طه بافضل
كثير من الناس يحلم بتغيير في محيط حياته وأسرته؛ فمنهم من يأمل أن يرتفع راتبه الشهري، وآخر ينشد الوصول إلى وظيفة تليق بقدراته ومهاراته، أو حتى تسد حاجته وفاقته، وثالث يطمح بمشروع العمر من تجارة أو زواج أو غير ذلك، وكلٌ يحلم بما يشتهيه ويرغبه لينال السعادة والهناء في حياته.
ومن الناس من تتسع دائرة أحلامه لتشمل ربوع وطنه وتقاسيم جغرافيته في الفيافي والقفار والسواحل والهضاب والوديان. إنه يحلم بتغيير كابوس التخلف والفساد والظلم، ويكسر كل الأغلال التي صكت على مجتمعه، فهو يخطّ بعقله قبل قلمه خريطة أحلامه وخواطر أفكاره، إنه يرسم وطناً خالياً من المنغّصات إلاّ النزر اليسير الذي هو بمثابة ملح الطعام؛ إذ لا مفر من وجوده على مر الأزمان، ويتخيل شعبه وهو يهنأ بعيش رغيد وحكم رشيد، وبذل وعطاء بدون تحديد..
إنها عزة الأوطان.
إن الأحلام والأماني ليست حكراً على أحد، بل هي متاحة للجميع، وهي أوفر وأكثر تواجداً لأصحاب القلوب الكبيرة والضمائر الحية والمشاعر المتوقدة؛ فهي تُذكرهم بالواقع والمصير والمستقبل، وقد كان زهير بن أبي سُلمى يقول:
تُذَكّرُني الأحلامَ لَيْلَى وَمَنْ تُطِفْ... عَلَيْهِ خَيَالاَتُ الأحِبَّةِ يَحْلُمِ "لقد رُكِّز في الفطرة البشرية حب التغيير والتبديل، وحب الكشف والاستطلاع، وحب الانتقال من حال إلى حال، ومن مكان إلى مكان، ومن مشهد إلى مشهد، ومن نظام إلى نظام.. وذلك كي يندفع الإنسان في طريقه، يغير في واقع الحياة، ويكشف عن مجاهل الأرض، ويُبدع في نظم المجتمع وفي أشكال المادة.. ومن وراء التغير والكشف والإبداع ترتقي الحياة وتتطور؛ وتصل شيئاً فشيئاً إلى الكمال المقدر لها في علم الله". دببْت للمجد والساعون قد بلغوا... جهدَ النفوس وألـقوا دونه الأُزرا هيهات هيهات أن تكون رحلة التغيير بهذه السهولة. إن الذي تعوّد على عادات سيئة كشرب الدخان، أو مضغ القات، وتناول المخدرات، أو مَن تطبّع على أخلاق رديئة كالسب والشتم والغيبة والنميمة ونحو ذلك، ليس بإمكانه أن يغيرها بين غمضة عين وانتباهتها حتى يمر بمراحل من الصبر والمكابدة والإرادة الصادقة، والعزيمة الماضية، والهمة العالية، وعند الصباح يحمد القوم السُرى. لنا معاشرُ لن يبنوا لقومهــم... وإنْ بنى قومُهم ما أفسدوا عادوا وهؤلاء بحسب النتائج التي أفرزتها الوقائع لن يفلحوا في إحداث تغيير إيجابي بل هو سلبي ومدمر لكل ما هو طيب ومثمر في الحياة، والمصيبة عندما تُلبس هذه التصرفات بلبوس الدين والشهادة في سبيل الله سبحانه فتصبح هذه الأفعال من التفجيرات والقتل مُقدّسة يريد أصحابها الوصول إلى باب الجنة، وينعموا بالنعيم المقيم والخير الوفير عند السميع البصير، هراء ما بعده هراء يقترفه جمع من الشباب الذين تلقنوا مفاهيم مقلوبة ومعكوسة وغير مضبوطة بضوابط الأحكام المرعية في السياسة الشرعية، بل هي تلقين خاطئ وإزهاق نفس كرّمها خالقها أعظم تكريم. حذارِ بُنيَّ البغيَ لا تقربنَّهُ... حذارِ فإنَّ البغيَ وخمٌ مـراتعُهْ
والسعي للتغيير والارتقاء والسمو إلى مدارج الكمال في الأفعال والأقوال والأحوال من شيم العقلاء والحكماء، إلاّ أن هذه الأحلام وتلك المساعي لها ضرائب مستحقة، ومجاهدة مستمرة، وتبعة ثقيلة يجب أن يبذلها صاحبها من وقته وراحته وهدوء باله، ومن ماله بل قد يصل به الحال، أن يبذلها من نفسه حتى يتحقق له هذا الحلم ولأولاده وأحفاده ولشعبه والأجيال من بعده.
فمن الناس من يعتقد أنه بمجرد أن يبدأ بالسعي لتحقيق الحلم فسوف يصل إلى ما يريد، فإذا طال به الطريق، وزادت عليه المطبات، وكثرت حوله العقبات ووصل إلى طريق مسدود، أو أحاطت به الفتن وتناوشته سهام الظلم والجحود والإجحاف والتعذيب إذا هو يلملم الأوراق، ويجمع الثياب، ويغلق حقيبة سفر الأحلام راجعاً إلى حاله السابق، شعاره السلامة لا يعدلها شيء. إنه لم يضع في حسبانه الشدة والبأساء، بل كان يظن أن الأمر سيكون على حال دائم من الرخاء والسرّاء، لم يُعِدَّ نفسه لشيء من الضيق والتعب والألم، والنوم على حصير الأوجاع وتقلبات الأيام والأوضاع، لقد كان هذا الحالم يرقد على وسادة طبيّة، وعيشة رخيّة، وحياة لا تكدّرها منغصات الحياة اليومية، فأنّى لهذا أن يصبر!
وكابدوا المجدَ حتى ملَّ أكثرُهـم...وعانق المجدَ مَن أوفى ومَن صبــرا
فكيف بتغيير وطن يئن من كثرة المصائب والجراح والنكبات؟ فهذا يتطلب ممن تصدى للتغيير أن يعلم جيداً أن الأمر ليس هيناً أو سهلاً، ولا طريقاً معبداً بالورود والرياحين، وليس من السهولة والسرعة تغييره بل هو بحاجة إلى جهود وخطط، وتقديم وتأخير، وحنكة وفطنة، وترقب ومتابعة، وبذل وتضحية، وثقة بالقضية التي يحملها، وإيمان صادق وراسخ بها، وفهم لمعطياتها ومخارجها، وإخلاص حقيقي لمبانيها ومعانيها، حينئذٍ ستكون الثمرة ناضجة لذيذة، حتى وإن طالت مرحلة الإنضاج. وربما مات المصلح الصالح، ولم يحصل في حياته التغيير المنشود، ولكنه وضع البذرة الطيبة، فجاء بعده من قام بها، ورعاها، وحافظ عليها، وتمسّك بها إلى أن صارت شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء.
و"النفس البشرية قد تستغرقها اللحظة الحاضرة، وما فيها من أوضاع وملابسات، وقد تغلق عليها منافذ المستقبل، فتعيش في سجن اللحظة الحاضرة، وتشعر أنها سرمد، وأنها باقية، وأن ما فيها من أوضاع وأحوال سيرافقها ويطاردها.. وهذا سجن نفسي مغلق مفسد للأعصاب في كثير من الأحيان"، يجب أن تتخلص منه لتعيش الحياة على حقيقتها.
ومن الناس من ضاقت عليه السبل، وضعفت أمامه الحيل، وصار في حالة من التخبط إزاء الأحوال السيئة من حوله، والفساد المستشري أمامه، مما جعله يبحث عن مخارج من هذا الواقع المزري، فإذا هو يرى أن التغيير لن يكون إلاّ بنصب فوهات المدافع والدبابات، وأساليب شتى من التفجير والاغتيالات لكل من له أدنى صلة بمن تسبب في سوء أحوال وأوضاع أمته، ويحسب أنه سيصل إلى مراده المنتظر، ويقطع مسافات طريقه المختصر!! فغاب عن ذهنه أن هذا السبيل لم يكن يوماً خياراً وحيداً للتغيير بل هو أضعفها وأوهنها، ولا يحتاج إليه إلاّ إذا رجحت كفة المصالح المترتبة على فعله على كفة المفاسد الناتجة منه.
إن العجلة والحماس غير المنضبط الذي يلهب جوارح الغيورين على واقع الأمة لا تكون نتيجته إلاّ خسراناً وضياعاً وحسرة، وقد قال بعض البلغاء: "العجول مخطئ وإن أصاب. فكيف إذا أخفق؟ وقال:
العجلة من الشيطان. لا تغرنّك إصابتك مع العجلة، ولا يسوءنك إخطاؤك مع التأني والرفق. فإنك إذا عجلت فأصبت وافقت إصابتك قدراً لا محيص عنه. ولو لم تعجل لبلغت المراد كما بلغته لمّا عجلت، وإن كان ما أردت متعذراً في حال الرفق فهو مع العجلة أشدّ تعذراً؛ لأن العجلة رهق والتؤدة تأمل وبصيرة"؛
لا يرعوون ولن يرعوا لمرشدِهم... والغيُّ منهم معاً والجهلُ ميعـادُ
وفي المقابل فإن مثل هذه التصرفات غير المحسوبة التي يريد منها أصحابها تغييراً للواقع إنما هي درجة من مدارج التغيير تأصلت في نفوس مثل هؤلاء، عندما غفلت النخب الحاكمة في البلاد الإسلامية عن أمور مهمة كان الأولى منها مراعاتها والتأكيد على وجودها ودعمها وتأييدها، وأهمها نشر العدل والأمن بين الناس؛ فإن عواقب الظلم وخيمة، ثم الأخذ على يد كل ظالم وباغ وفاسد، والوقوف بحزم لكل من أراد، ويسعى لتمزيق البلاد وزعزعة استقراره، وضياع أمنه وخيراته..
فينبغي على العاقل أن يراجع حساباته، وينتهي عن سوء تصرفاته، ويصحح هفواته وزلاته؛ فهو خير له وأبقى وأسلم، فإن الأيام دول وتدور الدوائر على من لم يتق شرورها، ويستعدّ للعقبات في عبورها، فالحذر الحذر من تقلّب الزمان، وضياع الأمان، وتبدل الأحوال إلى أسوأ حال..
وكم قد رأينا الدهرَ غادر باغياً... بمنزلةٍ ضاقت عليه مطالِعُهْ