قضية فهم القرآن، ووقوف الإنسان على توجيهاته وإرشاداته، وعبره، وقضاياه في الحياة، ليست أمراً فرعياً يحصله مَنْ يشاء، ويهمله مَنْ أراد، وليست قضية ثانوية على هامش الحياة، تحصل في أي وقت أو لا تحصل؛ إنّما هي بحق فريضة قرآنية، وضرورة حياتية؛ فهي فريضة قرآنية لهذه الآيات التي تعددت، وألحت في التأكيد على أهمية فهم القرآن (أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمّد/ 24)، (وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا) (الفرقان/ 73)، وغير ذلك من الآيات الكريمة، التي تحتاج إلى دراسة مفردة..
وهي ضرورة حياتية؛ لأن صلاح الإنسان في معاشه ومعاده رهن بفهمه لهذا الدستور الخالد، والمنهاج القويم؛ ذلك أنّ الله – تعالى – خلق الإنسان، ووضع له نظاماً يضمن له العزّ في الدنيا، والسعادة في الآخرة، هذا النظام هو القرآن الكريم، بأوامره، ونواهيه، وإرشاداته، وتوجيهاته، فإن استطاع الإنسان أن يفهم القرآن الفهم الصحيح عزَّ في الدنيا، وأعمرها، وارتفق خيرها، وبنى حضارتها، وصار – بحق – خليفة الله في أرضه، وأهلاً لهذا التكليف، ومحلاً لهذا التشريف، الذي فضّله الله – تعالى – به على سائر الخلق.
- دياجير الجهل:
وإنّ أخفق في تفهم هذا النظام، الذي هو موضوع لصلاحه وإصلاحه، كان كمن انطفأ النور أمام ناظريه، فأصبح في دياجير الجهل، وإن كان ذا بصر حديد، أو رأي رشيد، أو عقل سديد، فلن يصل إلى مبتغاه، ولن يهتدي لهداه، وكان كمن قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، فنودي: لا عاصم اليوم من أمر الله، وأصبح في عداد المغرقين؛ لأنّ الضوء الكاشف خلاه، والهادي البصير ودعه وقلاه، وصار مثله (مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ * أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة/ 17-20)؛ لذلك دلهم الله على منهاج الخلاص في الآية التالية بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة/ 21)، ولعلك تلمح معي التعبير القرآني واستخدامه لفظ الربوبية، بما تحمله هذه الكلمة من رعاية، وعناية، وحياطة، وأمان.
- روح القرآن:
لا ينكر أحد أن محور الحياة وقلب ميزانها هو الإنسان، الذي خلق الله – تعالى – من أجله كلّ شيء، سخر له ما في السماوات وما في الأرض، وسخر له الأنهار بما فيها، وخلق له الحياة وما عليها؛ كي يكون – بحق – خليفته في أرضه، يقيم عليها شرعه، وينشئ فيها حضارة باسم ربّه، فإذا صلح الإنسان صلح معه كل شيء في الحياة، ولا يصلح الإنسان هكذا ضربة لازب، أو خبط عشواء، وإنّما يصلح بصلاح فهمه للقرآن الكريم، هذا الفهم الذي يختصر على الإنسان الأزمان، ويطوي له المسافات، ويوفر عليه الأيام والأوقات، ولنا في العرب قبل الإسلام وبعده عبرة، فلا يخفى ما كانوا عليه قبلاً، وما صاروا إليه بعداً، حين دبت فيهم روح القرآن، لقد "صلحت أنفس العرب بالقرآن، إذ كانوا يتلونه حق تلاوته، في صلواتهم المفروضة، وفي تهجدهم، وسائر أوقاتهم، فرفع أنفسهم، وطهرها من خرافات الوثنية المذلة للنفوس المستعبدة لها، وهذب أخلاقها، وأعلى هممها، وأرشدها إلى تسخير هذا الكون كلّه لها، فطلبت ذلك، فأرشدها طلبه إلى العلم بسننه – تعالى – فيه من أسباب القوة والضعف، والغنى والفقر، والعز والذل، فهداها ذلك إلى العلوم، والفنون، والصناعات، فأحيت مواتها، وأبدعت فيها ما لم يسبقها إليه غيرها، حتى قال صاحب (كتاب تطوّر الأُمم من حكماء الغرب): "إنّ الفنون لا تستحكم في أُمّة من الأُمم إلّا في ثلاثة أجيال: جيل التقليد، وجيل الخضرمة، وجيل الإستقلال، وشذ العرب وحدهم فاستحكمت فيهم ملكة الفنون في جيل واحد".
إنّ ذلك وإن كان مخالفاً لما عهده الناس من تطوّر وتدرّج، إلا أنّه ماضٍ على النمط الطبيعي الذي يلتقي فيه الوحي الذي هو من روح الله تعالى، مع الإنسان الذي هو من نفخته: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ) (الشورى/ 52-53)، وكذلك (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي...) (الحجر/ 29)، فإذا التقت النفختان حدثت المعجزات.. لقد أخرج القرآن العرب – عندما فهموه من طور البداوة الموغلة، إلى نسمات الحضارة الباهرة فأصبحوا – وهم بالأمس رعاة إبل وغنم – قادة الدنيا ورواد الأُمم، ليس ذلك لخصائص في أنفسهم فحسب؛ إنّما أيضاً لهذه الروح التي سكبت في أنفسهم أثر امتزاجها بالقرآن.
كان المسلم العربي يتولّى حكم بلد، أو ولاية، وهو لا علم له بشيء من فنون الدولة، ولا من قوانين الحكومة، ولم يمارس من أساليب السياسة، ولا طرق الإدارة، وإنّما كلُّ ما عنده من العلم بعض سور من القرآن، فيصلح من تلك الولاية فسادها، ويحفظ أنفسها، وأموالها، وأعراضها، ولا يستأثر بشيء من حقوقها، هذا وهو في حال حرب وسياسة وفتح مضطر لمراعاة تأمين المواصلات مع جيوش اُمّته وحكومتها، وسدّ الذرائع لانتقاض أهلها، وإذا صلحت النفس البشرية أصلحت كل شيء تأخذ به، وتتولّى أمره، فالإنسان سيد هذه الأرض، وصلاحها وفسادها منوط بصلاحه وفساده، وليست الثروة وسائلها من صناعة، وزراعة، وتجارة هي المعيار لصلاح البشر، ولا الملك ووسائله من القوة والسياسة؛ فإنّ البشر، قد أوجدوا كل وسائل الملك والحضارة، من علوم وفنون وأعمال، بعد أن لم تكن؛ فهي إذاً نابعة من معين الاستعداد الإنساني، تابعة له، دون عكس، ودليل ذلك في العكس كدليله في الطرد؛ فإنّا نحن المسلمين وكثيراً من الشعوب التي ورثت الملك والحضارة عن سلف أوجدهما من العدم ممن أضاعوهما بعد وجودهما بفساد أنفسهم.