مرت في تاريخ الاسلام والمسلمين عدة أطوار تعرضت فيها المؤسسات الدينية، وعلى رأسها الفقهاء إلى ضغوط كثيرة. ألا أن بعضها لم تعش بمستوى الرسالة رغم انها انطلقت لتحفظ تعاليمها، فكان إن غيرت وبدلت وانحرفت عن النهج الحق. وبينما دفع العديد من علماء الأمة حياتهم ثمناً للاستقامة والنزاهة، وقع آخرون فريسة لنقاط الضعف وعوامل الإغراء أو الفهم المتجزئ للاسلام.
فأين ذلك الانحراف، وهل يمكن تفسيره بغموض مفاهيم الاسلام في بعض مسلحات الحياة. أم إن الواقع يكشف أن أولئك الضعفاء سقطوا في فخ اتباع الأهواء أو العجز عن مواجهة الانحراف.
ولعل أخطر جانب في تلك القضية كان تحوير مفهوم العبودية والعبادة بحيث عاد يطلق على الطقوس وأنماط التنسك.
وفي المعالجة التالية محاولة لتفسير ذلك الاتجاه في التفكير والسلوك الذي سارت عليه بعض المؤسسات الدينية.
إن أي فكرة لا تبدو فاعليتها في الواقع لا يمكن أن توصف بالوجود، ذلك إن الوجود هو الفعل. إن الانسان لا يعيش اخرج الفعل والانفعال، وما الفكرة إلا المقدمة التي لا بد منه للفعل والممارسة، ونحن لا نقيم أي فكرة إلا من خلال آثارها الواقعية فيكون الواقع ـ الوجود الموضوعي ـ هو المحك الرئيسي لأفكارنا.
والاسلام ـ إضافة إلى منابعه القدسية ـ لا يخرج عن كونه فكرة لا بد أن تكتشف مصداقيتها في أرض الواقع، وربما تأكدت هذه المقولة الآن أكثر من ذي قبل نظراً لما يحتاجه واقعنا اليوم من وجود العقل العملي، العقل الذي يتجاوز النظرية إلى الممارسة والوعود إلى الانجازات..
ألا إننا إذا رجعنا إلى تراثنا الفقهي وجدنا أن الشق الكبير من الفقهاء وخصوصاً بعض القائمين على رأس المؤسسة الدينية قد رفع شعار: ((الاسلام علاقة بين الانسان وربه)) ومن هنا وفي ظل تكريس الفهم الخاطئ لتلك المقولة ـ وهي كلمة حق أريد بها باطل ـ فن المسلم الحقيقي هو الذي يتوارى في المساجد ويقتل وقته في الأوراد وربما تجاوز ذلك إلى الشطحات الصوفية طلباً للحلول الإلهي..
وأمام سيادة هذا المفهوم للاسلام نشأ الرفض العنيف لأي محاولة تجديد مفهومية للاسلام حتى يكون في مستوى التحدي الحضاري القائم اليوم، وكانت طلائع ذلك الرفض متمثلة (في فقهاء السلطة) ومن لف لفهم. وكثيراً ما أسهمت المؤسسة الدينية في غرس ذلك اللون من التفكير المتجزئ للاسلام، ولم يكن نجاحها في ذلكإلا لما تكرسه من هيمنة معنوية على الجماهير. ولعلنا لا نبالغ حين نقول بأن المفهوم (الكنسي) للاسلام الذي كرسته بعض المؤسسات الدينية في الوطن الاسلامي قد شكل ولا يزال عقبة أمام حركات التصحيح الاسلامية. وهذا ما يسمح لنا بالقول في غير حرج بأن تلك المؤسسات المنتشرة في وطننا متحالفة، بقصد أو دون قصد، عملياً مع الأنظمة الفكرية أو السياسية السائدة، هذا فضلاً عن التحالف العضوي من أجل تمييع كل نفس ثوري يؤمن بالاسلام كمنهج حياة.
الاسلام استيعاب للواقع:
ونحن إذا تأملنا ذلك المفهوم السلطوي للاسلام الذي تطرحه تلك المؤسسات فإن بإمكاننا الكشف عن بطلانه من ناحيتين:
الأولى وانطلاقاً من إيماننا بأن الفكرة لا يمكن أن تحدد قيمتها إلا بما تتركه من بصمات في الواقع الموضوعي، وانطلاقاً من هذه القناعة نرى بوضوح أن ذلك المفهوم للاسلام لا يملك أي مصداقية في الواقع. وهنا نجد أنفسنا أمام احتمالين: أما التسليم بأن هذا المفهوم خاطئ ولا قيمة له، أو إننا نوجه هذه التهمة للاسلام وهنا يتنزل البحث من الناحية الثانية الممثلة في الرجوع إلى أصول الاسلام ومقاصده، وهذا ما لا يتحمل المقام تفصيله. ولكن ما لا يمكن الشك فيه أن الاسلام لم يكن منذ انطلاقته إلا استيعاباً وتجاوزاً للواقع. وهذا ما يفسره استقراء واقع ما قبل الاسلام ثم استقراء النصوص ـ القرآنية والحديثية ـ وهي الناطق الرسمي باسم الاسلام وحيث نرى بوضوح عمليتي الاستيعاب والتجاوز في تعامل الاسلام مع المعطى الواقعي أو الموضوعي.
ولا يمكن لأحد مهما كان أن يخرج الانسان عن دائرة المعطى الواقعي. فالانسان جزء من العالم الموضوعي وهو يمثل بغرائزه وأفكاره.. واقعاً لا يمكن إنكاره.. من هنا كان لا بد للاسلام من أن يتعامل مع هذا الواقع عبر عمليتي الاستيعاب والتجاوز وهو ما يعبر عنه بعملية التهذيب. وبعد فإننا نعلم كذلك أن الانسان لا يمكن أن يوجد ـ ولسنا نعني الوجود البيولوجي طبعاً ـ خارج العلاقات وبالتالي لا يمكن أن يوجد إلا في (المجتمع) ولعل ابن خلدون لم يجانب الصواب حين قال بأن الانسان اجتماعي بطبعه.
إذن الانسان، ذلك الكائن الاجتماعي، قد تفاعل معه الاسلام استيعاباً وتجاوزاً، والحقيقة أن لااسلام لا يمكن أن يلغي اجتماعية الانسان بل إننا لا نتصور هذا الإلقاء إلا إذا حكمنا على الانسان بالموت، من هنا كان الاسلام مستوعباً في (تنظيراته) اجتماعية الانسان دون أن يمنعه ذلك من تجاوز بعض أنماط من العلائق..
وإذا تفهمنا كيفية تعامل الاسلام مع الانسان كما بينا كان لا بد من إعطاء الدور الكبير للممارسة البشرية من نظر الاسلام.. ولكن فقهاء السلطة قطعوا الانسان عن كل فعل أو فعالية بما كرسوه من فهم كنسي للاسلام، فما هي حجتهم في ذلك يا ترى؟
إن النص المشاع لدى أصحاب الفهم التنجزيئي لتكريس مفهومهم هو قوله تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون، ما أريد منهم رزق وما أريد أن يطعمون) الذاريات 56 ـ 57.
انطلاقاً من هذه الآية نرى تقرير الغاية التي خلق من أجلها الانسان متمثلة في العبادة، وهذا التقرير لا مجال لانكاره من حيث المبدأ، غير أن مفهوم العبادة هو الذي نشأت عنه الخلافات. ولخدمة النظام الحاكم، اختارت بعض الاتجاهات الدينية حصر العبادة في الأركان الخمسة للاسلام وما اتصل بها من طقوس. بل لقد قرر بعض الفقهاء في أكثر من مناسبة أن تجاوز ذلك الحد يعد مخالفة للاسلام ومبرراً لاهدار الدماء كما فعل أحدهم مؤخراً حين رد على كتاب (الفريضة الغائبة).
والحقيقة ان فهم الآية على هذا النحو يجعلنا أمام اختيارين لا ثالث لهما:
الأول هو أن نعترف بالإثم والخطيئة خارج ممارسة الأركان الخمسة لأننا خالفنا الغاية التي خلقنا من أجلها وهي العبادة المتمثلة في الأركان الخمسة.
وأما الثاني ـ ولكي نتخلص من الإثم ـ فهو الاعتكاف في المساجد ولا نخرج إلا للحج أو لدفع الزكاة ـ إن أمطرت علينا السماء ذهباً وفضة ـ وهنا يقع أصحاب ذلك الاتجاه المبتسر أنفسهم وهم على كرسي الافتاء في تناقض مع مفهوم العبادة الذي اختاروه وتقولوه ولذلك يكونوا على رأس المذنبين والآثمين أللهم إلا إذا الحق منصب الافتاء بالأركان الخمسة!
وبعد وإذا بينا أن ذلك الفهم السلطوي للاسلام لا يؤدي إلا إلى طريقين مسدودين كان لا بد من البحث عن مفهوم آخر لتلك الآية الكريمة وغيرها من النصوص فنقول بأن الاسلام وقد أقر اجتماعية الانسان لأنها لا تنفك عنه: فقد كرس الكثير من الممارسات لصنع الشخصية الاسلامية التي تمارس تلك (الاجتماعية).
من هنا ندرك أن الطقوس متمثلة في الأركان الخمسة وغيرها لم تكن مقصودة لذاتها بل هي وسائل لبناء الشخصية الانسانية التي تصنع العلاقات الاجتماعية.
مفهوم العبادات:
إن الله لا يمكن أن يكون قد فرض علينا (الصلاة) مثلاً بتلك الكيفية، من أجل أن نمارسها فقط أو لاحتياجه إليها، ذلك أن الافتراض الأول أي الممارسة لأجل الممارسة ـ من شأنه أن يسم الأمر الإلهي بالعبثية وهذا محال عليه سبحانه ـ وأما الافتراض الثاني ـ أي كون الله محتاجاً لتلك الممارسات ـ فإنه يلحق صفة العجز وعدم القيام بالذات وهذا ما لا يمكن أن يتصف به الله تعالى عن ذلك علواً كبيراً.
وهنا قد يعترض علينا معترض فيقول بأننا نمارس (العبادات) كأوامر وبدون بحث عن الحكمة منها مما يسمح بالقول بأنها مقصودة لذاتها. ولكن هذا الاعتراض لا يمكن أن لغي مفهومنا (للعبادات) ذلك أن تلك الكيفية في التعامل مع الأوامر الإلهية ليست إلا وسيلة أخرى من وسائل تكوين الشخصية، غذ هي تعلمنا أن النقاش قد لا يكون مجدياً في بعض المواقف كأمر القائد للجندي حالة هجوم العدو ولئن كان مع هذا المثال فارق فإن ما نريد تأكيده هو أن قبولنا للأوامر الإلهية دون جدال إنما يربي في الشخصية قيمة التقبل والانفعال كما يعلمنا الاسلام نفسه وفي مواطن ومجالات أخرى قيمة الرفض والدهشة الفلسفية.
وكذلك فإن تركيز التعاليم الاسلامية على الجزاء الأخروي وإن كنا نؤمن به كحقيقة موضوعية خارج الشعور، يلعب نفس الدور حيث كان استحضار الجزاء الأخروي من أهم عوامل الانتصار لأن المجاهد المؤمن يمتلك نظرة خاصة للحياة وما الموت إلا القنطرة التي نمر فوقها نحو عالم الخلود. ولست أردد مفاهيم الاستشراق بل إن القرآن الكريم قد نص على ذلك الدور في أكثر من موضع منها قوله في آل عمران: (إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون وترجون من الله ما لا يرجون..).
إذن وقد عرفنا إن الاسلام إنما فرض علينا ما فرض من ممارسات تعبدية لأجل بناء شخصيتنا الفاعلة لا المنفعلة، فإنه بإمكاننا أن نتبين عظم الحيز الذي تشغله الممارسة الاجتماعية والسياسية في الاسلام حتى انه بإمكاننا القول بأن الفعل والممارسة الاجتماعيين والسياسيين يمثلان المقصد الرئيسي وما الطقوس إلا أدوات لتحقيق ذلك الفعل الانساني..
وبكلمة أخرى إننا لا نملك ـ وفقهاء السلطة كذلك ـ أن نلغي الممارسة الاجتماعية والسياسية وغيرهما لأنهما يمثلان حقيقة موضوعية فضلاً عن كونهما ضرورة حياتية، بل إن قدرنا أن نكون إحدى نقاط العلائق الاجتماعية والسياسية، فإما أن نكون طرفاً فاعلاً فنبني العلائق وفقاً لتصورنا الفلسفي والعقائدي وإما أن نكون طرفاً منفعلاً فنسير مع التيار حيث سار دون أن نفكر في أن نجدف ضده. وهذا ما يريده أصحاب ذلك الفهم الخاطئ، مما يؤكد تحالفهم مع الأنظمة المعادية للاسلام التي تعمل على تحنيطه وجعله ـ أي الاسلام ـ بعيداً عن موقع الدفع والتحريك لجماهير شعبنا وبالتالي ليكون افيوناً للشعوب، ولذلك تصدق مقولة ماركس حين قال: الدين افيون الشعوب، على يد فقهاء السلطة وانها لإحدى مفارقات هذا العصر.. ولعل صدق هذه المقولة هو الذي شرع لكثير من الشباب التوجه إلى ايديولوجيات أخرى آملاً في أن تكون أداة التغيير للواقع المتردي..
والحقيقة ان اسلاماً يقصي الانسان عن واقعه لهو جدير بأن يوضع في المتاحف الأثرية، ولكن الاسلام الذي هو جدلية عالم الشهادة وعالم الغيب لا يمكن أن يكون افيوناً للشعوب إلا في أذهان المصلحين المتصالحين من الفقهاء. ذلك إن التاريخ أكد ولا يزال يؤكد إن الاسلام ثورة على كل أشكال استلاب الانسان وإن النصوص الاسلامية ـ قرآن وسنة ـ تؤكد أن المسلم لا يمكن أن يكون ـ في زمن الاستلاب ـ إلا ثائراً على الاستلاب، ولعل ا لكاتب على شريعتي لم يجانب الصواب حين قال: إذا لم تكن شاهداً على الظلم في عصرك، واقفاً في ساحة الصراع بين الحق والباطل فكن ما تشاء.. محتسياً للخمرة أو مصلياً في المحراب فكلا الأمرين يصبحان سواء..
فهل وعي فقهاء السلطة هذه الحقيقة أم انه التآمر والتحالف مع الاستكبار من أجل ضرب الاسلام؟