيتي وسقط حائط برلين. ومع انتشار التكنولوجيا الحديثة ووسائل الاتصال والإعلام التي أتاحتها الإنترنت، والمحطات الفضائية، بدأت تُشَن حملة واسعة ضد الإسلام. بدأت بشكل هادئ في أول الأمر، وتحولت بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول) لتكون بأسلوب سافر، وفي كثير من الأحوال بأسلوب سافل أيضا. وأولئك الذين يشنون هذه الحملة الشعواء على الإسلام يتّبعون كل ما لديهم من وسائل، بما في ذلك وسائل التدليس والكذب والخداع والإفك.

ويذكرنا حديث هؤلاء عن الإسلام، وانتقاداتهم لحياة الرسول  وعلاقاته مع أزواجه، بحديث الإفك عن السيدة عائشة، الذي أثاره بعض المنافقين، ووقع فيه أيضا بعض المسلمين. ولا شك أن حديث الإفك ذلك قد أحزن الرسول  وأحزن المؤمنين المخلصين، ولكن الله تعالى أظهر الحق في نهاية الأمر، وكشف الكذابين والدجالين والمدلسين والمخادعين. ويُسَرّي الله تعالى عن المسلمين فيقول لهم: إِنَّ الَّذِينَ جَآءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[ ثم يقول تعالى في الآية التالية ]لَوْلآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ[ (سورة النور: 11-12)

واليوم، نسمع مرة أخرى حديث الإفك، بشكل جديد، وبتكنولوجيا حديثة، وبأسلوب أشد خبثا، وبتدبير أكثر مكرا، ولكنه أولا وأخيرا هو أيضا من حديث الإفك، وسوف يكون مآله بإذن الله تعالى نفس مآل جميع أحاديث الإفك في الماضي، فسوف ينكشف الحق ويظهر صدق الإسلام، وسوف ينكشف أيضا الباطل ويظهر كذب الكذابين.

وفي الحقيقة، إن الحملة الشرسة التي تُوجّه ضد الإسلام اليوم ليست جديدة، وهي ليست سوى معركة في حرب طويلة بدأت بعد عصر النهضة في أوربا. كانت أوربا المسيحية تعيش في عصور الظلام، واستمرت في هذا الحال لمدة ألف سنة تقريبا، من القرن السادس إلى القرن السادس عشر. ثم بدأ المارد الذي كان يغط في سُبات عميق يستيقظ، وينهض، ويغزو العالم، ويسيطر ويستعمر الشعوب. وطبعا كلمة يستعمر الشعوب هي كلمة تقوم على الكذب والخداع والتدليس، لأن الاستعمار معناه الإعمار والبناء والتقدم، ولكن استعمار الغرب للشعوب كان عبارة عن استغلال الشعوب ونهب ثرواتها والاستيلاء على خيراتها. وفي خلال ثلاثة قرون، استطاع الغرب المسيحي أن يستولى على العالم بأجمعه، وخضعت له الشعوب، وأصبحت دولة مثل بريطانيا تسمى باسم الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس. في نفس الوقت، وبكل أسف، تحول المسلمون ليكونوا كما وصفهم سيدنا رسول الله: "غثاء كغثاء السيل"، والغثاء هو ما يحمله السيل من قاذورات وأوساخ.

وكان من الطبيعي، بعد أن انتفخ الغرب المسيحي واستولى على العالم، أن يعمل على نشر المسيحية في العالم، وهكذا بدأت حملات التبشير تغزو كل البلاد التي غزتها الجيوش من قبل. فإن محاولات التنصير كانت دائما تصحب هجمات الاستعمار. ولذلك رأينا في القرن التاسع عشر نشاطا بالغا للحملات التبشيرية في الهند وجنوب شرق آسيا، كما انتشرت أيضا الأنشطة التبشيرية في أفريقيا على أوسع نطاق.

ثم انشغل العالم بعض الشيء في القرن العشرين ببعض المشاكل، فكانت الحرب العالمية الأولى في العقد الثاني، ثم تلا ذلك الأزمة الاقتصادية التي أثرت في العالم كله في العشرينيات، ثم تلا ذلك الحرب العالمية الثانية في أواخر الثلاثينيات والأربعينيات، ثم ظهر الخطر الشيوعي في الخمسينيات والستينيات حيث اندلعت الحرب الباردة بين المعسكرين المسيحيين في الشرق والغرب. ومع حلول السبعينيات بدأت عوامل التفكك تظهر في المعسكر الشرقي، وما أن جاءت الثمانينيات حتى اندحر فيها العدو الشيوعي وزال خطره. وهنا كان لا بد للغرب المسيحي أن يعمل على رأب الصدع الذي أصابه، ويتحول مرة ثانية إلى الإسلام والمسلمين، خاصة وأنه كان يستغله أسوأ استغلال للدفاع عن مصالحه، والوقوف كسد أيديولوجي منيع ضد انتشار الأيديولوجية الشيوعية، ثم عملوا على تشجيع التطرف والعنف بين الجماعات الإسلامية، واستخدموها في أفغانستان لمحاربة الاستعمار الشيوعي. وأهرق المسلمون دماءهم في أفغانستان، وظنوا أنهم كانوا يجاهدون في سبيل الله، ولكنهم في الحقيقة كانوا يدافعون عن المصالح الاستعمارية الكبرى، التي استعملتهم واستغلت دماءهم في محاربة الاستعمار الشيوعي السوفيتي.

وبعد أن تم القضاء على الخطر الشيوعي، تحوّل الغرب المسيحي لمحاربة أصدقاء الأمس الذين كان يعتبرهم مجاهدين، فإذا به الآن يعتبرهم إرهابيين. وبعد أن لعب صدام حسين الدور المطلوب منه في تقليم أظافر الخطر الشيعي الذي تفجر مع ثورة الخميني، تحول الغرب للقضاء على صدام حسين والقضاء أيضا على من سماهم بالإرهابيين، مع أنه كان السبب الأول في خلقهم وتدريبهم وتسليحهم.

غير أن المعركة لم تكن معركة بالسلاح فقط، فقد كان استخدام السلاح ضد من يحمل السلاح، ولذلك كان لا بد من فتح جبهة أخرى ضد الإسلام والمسلمين، وهي جبهة التبشير المسيحي. وبذلك عاد النشاط التبشيري مرة أخرى بعد أن مر بفترة من الهدوء النسبي في القرن العشرين. وشهد العالم الإسلامي هجمة جديدة للتبشير المسيحي، بدأ الإعداد الجيد لها في الثمانينيات واستمرت في التسعينيات، ثم أسفرت عن وجهها في القرن الواحد والعشرين، وخاصة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر كما سبق ذكره.

وكان مما ساعد على انتشار هذه الحملة الجديدة ضد الإسلام العديد من العوامل، منها:

(1) الدول التي كانت تهتم بالأمور الإسلامية، إما أنها تحولت إلى مسالمة الغرب ومصادقته، وبالتالي عزلت نفسها عن معركة التبشير ضد الإسلام، أو أنها احتضنت فلول الجماعات الإسلامية، فوضعت نفسها تحت مطرقة الغرب وأسلحته.

(2) الكثير من العلماء المسلمين لم يشاءوا أن يصرفوا أوقاتهم وجهودهم في الاهتمام بهذه الأمور، خاصة وأن لديهم من شؤون المسلمين ما يهمهم ويشغلهم عن الاهتمام بشؤون غير المسلمين.

(3) الكثير من الجماعات الإسلامية ظلت تحلم بأن السيف هو الوسيلة الوحيدة لفرض وجودها، عملا ببيت الشعر المشهور للشاعر أبي تمام الذي يقول فيه:

السيف أصدق أنباء من الكتب      في حده الحد بين الجد واللعب

فكان أن تعرضت لمطرقة الغرب وسندان الحكومات التي تعيش تحتها، حتى اضطر بعضها إلى إعلان التوبة، أو استمر يعطي للغرب الذريعة باتهامها بالإرهاب ويتيح له الفرصة للقضاء عليها.

(4) ومع انتشار الإنترنت كوسيلة للاتصال وجمع المعلومات، ومع انتشار الفضائيات التي يسهل استخدامها بعيدا عن أية رقابة ولا تدخل من الحكومات في البلاد الإسلامية، بدأت الحملة المسيحية الجديدة تعمل لنشر المسيحية في العالم الإسلامي وفي الوطن العربي بشكل خاص.

وبطبيعة الحال، لا بأس من أن يعمل أصحاب أي دين على نشر أفكار دينهم، ما داموا يحترمون المشاعر الدينية للآخرين، ولا يحاولون الإساءة إلى معتقدات الآخرين أو استخدام الأساليب الوضيعة من افتراء الأكاذيب واتباع أساليب الخداع. وهنا طلع علينا القُمّص زكريا بطرس يقدم لنا المسيحية التي يؤمن بها، وراح يحدثنا أولا عن التثليث، وعن تجسد السيد المسيح، وعن عقيدة الفداء التي استلزمت صلب المسيح ليكون كفارة عن خطيئة آدم التي يقول إن الجنس البشري قد توارثها. واستمع الكثيرون إلى القُمّص زكريا بطرس، ولكن لوحظ أنه لم يكن يخاطب أتباعه من المسيحيين البعيدين عن الكنيسة فيعمل على إعادتهم إلى الطريق الصحيح كما يراه ويؤمن هو به، وإنما كان يخاطب المسلمين ويحاول إقناعهم بصدق عقائده المسيحية. ولا بأس كما قلنا في أن يدعو الإنسان الآخرين إلى ما يؤمن به من عقائد وتعاليم، ولكنا رأينا القُمّص زكريا بطرس راح يوجه انتقادات لاذعة إلى الإسلام، ويتناول بالتجريح مشاعر ومقدسات المسلمين، ويصف رسول الرحمة بالإرهاب. ولو أنه كان موضوعيا في انتقاداته لما أثار حفيظة أحد، ولكنه راح عن قصد يردد ما سبق أن رد عليه علماء المسلمين من افتراءات وأكاذيب، معتمدا في ذلك على ما جاء في بعض الكتب الإسلامية التي ظهرت في عهود التخلف، أو يستدل بكتب كأنها إسلامية وهي ليست كذلك، فهي إما أن تكون لملاحدة، أو تكون بمسميات إسلامية وهي غير إسلامية، وكان يستعين ببعض العقائد التي تسربت بكل أسف إلى مفاهيم المسلمين، نتيجة لدخول أعداد كبيرة من النصارى في دين الإسلام، ولم يستطع هؤلاء التخلي كلية عما ورثوه من عقائد ومفاهيم، ومع مرور الوقت وجدت تلك العقائد والمفاهيم الخاطئة طريقها إلى الكتب والمفاهيم الإسلامية، وهي معروفة باسم "الإسرائيليات". وبمعنى آخر، راح القُمّص زكريا بطرس يصطاد في الماء العكر، لكي يسيء إلى الإسلام ويعمل على تنصير المسلمين.

ومن الواضح أن القُمّص زكريا بطرس لم يقم بهذا العمل بمفرده، وإنما كان هناك الكثير من فرق العمل التي تعمل معه، وتستخرج له المواد اللازمة، وتسجل له النصوص التي يستعين بها. وكُنّا على استعداد أن نسمع له ونحترمه لو أنه التزم بالموضوعية وابتعد عن التزوير والإسفاف، ولكنه لم يلتزم لا بالصدق ولا بالموضوعية، ولا ابتعد عن التزوير والإسفاف. ولعل هذا لم يكن خطأ صادرا عنه، بل كان خطأ من يُعدّون له المواد ومن يكتبون له الموضوعات التي يقدمها. وفي أيّ من الحالتين، فإن الإساءة إلى الإسلام والمسلمين قد وقعت، وبذلك فقد أتاح لنا الفرصة أن نَرُدَّ عليه، ونُفنّد عقائده، ونفضح الأكاذيب التي قدمها، والتي استطاع بها أن يخدع بعض المسلمين. وقد ظل القُمّص ينادي بأن يرد عليه علماء المسلمين، ويتحدّى علماء الأزهر الشريف، ويتحدى الدكتور زغلول النجار، بل وطالب فضيلة الشيخ الدكتور سيد طنطاوي شيخ الأزهر أن يرد عليه. ولعله لا يعلم أنه بذلك قد تجاوز قدره، وأساء الأدب بهذا التحدي، فمن يكون القُمّص زكريا بطرس لكي يتحدى مثل هؤلاء الأفاضل من العلماء؟ إنه ليس إلا قمّصا لا غير، لم يصل إلى أن يكون أسقفا أو كاردينالا، وبالطبع لم يصل إلى كرسي البابوية، فما باله يتحدى شيخ الأزهر وعلماءه؟ وهل يرضى الأخوة المسيحيون أن يخرج علينا واحد من أئمة المساجد مثلا ليتحدى قداسة البابا شنودة وأساقفة الدين المسيحي؟

وعلى أية حال، إنني أقول لجناب القُمّص، إنني قبلت التحدي وسوف أتصدى له، وأنا مجرد واحد من ملايين المسلمين. وقد يقول إنني مجرد فرد لا شأن لي، وقد يقول إنني لا أمثل المسلمين فلا يحق لي أن أتكلم باسمهم. وأحب أن أطمئنه أنني لا أتكلم باسم أحد ولا نيابة عن أحد، وإنما أنا مجرد إنسان مسلم أتاه الله عقلا يستطيع أن يستخدمه في التفكير، ولذلك سوف أتولى تحليل العقائد المسيحية التي قدمها لنا جناب القُمّص، وسوف أبين له وللناس كلهم، سواء كانوا مسلمين أو مسيحيين، أين هي مواطن الخلل في المنطق الذي استعمله جناب القُمّص. وإنني أرجو من جناب القُمّص، ومن حضرات المشاهدين، المسلمين منهم والمسيحيين، وأيضا من أولئك المسلمين الذين خدعهم المنطق المغلوط الذي قدمه جناب القُمّص، فتركوا الإسلام وقبلوا المسيحية، إنني أرجو منهم جميعا أن يتفكروا فيما أقدمه، ويسمعوا ما أقدمه بأذن ناقدة، ثم يردوا عليّ إن كانوا يستطيعون الرد، فإن لم يفعلوا، ولن يفعلوا، فكل ما أرجوه هو معاودة التفكير، وعدم الإساءة إلى الإسلام والمسلمين، وكما يقول المثل: من كان بيته من زجاج فلا يقذف الناس بالحجارة، أو إذا كان من الممكن استعارة كلمات السيد المسيح التي يقول فيها في إنجيل متّى (3:7):

"لا تدينوا كي لا تُدانوا، لأنكم تُدانون بالدينونة التي بها تدينون، وبالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم. ولماذا تنظر القذى الذي في عين أخيك، وأما الخشبة التي في عينك فلا تفطن لها. أم كيف تقول لأخيك دعني أخرج القذى من عينك، وها الخشبة في عينك. يا مرائي، أخرج أولا الخشبة التي في عينك وحينئذ تبصر جيدا أن تخرج القذى من عين أخيك".

لا شك أن كل مسلم يحترم المسيح  صلى الله عليه وسلم ، ويحترم دين المسيح الذي أنزله الله تعالى عليه. ورغم أن المسلمين على قناعة بأن دين المسيح قد أصابه التحريف، وأن الإنجيل الذي أنزله الله تعالى على المسيح قد ضاع ولم يبق منه إلا آثار من أقوال جمعها بعض الناس في كتب اعتبرتها الكنيسة أناجيل معتمدة، رغم كل ذلك فإن المسلمين يحترمون ما يريد النصارى أن يؤمنوا به، ومن أراد أن يعبد إلها من ثلاثة أقانيم فهو حر، ومن أراد أن يعبد بقرة بثلاثة أرجل فهو حر أيضا، ولكن إذا تطاولتَ على ديني، فإنك تعطيني الحق أن أعاملك بالمثل، لأنك أنت الذي بدأت بالعدوان، فأصبح من حقي أن أدافع. وعفوا يا جناب القُمّص، فلن أستطيع أن أدير لك الخد الآخر هذه المرة، ولن أكيل لك الصاع صاعين، بل سأكيله صاعات وصاعات، وكما يقول المثل: على نفسها جنت براقش.

إن المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص تقوم على الكثير من المغالطات المنطقية:

أولا: تحريف تفسير بعض الفقرات في الكتاب المقدس لاستخراج معان معينة لم تأت في النص. فمثلا، إذا افترضنا أن كاتبا كان يكتب أقصوصة أو بعث إلى أحد أصحابه برسالة وكتب فيها يصف أن رجلا من أهل الريف أخذ ابنته وذهب إلى السوق واشترى أشياء وحملها هو وابنته إلى المنْزل فكتب يقول: "وقال الأب لابنته أم الخير: احملي البصل، فلما حملته ووصلا إلى الحظيرة قال لها ضعي البصل". ثم نفترض أن مثل هذه القصة أو الرسالة، لسبب أو لآخر، أصبحت جزءا من كتاب مقدس يؤمن به جناب القُمّص، وأراد أن يفسرها ليحقق بها غرضا معينا، نراه يستعمل منطقا غريبا في تفسيرها فيقول: إن الرجل يعني الله لأنه الأب، وابنته أم الخير هي مريم لأنها أم يسوع، ويسوع هو مصدر كل الخير في العالم، ولما قال لها احملي البصل، كان يقصد أن تحمل بالكلمة، أي تحمل يسوع في رحمها، لأن البصل جسم حي يرمز لجسد يسوع الحي، وأيضا البصل طعام فهو يعطي حياة، وكذلك قال يسوع إنه الطريق والحياة، ومن هنا كان البصل رمزا ليسوع، وقد وضعت البصل في الحظيرة، أي أنها ولدت يسوع في حظيرة.

قد يستغرب المشاهد من هذا المنطق، وقد يظن أنني أبالغ في وصف المنطق الذي استعمله القُمّص زكريا بطرس، ولكن هذا هو ما حدث بالضبط، وسوف أبين للمشاهد صدق كلامي عندما أتناول ما قاله وما قدمه جناب القُمّص.

وقد يعترض أحد فيقول إن الكتب المقدسة لا يمكن أن تحتوي على حكايات أو حواديت من صنف حدوتة "أم الخير"، ولكن المشاهد سوف يندهش عندما أقدم له الحواديت والكلمات المكتوبة في بعض الخطابات التي يتصور القُمّص أنها وحي مقدس. وعلى سبيل المثال، فليقرأ المشاهد الجزء الأخير من الرسالة الثانية إلى تيموثاوس حيث يقول فيها:

"سلم على فرسكا وأكيلا وبيت (فلان الفلاني) أُنيسيفورُس، (فلان) أراستُس بقي في كورِنثوس، وأما (فلان) تُروفيمُس فتركته في (البلد الفلانية) ميليتُس مريضا. بادر أن تجيء قبل الشتاء. يسلم عليك (فلان وفلان وعلان وترتان) أفْبولُس وبوديس ولينُس وكلافَدِيَّة، والإخوة جميعا" (2تي19:4)

فهل يمكن أن يتصوّر عاقل أن هذا الكلام من وحي الله تعالى؟ ومع ذلك فإن بعض الناس يعتبرونه وحيا مقدسا، ولا يستبعد على مثل هؤلاء أن يعتبروا حدوتة مثل حدوتة "أم الخير" وحيا مقدسا أيضا.

ثانيا: المغالطة المنطقية الأخرى التي تقوم عليها المسيحية التي يدعونا إليها القُمّص زكريا بطرس هي تقديم أفكار صحيحة تبدو أنها منطقية، ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ويخرج منها في النهاية بقاعدة تبدو أنها صحيحة، لأنها مبنية على الأفكار الصحيحة التي قدمها، ولكنها خاطئة لأن أساسها خاطئ، ومع ذلك فإنه يبني على تلك القواعد عقائد في غاية الأهمية. وقد يكون من الصعب الآن تقديم مثال على هذه المغالطات نظرا لأنها تحتاج إلى شرح طويل، ولكني أعد المشاهد أنه سوف يرى بنفسه حجم المغالطات التي يقدمها جناب القُمّص، وسوف يلمس بنفسه الخلل الذي يقوم عليه منطقه، وما أقامه عليه من عقائد.

ثالثا: المغالطة الثالثة التي يستعملها جناب القُمّص أنه يخلط كثيرا بين الحقيقة والمجاز، حتى إن الحقيقة عنده تكون أحيانا مجازا، وفي كثير من الأحيان يعتبر أن المجاز حقيقة. وقد اتبع جناب القُمّص هذه المغالطات بكثرة عند كلامه عن موضوع ما ظن أنه تجسّد السيد المسيح.

رابعا: إنه كثيرا ما يتعمد تزوير النص وتحريفه لكي يستخدمه في إثبات وجهة نظر معينة، فمثلا يذكر للقارئ أن في القرآن المجيد آية تقول: "الرحمن على الكرسي استوى"، ثم يفسر كلمة استوى على أنها تعني القعود على الكرسي، ثم يطلق لسخريته العنان في الاستهزاء بمن يؤمن بأن الله يقعد على الكرسي، وما إذا كان له مقعدة يقعد بها على الكرسي، إلى آخر ما شابه ذلك من أساليبه السفيهة. مع أن الآية القرآنية هي ]الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[، والاستواء لا يعني القعود على كرسي بمقعدة. وبهذا يتبين أن جناب القُمّص لا يستعمل عقله كثيرا في التفكير، ولا يسمو فكره ليصل إلى مستوى رأسه، إذ ينحدر مستوى تفكيره أحيانا حتى يصل إلى مستوى المقعدة.

خامسا: كثيرا ما يتهم جناب القُمّص المشاهدين المسلمين أنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا فإنهم لا يفهمون، وإذا فهموا فإنهم لا يقبلون الحقائق التي يقدمها، وهي بالطبع ليست حقائق، وإنما هي أكاذيب وأغاليط سوف نكشف عنها له وللمشاهد.

سادسا: جناب القُمّص، ومن يستخرجون له المواد التي يستعملها، لديهم ولع شديد باستخراج بعض التفاسير التي تتفق مع مفاهيمهم المغلوطة، ثم يتولى جناب القُمّص تقديمها على أنها المعنى الوحيد الذي يجمع عليه كل المفسرين وكل المسلمين. وهو بذلك يخدع المشاهد لأنه يوحي إليه بشيء يغاير الحقيقة، ولا يقول له إن رأي المفسرين ليس هو رأي القرآن، وإنما المفسرين اجتهدوا، منهم من أصاب ومنهم من أخطأ، فمن أصاب له أجران ومن أخطأ فله أجر الاجتهاد، ولكن كلام المفسرين ليس ملزما للمسلمين. وهنا يختلف المسلمون عن النصارى، وخاصة أتباع المذهب الأرثوذوكسي والكاثوليكي، حيث يتحتم على الجمهور المسيحي قبول تفاسير البابوات وتفاسير المفسرين. ولكن الإسلام لا يُلزم المسلمين بمثل هذا المبدأ أبدا.

وأخيرا، أقول عن حديث الإفك الذي قدمه لنا القُمّص زكريا بطرس ما قاله القرآن المجيد عن حديث الإفك الذي أذاعه بعض الموتورين من المنافقين، حيث قال تعالى عنه لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ[. إن جناب القُمّص أتاح لنا فرصة عظيمة لكشف ألاعيب المسيحية المغلوطة التي يؤمن بها، كما أنه أتاح أيضا فرصة عظيمة للكثير من المسلمين الذين كانوا تحت تأثير فهم خاطئ لبعض الأمور في التراث الإسلامي أن يصححوا مفاهيمهم. وأيضا أتاح فرصة عظيمة للمسلمين أن يتّحدوا للدفاع عن دينهم وشرف نبيهم  وكرامة الكتاب المجيد الذي يؤمنون به.

أيها المسلمون في كل مكان! لقد دق ناقوس الجهاد من أجل نصرة الدين، ليس بالسيف ولا بالسنان، ولا بالعنف والإرهاب، ولا بالتكفير والتفجير، ولكن بالمنطق وباللسان، تماما كما فعل جناب القُمّص، الذي كثيرا ما كانت جراحات لسانه أشد وطأة وأكثر خطرا من جراحات السيف والسنان. إنني أدعو المسلمين جميعا أن يهبوا لهذا الجهاد المجيد، وليطرحوا خلافاتهم جانبا، وليتناسوا ولو مؤقتا، ما يفصلهم عن بعضهم البعض، وليتخلوا عن أساليب التكفير لبعضهم البعض، ولنتحد جميعا لمواجهة هذا الخطر الجديد، الذي كشّر عن أنيابه، وكشف عن مخالبه، وظن أن الإسلام والمسلمين قد صاروا لقمة سائغة يمكن أن يلوكها أو يتلمّظ بها. وندعو الله تعالى أن يؤلف بين قلوب المسلمين، وأن يوحّد كلمتهم، وأن يكفيهم شرور أنفسهم وسيئات أعمالهم، وأن ينصرهم نصرا عزيزا على كل من تسوّل له نفسه أن ينال من شرف سيدهم وحبيبهم رسول الله ، أو يدنس طهارة وقدسية كتابهم العزيز، أو يحط من شأن دينهم الكريم الذي ارتضاه الله لهم. وفقنا الله، ووفق الله المسلمين في عمل كل ما فيه رضاه، ونصرهم سبحانه على أعدائهم وأعداء الدين. آمين.

                                           ( 2 )

تكلم جناب القُمّص زكريا بطرس في بداية حديثه في سلسلة "أسئلة عن الإيمان" عن فكرة الثالوث، وبيّن أن المسيحية التي يؤمن بها لا تدعو إلى عبادة ثلاثة آلهة، وإنما هو إله واحد في ثلاثة أقانيم. وراح على مدى أربع حلقات يحاول شرح هذه الفكرة مستخدما أسلوبه الجذاب مع السيدة ناهد محمود متولي. وكما بينتُ في الحلقة السابقة، كان أسلوب جناب القُمّص يقوم على ست قواعد، ولا مانع من الإشارة السريعة إليها لتذكير المشاهد الذي لم ير الحلقة الماضية، بالأسلوب المنطقي المغلوط الذي يستعمله جناب القُمّص، إذ يعتمد في حديثه على ما يلي:

أولا: سوء تفسير بعض المقتبسات من الكتاب المقدس ليخرج بمعنى لا يحتمله النص.

ثانيا: يقدم أفكار تبدو أنها صحيحة ولكنها تقوم على أساس خاطئ، ثم يخرج منها بقاعدة يبني عليها عقيدة.

ثالثا: يخلط كثيرا بين الحقيقة والمجاز.

رابعا: يتعمد تحريف النص لاستعماله في إثبات وجهة نظره.

خامسا: يتهم المشاهد المسلم بأنه لا يقرأ، وأنه إذا قرأ لا يفهم، وإذا فهم لا يقبل الحقيقة.

سادسا: يستخدم أراء بعض المفسرين ويعتبرها ملزمة لجميع المسلمين، كما هو الحال عندهم في المسيحية حيث يلتزم شعب الكنيسة بتفسير المفسرين.

وبعد الحلقات الأربع الأولى عن التثليث، راح جناب القُمّص يحدثنا في أربع حلقات أخرى عن التجسد، وكيف أن الله قد تجسد في جسد يسوع، وشرح السبب الذي دعاه إلى ذلك وهو تحقيق الكفارة، وهي أن المسيح قد مات على الصليب فداء عن الناس، وبذل نفسه كفارة عنهم ليغفر الله لهم الخطية التي ورثوها عن آدم. وعلى مدى ست حلقات أخرى، حدثنا جناب القُمّص عن الكفارة وشرح أن الكفارة هي المحور الذي يدور حوله الكتاب المقدس كله، وهي العمود الفقري الذي تقوم عليه المسيحية. ولذلك رأيتُ أن أبدأ بتناول هذه الحلقات الست التي تتعلق بالعمود الفقري الذي تقوم عليه المسيحية التي يؤمن بها جناب القُمّص، لنرى في النهاية هل هناك فعلا أساس سليم وقوي تقف عليه هذه المسيحية، أم أن عمودها الفقري مخلوع ومفكك ولا ترتبط فقراته بعضها ببعض.

وأنا حين أتكلم عن المسيحية فإني أتكلم عن ذلك الوجه من المسيحية التي قدمها لنا القُمّص زكريا بطرس، فالمسيحية لها أوجه كثيرة، وكما يقول المثل "لها ستون وجه" أي لها أوجه كثيرة. وعلى ذلك فأنا أؤكد احترامي لكل مسيحي لا يؤمن بما يؤمن به جناب القُمّص، وأحترم أيضا حق كل إنسان في أن يؤمن بما شاء من عقائد، مهما كانت سفيهة أو مغلوطة، فحق الاعتقاد من حقوق الإنسان الأساسية، ولا بد من احترامه، ومن حق كل إنسان أن يعبر عما يؤمن به من عقائد، مهما كانت سفيهة أو مغلوطة، كذلك فإن من حقه أن يدعو الآخرين إليها، ولكن ليس من حقه تسفيه آراء الآخرين، ولا جرح مشاعرهم، ولا التحقير من مقدساتهم. فإذا فعل أحد ذلك، فإنه يعطي للآخرين الحق في أن يعاملوه بالمثل، ويردوا عليه بنفس أسلوبه، ويكيلوا له بنفس مكياله، وهذا ما يقرره الكتاب المقدس الذي يقول: "بالكيل الذي به تكيلون يُكال لكم" (متى3:7). وقد وقع جناب القُمّص في هذا الخطأ في حق الإسلام والمسلمين، وبذلك فقد أتاح لنا الفرصة للرد عليه، خاصة وأنه كان يتحدى ويطالب وينادي بأن يرد عليه أحد. فشكرا يا جناب القُمّص على هذه الفرصة العظيمة التي أتحتها لنا، ولكن عليك أن تتحمل وزر ما فعلت، ولا تدعو أتباعك أن يهرعوا إلى السلطات لوقف الرد عليك، ولا تطلب منهم أن ينظموا المظاهرات ويعتصموا في الكاتدرائيات ويسجلوا الاعتراضات. لقد بدأت أنت بالعدوان، ونحن لا نفعل شيئا سوى أننا نستجيب لندائك ونقبل تحديك ونرد عليك بما تستحقه، ولكن بالعقل والمنطق وليس بالأكاذيب والمغالطات.

موضوع الحلقات الست التي تناولها القُمّص بطرس من الحلقة التاسعة إلى الحلقة 14 هو موضوع خطيئة آدم عندما أكل من الشجرة التي نهاه الله عنها، ولأن الله عادل، كان لا بد أن يوقع العقاب، والعقاب هو الموت، ونتيجة لذلك ورث الجنس البشري كله الطبيعة البشرية الخاطئة، كما ورث أيضا حكم الموت الأبدي في نار جهنم، ولكن الله رحيم كما هو عادل، ولذلك رحمته اقتضت أن يتجسد ويحل في المسيح ليموت على الصليب، وبذلك يرفع حكم الموت من على البشر، وبذلك يكون نفذ عدله بتوقيع العقوبة على المسيح، وفي نفس الوقت نفذ رحمته بأنه رفع العقوبة من على البشر، لأنه يحبهم ولأن الله محبة.

بدأ جناب القُمّص في الحلقة التاسعة فراح يحدثنا عن الحكاية من البداية. فيقول:

"إن الله لما فكر يخلق إنسان، خلقه على أبدع صورة ومثال، على رأي القرآن برضه يقولك في أحسن تصوير، مش كده؟"

لا يا جناب القُمّص، مش كده! فالقرآن لم يقل في أحسن تصوير وإنما قال في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[، ولعلها كانت زلة لسان، ولم يكن التزوير متعمّدا، ولكن لو كنتَ اكتفيتَ بتقديم عقائدك دون أن تحاول الاستدلال على صحتها بالقرآن المجيد، لما وقعت في هذا الخطأ.

ثم يستطرد جناب القُمّص فيقرأ من الكتاب المقدس:

"فخلق الله الإنسان على صورته، على صورة الله خلقه"، ثم يعلق على ذلك فيقول: "مش مناخير وعنين ولكن على صورة البهاء، العظمة، العقل، الخلود، الإنسان مخلوق عاقل زي الله، خالد زي الله، مش كده؟".

لأ يا سيدي مش كده! من أين جئت بهذا الكلام، هل قال الكتاب المقدس أن الله خلق الإنسان عاقل زي الله وخالد زي الله؟ أم أن هذا هو مفهومك وتفسيرك الذي تريد أن تقحمه على الكتاب المقدس؟ إذا كان الله خلق الإنسان عاقل زي الله، فلا بد أنه كان يعرف الخير والشر، ولكن الكتاب المقدس يقول إن الإنسان لم يكن يعرف الخير والشر قبل أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر، ولذلك بعد أن أكل منها يقول الكتاب عنه: "وقال الرب الإله هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين23:3)، إذن الإنسان لم يكن عاقلا مثل الله قبل أن يأكل من شجرة معرفة الخير والشر. ثم تقول إن الإنسان خالد زي الله، ولكن الكتاب المقدس يبين أن الله لم يخلق الإنسان ليكون خالدا مثل الله، إذ يقول: "وجبل الرب الإله آدم ترابا من الأرض، ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفسا حية" (تكوين7:2)، أي أن الله خلق آدم من مادة، من تراب، ولو كان الله يريده أن يكون خالدا، لخلقه مثل الملائكة، ولما قال له بعد صدور الحكم عليه: "حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها، لأنك تراب وإلى تراب تعود". أي أن العقاب الذي أصدره الله عليه سوف يستمر حتى يعود إلى الأرض، وعودته إلى الأرض ليست بسبب العقاب ولكن بسبب أنه تراب فإلى التراب يعود. فأين الخلود الذي تدّعي به يا جناب القُمّص؟ اقرأ كتابك جيدا، وحاول أن تفهم ما هو مكتوب وليس ما تريد أن تلصقه بالنص. ليس هناك أي كلمة تشير من قريب أو بعيد إلى أن الله خلق الإنسان ليكون خالدا، بل بالعكس، هناك نص صريح على أنه سيعود إلى التراب لأنه خلق من تراب، ليس لأنه أخطأ، ولكن لأنه خُلق من تراب. فهل تريد منا أن نصدقك ونكذب الكتاب المقدس الذي تؤمن به، أم تريد منا أن نصدقك ونكذب ما قاله الله تعالى في جميع الأديان من أن هذه الحياة الدنيا هي فترة مؤقتة وسوف تنتهي لتبدأ بعد ذلك حياة أخرى، تقول عنها جميع الأديان أنها هي التي سوف يكتب لها الخلود؟

إن ما تقوله يا جناب القُمّص هو محاولة "فاشلة" لتبرير وجود الموت، فقد ظننت كما يظن البعض أن الموت يتعارض مع محبة الله للإنسان، ولذلك كان لا بد من اختراع سبب للموت بعيدا عن الله الذي تصفونه بأنه "محبة"، وكان المخرج من هذه الورطة هو أن تنسبوا سبب الموت لخطيئة آدم. وقد تحتج عليّ وتقول إن الكتاب يقول: "وأوصى الرب الإله آدم قائلا: من جميع شجر الجنة تأكل أكلا، أما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها، لأنك يوم تأكل منها موتا تموت" (تكوين16:2)، ولعلك تستنتج من ذلك أنه لو لم يأكل آدم من الشجرة لعاش إلى الأبد، ولكن هذا الاستنتاج خاطئ لسببين، أولا: إن آدم لم يمت في اليوم الذي أكل فيه من الشجرة؛ ثانيا: إن الله بيّن وشرح معنى قوله "موتا تموت"، كما بيّن أيضا وشرح سبب عودته إلى التراب، فقال: "ملعونة الأرض بسببك، بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، وشوكا وحسكا تُنبت لك وتأكل عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا" (تكوين17:3) كانت هذه هي العقوبة التي عبر الرب الإله عنها بقوله: "موتا تموت"، وسوف تستمر هذه العقوبة "حتى تعود إلى الأرض التي أُخذتَ منها"، أما لماذا يعود إلى الأرض؟ فيجيب الكتاب المقدس على ذلك بقوله: "لأنك تراب وإلى تراب تعود" (تكوين17:3).

وهنا قد يحلو لجناب القُمّص أن يتهمني بالجهل، وأني لا أقرأ، وإذا قرأت لا أفهم، فيقول إن كلمة "يوم" في قوله "يوم تأكل منها" لا تعني يوم 24 ساعة، ولكن تعني ألف سنة، وبالتالي يكون قصد الرب الإله هو أنك سوف تموت في خلال ألف سنة. فإذا قلنا من أين أتيت بهذا المعنى؟ كانت الإجابة مثيرة للضحك والعجب، إذ سوف يذكر على الفور قول بطرس الرسول في رسالته الثانية الإصحاح 3 والعدد 8 حيث قال: "أن يوما واحدا عند الرب كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد" (2بطرس8:3). وعلى هذا يكون قوله "يوم تأكل منها موتا تموت" أي أنك إذا أكلت منها فإنك سوف تموت خلال ألف سنة.

هذا هو الأسلوب الذي يتّبعه جناب القُمّص، إذ أنه يستعمل فقرات لا علاقة لها بالموضوع ويلوي معناها لتنطبق على الموضوع الذي يتكلم عنه. وتصوروا يا حضرات المشاهدين، هذا الرب الإله العاقل الحكيم، الذي يصدر حكما على إنسان، ولا يشرح له ما يقصده بكلمة "يوم تأكل منها"، وما إذا كان المقصود منها يوم كما هو معروف أو أن المقصود ألف سنة. ثم تأتي من بعد آدم أجيال وأجيال، وهم لا يعرفون أن كلمة يوم تعني ألف سنة، ثم يأتي موسى ويكتب التوراة، أي الكتب الخمسة الأولى من العهد القديم، ولكنه لا يذكر شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم تمر أجيال وأجيال ويأتي أنبياء يكتبون ويضيفون إلى العهد القديم، ولا يقولون شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم تمر أجيال وأجيال، ثم يأتي السيد المسيح، ولا يذكر شيئا عن أن اليوم يساوي ألف سنة، ثم يأتي بطرس الرسول بعد أكثر من 4000 سنة بعد آدم، ويرسل لأصحابه رسالة ورسالتين، وفي الرسالة الثانية يذكر جملة تدل على أن الزمن لا يعني شيئا بالنسبة لله، وأن اليوم عنده كألف سنة والألف سنة كاليوم، وهنا تنفك العقدة، ويجد جناب القُمّص بطرس وزملاؤه معنى لتحديد طول اليوم الخاص بآدم فيقول إنه ألف سنة، مع أن الجملة التي كتبها بطرس الرسول لا تعني ذلك أبدا، بل إنها تعني أن الزمن لا يعني شيئا عند الله. فهل يوجد ما يثير الضحك أكثر من هذا؟

ثم يا جناب القُمّص، لقد شنّفت آذاننا بأن الله محبة، فلماذا تنسب إلى الله القسوة والظلم والسادية الفظيعة هذه؟ هل الله الذي هو محبة يتمتع بعقاب مخلوقه آدم الذي خلقه بمحبة كما تقول؟ لعلك تقول إن الله عادل أيضا، وأن عدله يستدعي تنفيذ العقوبة. ولن أخوض معك في هذه القضية الآن، ولكن العدل كما تراه أنت، وكما يراه كل إنسان عاقل، هو تطبيق العقوبة كما جاءت في القانون، والقانون الذي وضعه الله هو: "يوم تأكل منها موتا تموت". ولو سلمنا معك أن آدم كسر القانون وعصى الله، يكون من مقتضيات العدل أن يُطبق الحكم، وهو: "موتا تموت". فهل هذه هي العقوبة التي طبقها الله؟ إن كتابكم المقدس ينسب إلى الله أنه قال: "لأنك سمعت لقول امرأتك وأكلت من الشجرة التي أوصيتك قائلا لا تأكل منها، ملعونة الأرض بسببك". طيب وما ذنب الأرض؟ وهل لعنة الأرض كانت داخلة ضمن القانون الذي وضعه الله؟ وليس هذا فقط، وإنما يسترسل الرب الإله في تفصيل العقوبة التي لم تأت في القانون الذي وضعه بنفسه، فيقول: "بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك، شوكا وحسكا تنبت لك وتأكل من عشب الحقل. بعرق وجهك تأكل خبزا"، وهو لم يكتف بهذا، بل إن هذا الرب الإله الرحيم العادل يقول للمرأة: "تكثيرا أكثّر أتعاب حبلك، بالوجع تلدين أولادا وإلى رجلك يكون اشتياقك وهو يسود عليك"، مع أن المرأة المسكينة لم تكن تعرف أن كل هذه البلايا سوف تنصب على رأسها. كل ما كانت تعرفه هو ما قالته للحية: "من ثمر شجر الجنة نأكل، وأما ثمر الشجرة التي في وسط الجنة فقال الله لا تأكلا منه ولا تمسّاه لئلا تموتا". فهل من العدل أن يضع الله قانونا للعقوبة ثم عند التنفيذ يطبق عقوبة أخرى إضافية؟ هل يقبل أحد أن يقول القانون: من خالف إشارة المرور يدفع 100 جنيه غرامة، ولكن عندما يقع أحد في هذه الخطيئة، يتبين أنه سوف يقضي كل أيام حياته في الأشغال الشاقة المؤبدة، وأن زوجته سوف تُطرد من البيت، وأن أولاده سوف يُشرّدون، ثم عليه أيضا أن يدفع غرامة المائة جنيه؟ هل هذا هو العدل الذي تنسبونه إلى الله الذي هو محبة؟ اتفضل جاوب يا جناب القُمّص، هل هذا هو الحب الذي يحمله الرب الإله في الكتاب المقدس؟ وهل هذا هو العدل الذي تصرون على التمسك به وبضرورة تطبيقه؟ ولعلك تقول إن مخالفة إشارة المرور لا تعادل خطيئة آدم، هذا صحيح، ولكن مهما عظمت الخطيئة، فإن العدل يقتضي ألا يُزاد في حجم العقوبة عند التطبيق، وإنما يجب أن يُكتفى بتطبيق العقوبة التي جاءت في نص القانون دون أي زيادة، لأن أي زيادة هي مخالفة للعدل، بل هي عين الظلم.

ثم هل من العدل يا جناب القُمّص محاسبة إنسان لا يعرف الفرق بين الخير والشر؟ أنت تدّعي أن الله خلق الإنسان عاقل مثل الله، ولكن كتابك المقدس يقول إنه لم يكن يعرف الخير والشر، وكل ما قاله له الرب الإله هو أن يأكل من جميع شجر الجنة، ولكن لا يأكل من شجرة معرفة الخير والشر لأنه يوم يأكل منها موتا يموت. لم يحذره مثلا من أن يسمع لكلام الشيطان، بل لم يخبره أصلا بأن هناك شيطان يريد أن يوقعه في الخطيئة. لم يقل له إن عليه أن يتأكد من مصدر كل طعام تعطيه له زوجته حواء. فماذا حدث؟ تقول يا سيدي بأسلوبك المسرحي إن الشيطان: 

"راح لحوا، لأن حوا بتحب الاستطلاع، قال لها هوه ربنا قال لكم ما تكلوش من جميع شجر الجنة؟ قالت لأ، مين قالك كده؟ قالنا تاكلو من جميع شجر الجنة ما عدا شجرة واحدة بس، الشجرة دهي، شجرة معرفة الخير والشر. فالشيطان قالها: ليه؟ اشمعنى دي؟ قالت له ربنا قال يوم ما تاكلوا منها موتا تموتا. قالها لا. ابتدا يكذّب ربنا، قال لها لن تموتا، إمّال ربنا منعنا منها ليه؟ آه.. لا.. إنت مش فاهمة. أنا عارف ربنا، أنا كنت عنده فوق، ربنا ده مكّار، خايف، لما تاكلوا من الشجرة دي، تبقوا زيّه، تعرفوا الخير والشر، كده لوحدكم. لما تاكلوا من الشجرة دي، تستقلوا عن الله. سماها تستقلوا عن الله لكن هية في الحقيقة تنفصلوا عن الله".

طيب. لدينا الآن اثنان متهمان بمعصية الله، ألا يقتضي العدل الإلهي أن نبحث في الظروف التي وقعت فيها الجريمة، إن كانت هناك جريمة؟ اثنان لا يعرفان الفرق بين الخير والشر، جاء إليهم الشيطان في صورة حية من مخلوقات الله الذي يحبهما، وقال لهما إنه كان فوق عند ربنا، وإنه عارف إنهما إذا أكلا من الشجرة لن يموتا، وسوف يعرفان الخير والشر مثل الله. فهل يقع اللوم على آدم وحواء لأنهما يريدان أن يكونا مثل الله ويريدان أن يعرفا الخير والشر؟ هل يقع عليهما اللوم لأنهما سمعا لكلام مخلوق من مخلوقات الله الذي هو محبة، لا يعرفان عن ذلك المخلوق شيئا ولم يحذرهما أحد منه؟ أين العدل يا جناب القُمّص؟ إذا كان هناك أحد مسئول عن وقوع آدم في الخطيئة حسب الرواية التي رويتها بلسانك، فهو الرب الإله الذي خلق الشيطان، وسمح له أن يضل آدم وحواء، ولم يحذرهما منه. لا شك أنهما خُدعا، ولكن لم تكن لديهما النية على ارتكاب المعصية، وإنما ظنا أنهما يقومان بعمل طيب، إذ يجب أن نضع في الاعتبار أنهما لم يكونا يعرفان الخير والشر.

ثم يقول الكتاب المقدس: "فرأت المرأة أن الشجرة جيدة للأكل، وأنها بهجة للعيون، وأن الشجرة شهية للنظر، فأخذت من ثمرها وأكلت. وأعطت رجلها أيضا معها فأكل، فانفتحت أعينهما وعلما أنهما عريانان، فخاطا أوراق تين وصنعا لأنفسهما مآزر" (تكوين6:3).

إذن حسب كلام الكتاب المقدس، كان الشيطان على حق، لأنهما أكلا من الشجرة ولم يموتا، وانفتحت أعينهما وصارا يعرفان الخير والشر فعلا، بدليل اعتراف الرب الإله الذي قال: "هو ذا الإنسان قد صار كواحد منا عارفا الخير والشر" (تكوين 23:3). ثم ما ذنب آدم الذي سمع لكلام زوجته؟ هل كان يعلم أن ما يأكله من يدها هو من الشجرة المحرّمة؟ الكتاب المقدس لا يبين هذا الأمر، بل يبين أنه لم يكن حاضرا عندما كان الشيطان يتكلم مع حواء، لأن الكتاب يقول إن الحية تكلمت مع المرأة، ولو كان آدم موجودا لاشترك في الحديث، ولكن الكتاب يبين أنه لم يشترك في الحديث بتاتا، مما يدل على أنه لم يكن موجودا، وبالتالي فإنه لم يكن يعلم أن الثمرة التي أعطتها له حواء كانت من الشجرة المحرمة. ومما يدل على ذلك أن الله لما سأله: "هل أكلت من الشجرة التي أوصيتك أن لا تأكل منها" لم يقل نعم أكلت منها، لأنه لم يكن يعرف أنه أكل منها إلا بعد أن انفتحت عينه، فعرف أن حواء أعطته الثمرة المحرمة دون علمه، ولذلك قال لله: "المرأة التي جعلتها معي هي أعطتني من الشجرة فأكلت" (تكوين12:3)، أي ما ذنبي أنا، أنت لم تحذرني من هذه الأمور ولم تلفت نظري إليها.

إن أي محكمة أرضية تتمسك بأهداب العدل لا بد أن تحكم لآدم بالبراءة، ومع ذلك نجد أن الكتاب المقدس ينسب للرب الإله العادل أنه لعن الأرض وحكم على آدم أن يأكل شوكا وحسكا وأعشاب الحقل، وأن يقضي كل أيام حياته بالتعب، ويأكل خبزه من عرق جبينه. والغريب أن هذا الرب الإله لم يعترف بتقصيره في تحذير آدم وحواء من الشيطان، وكيف أنه تركهما يقعان في حبائله دون أن يلفت نظرهما إلى الخطر الذي يمكن أن يصيبهما من كلامه.

ثم يأتي جناب القُمّص زكريا بطرس فيتساءل عن السبب في خلق الشيطان، فيقول:

"طب ما هو عارف إن الشيطان حيوقع الإنسان، حيغوي الإنسان ويوقعه، حيوقعه حيوقعه، طب خلقه ليه، سمح له ليه؟" ثم يجيب جناب القُمّص على السؤال الذي وضعه بنفسه فيقول: "الحقيقة إن ربنا مخلقش الشيطان، إمّال إيه؟ الشيطان خلق نفسه؟ لأ. الله خلق ملاك، وكان الشيطان رئيس الملائكة".

                   (3 )

ذكرنا في الحلقة الماضية أن القمّص زكريا بطرس كان يحاول أن يثبت أن آدم وحواء قد وقعا في الخطية عمدا، وعلى ذلك فكان لا بد من تطبيق العقوبة عليهما لأن الله عادل. ولكننا أثبتنا من الكتاب المقدس أن ما حدث يتنافى مع عدل الله تعالى، لأن من مقتضيات العدل أن تُوَقّع العقوبة كما جاءت في نص القانون، وكان نص القانون هو "يوم تأكل منها موتا تموت"، لذلك كان ينبغي أن يموت الإنسان دون أي زيادة إضافية في العقوبة. بينما يرى جناب القمّص، أن العدل الذي يفهمه هو، والذي تعلمه من كتابه المقدس، لا يمنع أن تُضاف عقوبات أخرى عند توقيع العقوبة رغم أنها لم تأت في نص القانون. وطبعا لو طبقنا هذه القاعدة القانونية التي يؤمن بها جناب القمّص في مجتمعاتنا المدنية وفي الاتفاقات بين الأفراد أو بين الدول، لتحوّل العالم إلى فوضى وظلم واستبداد ما بعده استبداد. فمثلا، إذا اتفقت مع عامل على أنه يؤدي لي مهمة معينة في خلال ثلاثة أيام مقابل مبلغ 500 جنيه، مع وجود شرط جزائي، وهو أنه إذا تأخر العامل في إنجاز العمل في المدة المتفق عليها تُوَقّع عليه غرامة تأخير بواقع 100 جنيه عن كل يوم تأخير.  ثم نفترض أن العامل تأخر يومين، يكون من العدل خصم مبلغ 200 جنيه من المبلغ المتفق عليه. ولكن حسب عدل الكتاب المقدس، يحق لي أن أخصم منه 400 جنيه أو أكثر، وأن أقوم بضرب العامل ووضعه في السجن، وأن أذهب إلى بيته وأشعل فيه النار، وأجعل حياة زوجته وأولاده جحيما لا يطاق. فهل ترضى يا جناب القمّص أن يطبق أحد عليك مثل هذا العدل؟ وإذا كنت تستنكر هذا التصرف وترفضه، كما يستنكره كل إنسان عاقل، فكيف تسمح لنفسك أن تنسب مثل هذه التصرفات الحمقاء إلى الرب الإله الذي تؤمن به؟ وهل هناك شريعة في العالم تأمر بتطبيق هذا الظلم؟ إنك تتهم المسلمين بأنهم لا يقرأون، وإذا قرأوا لا يفهمون، أليس من الأولى بك يا جناب القمّص أن تتفكر قليلا فيما تؤمن به من أفكار عقيمة لا تصلح للتطبيق، ولا تليق بالعقلاء، ولا يجوز أن تُنسب للرب الحكيم؟

وكما حاول جناب القمّص أن ينسب وجود الموت إلى خطيئة آدم، لأنه ربما ظن أنه لا يصح لإله المحبة أن يميت مخلوقاته التي يحبها، فإنه حاول أيضا أن يقنعنا بأن الله لم يخلق الشيطان، وإنما خلق ملاكا، وجعله رئيسَ الملائكة، ولكن الكبرياء طغى عليه، فعاقبه الله بأن أنزله إلى الأرض، وهو الذي أوقع آدم في الخطية. وكأنه يقول إن الله ليس مسؤولا عن ضلال آدم وإنما الشيطان هو المسؤول. فإذا سألنا جناب القمّص من أين أتى بهذه المعلومات، نراه يقول إن هذا جاء في سفر إشعياء الإصحاح 14، وفي سفر حزقيال الإصحاح 28. ويستخدم جناب القمّص مواهبه المسرحية فيقرأ لنا من سفر إشعياء، ولا ينسى أن يُدخل تفسيراته بين الكلام، ولذلك وضعنا كلامه بين قوسين، فيقول:

akramalsayed

مرحبا بك اخي الزائرنرجو ان ينال الموقع اعجابك الكلمة الطيبة جواز مرور إلى كل القلوب

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 152 مشاهدة
نشرت فى 14 ديسمبر 2011 بواسطة akramalsayed

ساحة النقاش

اكرم السيد بخيت (الطهطاوي)

akramalsayed
ثقافي اجتماعي ديني »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

904,220