إذا أردنا أن نبحث عن مقومات الإدارة المالية في الإسلام، فإننا نجدها قد اجتمعت في صدر الدولة الإسلامية الأولى، حيث استطاع الرسول الكريم و أن ينجح في إدارته المالية لإيرادات ومصروفات الدولة الإسلامية آنذاك. فقد كانت الموارد المالية في عهده تقتصر على الزكاة والغنائم والفيء، والجزية، وكانت تصرف في المصارف التي حددها الله ورسوله و لم يكن له بيت مال بل كان يقسم الفيء من يومه.

وإذا كانت الإدارة المالية الحديثة تقوم وفق عمليات إدارية معينة هي التخطيط والتنظيم والتوجيه والرقابة]، فإن الرسول ﷺ كان آنذاك المخطط والمنظم والموجه والرقيب، وما ذلك إلا لأنه صاحب رسالة يبلغها عن ربه عز وجل، فكان يتحرك في دائرة ما أنزل إليه من ربه، فيبلغه ويفصله، ويضع مبادئه و ويوضح. ويطبقه بمعاونة الصحابة رضوان الله عليهم ويضفي على التبليغ والتفضيل والتوضيح، والتطبيق، عظيم خلقه، وكريم ،شمائله ويرسيها على أسمى المبادئ، وأجل الفضائل.

وكانت الأداة الرئيسية لإدارة الرسول ﷺ لمالية الدولة هي القرآن الكريم. ومن أهم تلك المقومات التي يقوم عليها التشريع الإسلامي في إدارة الأموال، ما يلي:

<!--إخلاص العمل الله تعالى

 فكل عمل باعثه التقرب إلى الله تعالى لا يشوبه رياء ولا سمعة، فإنه يعد عملاً خالصاً، قال تعالى: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء﴾. [البينة : ٥]. والإخلاص ليس مقتصر على العبادات فحسب، بل هو مطلوب في كل الأقوال والأعمال، وإلا كانت هباء منثوراً على صاحبها، فالنية الصالحة تجعل الأعمال كلها عبادة الله فعن جبير بن مطعم: " قامَ رسولُ اللَّهِ . ﷺ .  بالخيفِ من منًى، فقالَ: نضَّرَ اللَّهُ امرأً سمِعَ مقالتي، فبلَّغَها، فرُبَّ حاملِ فِقهٍ، غيرُ فَقيهٍ، وربَّ حاملِ فِقهٍ إلى من هوَ أفقَهُ منهُ، ثلاثٌ لا يُغلُّ علَيهِنَّ قلبُ مؤمنٍ: إخلاصُ العملِ للَّهِ، والنَّصيحةُ لوُلاةِ المسلمينَ، ولزومُ جماعتِهِم، فإنَّ دَعوتَهُم، تُحيطُ مِن ورائِهِم ".  

أما إذا دخل على العمل حظ حظوظ الدنيا، فقد خرج عن أن يكون خالصاً الله تعالى، قال الإمام الغزالي:" كل حظ من حظوظ الدنيا تستريح إليه النفس، ويميل إليه القلب، قل أم كثر إذا تطرق إلى العمل تكثر به صفوه، وزال به إخلاصه ".

والإدارة المالية مطلوب فيها إخلاص العمل الله، حتى يوفق صاحبها لكل خير، فيطرق أبواب الحلال، ويجتنب أبواب الحرام. ومن الأمور الأخرى التي يستلزمها الإخلاص، الأمانة، باعتبارها رعاية لحق الله تعالى، وأداء للفرائض والواجبات، وهذا يتطلب عدم الخيانة وحفظ الحقوق، وهي خير شاهد خارجي على الإخلاص، خاصة وأن المتزلقات التي يمكن أن تطيح بالأمانة وفيرة وهذه توفّر حظوظاً للنفس تفسد الإخلاص، لذا كان لابد من توافر الأمانة لتوافر الإخلاص والتمسك به. ومن الشواهد على ذلك: رسول الله ﷺ حين عرضت عليه السيدة خديجة الله عنها الاتجار بمالها، وذلك لاشتهاره بصفات كثيرة منها الصدق والأمانة والعفة والنزاهة، فعاد بتجارة رابحة.

<!--العقل والذكاء والفطنة

إذ أن العقل أساس التكليف، ولهذا أثنى الله تبارك وتعالى على من كان له عقل، قال تعالى: ﴿ وَاتَّقُونِ يَأُولِي الألباب ﴾. [البقرة : ۱۹۷]، وقال: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قسم لذى حجر ﴾. [الفجر : ٥]. وأما من لا يعقل فإن الله لم يحمده ولم يُثن عليه و لم يذكره بخير قط ، بل قال تعالى عن أهل النار: ﴿  وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كَا فِي أَصْحَاب السَّعِيرِ﴾.  [الملك : ۱۰]، وقال: ﴿ أمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعقِلُون إِنْ هُمْ إِلَّا كَالَأَنْعَامْ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سبيلا
﴾. [ الفرقان: ٤٤].

أما الذكاء والفطنة فلا بد منهما لمن يتولى الإدارة المالية، إذ بهما يمكن تسيير العمل ورسم الخطط، وزيادة نمو الأداء، وقيادة من معه بروح الفريق الواحد واتخاذ القرارات، وتفادي الأزمات وحسن التدبير للمواقف الشديدة، ومن الشواهد على ذلك عندما أراد نبي الله يوسف الله استخلاص أخيه، وضع الوعاء في متاعه، ولكنه بدأ بتفتيش إخوته، قال تعالى: ﴿ فَبَداً بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاهُ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا ليوسف ﴾. [ يوسف : ٧٦].

ولما ظفر المسلمون برجلين من قريش قبل غزوة بدر، وأقبلوا بهما إلى رسول الله ﷺ فسألهما عن قريش فقال: كم القوم؟ قالا كثير قال ما عدتهم؟ قالا: لا ندري، قال: كم ينحرون كل يوم؟ قالا: يوماً تسعاً، ويوماً عشراً، فقال رسول الله ﷺ القوم فيما بين التسع مائة والألف. وهذا إن دلّ على شيء فإنما يدل على ذكائه وفطنته حيث توصل إلى تقدير عدد الأعداء من خلال معرفة عدد ما ينحرون.

<!--القدرة والكفاءة

وهما من الشروط الأساسية لنجاح أي عمل إذ لا بد من توافر القدرة على القيام بالعمل الموكل إليه، كما يجب أن تكون لديه الكفاءة للقيام بالعمل وحسن التصرف فيه، وهذا يعني أن تتوفر لديه القدرة على استعمال المهارات اللازمة والمعارف المتنوعة لنجاح العمل، ونعني هنا الإدارة المالية، ولهذا لما قامت الدولة الإسلامية في المدينة واتسعت أمورها عين رسول الله ﷺ العمال الأكفاء، وكان يختار عماله على أساس الكفاءة والأمانة، ولم يكن يُعين من لا قدرة له على إدارة الأمور مهما كانت سابقته وفضله ولهذا لما سأله أبو ذر الغفاري الإمارة، وقال له: يا رسول الله ! الا تستعملني؟ ضَرَبَ رسول الله له بيده على منكبه، ثم قال له: " يا أبا ذرا إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامةِ خِزْيٌ وندامة، إلا من أ أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها.  والإدارة المالية بلا شك من الأعمال التي تتطلب القدرة والكفاءة في حق من يقوم بها.

<!--الشورى

 وتعد ركن مهم لكل من أسند إليه إدارة عمل ومنها الإدارة المالية، وقد أكدها القرآن الكريم في مواضع عديدة، كما عمل بها رسولنا وعلمها لصحابته رضوان الله عليهم. ومن الآيات الكريمة الدالة عليها: قوله تعالى: ﴿ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بينهم﴾. [الشورى : ۳۸]. ﴿ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمر ﴾. [آل عمران : ١٥٩].

وكان أبو هريرة يقول: ما رأيت أحداً كان أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله، وأحداث غزوتي بدر والخندق أمثلة حية للشورى النبوية اكتفي منهما بذكر نموذج للاستشارة المالية، وذلك حينما استطلع رأي أبي بكر وعمر رضي الله عنهما في فداء أسرى بدر، فأشار عليه عمر بضرب أعناقهم، بينما أشار عليه أبو بكر الله بالعفو عنهم فعفا عنهم وقبل منهم الفداء. فأنزل الله تعالى : ﴿ ومَا كَانَ لِنَبِي أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الآخِرَةُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾. [الأنفال : ٦٧].

<!--الحلم والأناة والصبر

لا يمكن لأي إدارة أن تحقق نجاحاً، ما لم يتمتع القائد فيها بالحلم والأناة والصبر تجاه مرؤوسيه، وما يجده من بعضهم من سلوك بعض التصرفات التي قد تثير الغضب، مما يؤثر سلباً على سير العمل. وقد أثنى المولى جل ذكره على رسوله الله فقال: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ ﴾. [آل عمران: ١٥٩].

ومن الشواهد على ذلك: مارواه أنس بن مالك قال: "كنتُ أمشي مع النبي ﷺ وعليه بُرد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذَبَهُ جَذبةٌ شديدة نظرت إلى صفحة عاتق النبي قد أثرت به حاشية الرداء من شدة جذبته، ثم قال: مر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه فضحِكَ ثم أمر له بعطاء. فأي حلم وأي أناة كان رسول الله ﷺ يعامل بها أصحابه، حتى كسب قلوبهم، وألف بينهم.

الحزم وحسن التصرف في مقابل الحلم والأناة يأتي الحزم مع المعتدين الذين تسول لهم أنفسهم الاعتداء على الأموال وأمثال هؤلاء لابد معهم من الحزم، أي ضبط الأمور، حتى ينتهوا عما هم فيه، ويكونوا عبرة لغيرهم، ولهذا كان رسول الله يحذر أصحابه الذين يستعملهم على جمع من أخذ شيء من الأموال بدون وجه حق، فعن خولة الأنصارية رضي الله عنها قالت: سمعت النبي ﷺ يقول: " إن رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق، فلهم النار يوم القيامة "، وقوله: يتخوضون في مال الله بغير حق أي: يتصرفون في مال المسلمين بالباطل.

وأيضاً ما رواه أبي حميد الساعدي له قال: "استعمل النبي الهلال رجُلاً من الأزدِ يقال له ابن اللتبيَّة فلما قدم، قال: هذا لكم وهذا أُهدي لي. قال: فهلا جلس في بيت أبيه – أو بيت أمه فينظر أيهدى له أم لا ؟ والذي نفسي بيده لا يأخُذُ أحد منكم شيئاً إلا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته، إن كان بعيراً لهُ رُغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاةً تيعر ثم رفع يديه حتى رُؤِي بياض إِبْطَيْهِ، فقال: اللهم هل بَلَّغْتُ ثلاثاً.

وفي هذا الحديث أرشد الرسول ﷺ عماله على الصدقات إلى الضابط الذي يمكن به أن يميز بين الهدية التي يقصد بما التودد والتلطف للمهدي إليه، وبين الهدية التي تُبذل بسبب ولاية العامل وعمله.

<!--المرونة مع الأحداث

وهي خاصية مهمة للتكيف مع حوادث الحياة المختلفة، ولقد كانت إدارة الرسول مرنة مع الأحداث، فلم تعصرها التقلبات، ولم تُثنها الأزمات بل كانت تسير وفق أوامر الله تعالى، وبهذه المرونة اتسعت رقعة الدولة في العهد النبوي، والراشدي، مما يعد معجزة خارقة في مقاييس البشر، ومن الشواهد عليها موقفه ﷺ في صلح الحديبية، ومرونته في مسح اسم رسول الله من كتاب الصلح

<!--المتابعة والمراقبة

إن استشعار المسلم بمعية الله تعالى ،له ومراقبته له أينما كان يولد لديه الشعور بالمسؤولية والالتزام، لأنه يؤمن بأن الله تعالى لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء، وأنه تعالى يعلم السر وأخفى، وأن له ملائكة تراقب أعماله وتحصيها، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، كل ذلك يجعله يبتعد عن المعاصي والانحراف لاستشعاره تلك المراقبة الإلهية، فهو يجعل نصب عينيه قوله تعالى: ﴿ مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ ق: ۱۸.

وقوله . ﷺ .: " أتَّقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحَسَنةَ تمحها ، وخالِقِ الناس بخُلُقٍ حَسَنٍ ". ثم تأتي بعد ذلك المتابعة والمحاسبة من القائد، كما كان يفعل رسول الله ﷺ عماله وولاته ومرّ معنا محاسبته وإنكاره على ابن التلبية.

وعموماً فإن التخلق بالأخلاق الحسنة، ومجانبة الأخلاق السيئة مطلوب في كل إدارة وبالأخص فيما يتعلق بالأموال، ورسول الله كان له القدح المعلى في التخلق بالأخلاق الحسنة، امتثالاً لقوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيم﴾  [القلم: ٤ ]. وبذلك نجحت إدارته المالية، وحققت الأهداف المرجوة منها، وإن كان الأساس عنده هو تبليغ الدعوة الإسلامية ونشرها.

ahmedkordy

خدمات البحث العلمي 01009848570

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 61 مشاهدة

أحمد السيد كردي

ahmedkordy
»

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

30,002,689

أحمد السيد كردي

موقع أحمد السيد كردي يرحب بزواره الكرام free counters