لقد ظهرت الشركات المتعددة الجنسيات على يد الشركات الأمريكية الكبرى التي دأبت منذ نهاية الحرب العالمية ، وبشكل خاص منذ الخمسينات على زيادة استثماراتها المباشرة خارج الولايات المتحدة وذلك بإنشاء وحدات إنتاجية في كند وأروبا وأمريكا اللاتينية في إطار استراتيجية إنتاجية عالمية موحدة، وسرعان ما حذت الشركات الأوربية حذو الشركات الأمريكية بعد أن استردت أوربا أنفسها بعد الحرب وأعادت بناء قوتها وبدأت تنتقل من الإقليمية إلى العالمية بإنشاء وحدات إنتاجية خارج حدودها ، بل أن بعض هذه الشركات قام بإنشاء شركات صناعية تابعة لها في أمريكا.
وبعدها جاء دور اليابان لتدخل هي الأخرى معترك الدولية ورغم أن هذا الدخول جاء متأخرا بعض الشيء فإن العالم تنبأ بأن هذه الشركات اليابانية سوف تلعب دورا متعاظما في المجال العالمي.
وتستمد هذه الشركات المتعددة القوميات قدرتها على السيطرة على الاقتصاد العالمي من قوتها الاقتصادية الذاتية ومن قوتها الفنية والتكنولوجية الهائلة، وما يميز الشركات المتعددة القوميات ليس هو قيامها بنشاط اقتصادي على المستوى الدولي، وإنما طبيعة هذا النشاط والأسلوب الذي يتم به وكم أن طبيعة وأسلوب نشاط الشركات يختلف اختلاف جذريا عن طبيعة وأسلوب نشاط كل ما سبقها من الشركات التي عرفتها الرأسمالية طوال حياتها.
وما يميزها كذلك أنها تقوم بنقل وحدات إنتاجية من الدولة التابعة لها، أي الدولة الأم إلى دول أخرى مختلفة مع استمرار سيطرتها على هذه الوحدات الإنتاجية وإدارتها مركزيا في إطار إستراتجية إنتاجية عالمية موحدة
تاريخ الشركات المتعددة الجنسيات
يرجع تاريخ العديد من الشركات المتعددة الجنسيات التي نعرفها اليوم إلى ما قبل الحرب العالمية الثانية وبشكل أكثر تحديد إلى نهاية ق 19 فمنذ ذلك التاريخ بدأت بعض الشركات الكبرى في أمريكا وأروبا تقيم وحدات إنتاجية خارج حدودها الأصلية ففي عام 1865 أنشأت شركة باير الألمانية للصناعات الكيميائية مصنعا لها في نيويورك إلى أن أول شركة تستحق وصف (المتعددة القوميات) بالمعنى الدقيق هي شركة سنجر الأمريكية لصناعة مكنات الخياطة التي أقامت في عام 1867 مصنع لها في جلاسكو وتبعته بعدة مصانع أخرى في النمسا وكندا وسرعان ما حذت الكثير من الشركات الأمريكية حذو سنجر.
ورغم ظهور واستقرا العديد من الشركات المتعددة القوميات فقد بقيت أهميتها في الاقتصاد العالمي محدودة للغاية من ناحية لان القطاعات التي كانت تعمل فيها هذه الشركات وبشكل أساسي البترول، السيارات والألمنيوم، رغم أهميتها في الاقتصاد اليوم، أم تكن تلعب دور أساسيا في اقتصاديات الدول الرأسمالية آنذاك، إذا كانت الرئيسية هي الفحم، السكك الحديدية، الحديد والصلب...الخ وبقيت هذه الصناعات بعيدة عن عمل الشركات المتعددة القوميات ومن ناحية أخرى لضيق حجم النشاط الدولي لهذه الشركات.
والظروف الدولية الاقتصادية في فترة ما بين الحربين العالميتين لم تكن لتسمح بنمو أكبرى الاستثمارات الدولية المباشرة من ناحية بسبب عدم استقرار الأوضاع النقدية في أوربا نتيجة لتضخم الهائل على أن هذه الأوضاع تغيرت تماما بعد الحرب الثانية بإبرام الاتفاقية العامة لرسوم الجمركية والتجارة المعروفة باسم (gat) والتي تولت وضع أسس ومبادئ عامة لتنظيم التبادل التجاري الدولي فأزاحت بذلك واحدا من أهم العوائق التي كانت تعترض سبيل الشركات المتعددة القوميات أو الجنسيات.
وكذلك اتفاقية إنشاء المجموعة الاقتصادية الأوربية المعقودة في روما سنة 1957 أعطت دفعة هائلة لنشاط هذه الشركات وهكذا فإن الظروف كلها كانت مهيأة منذ نهاية الحرب العالمية لظهور الشركات المتعددة الجنسيات.
-ما الهدف من إنشاء الشركات المتعددة الجنسيات:
يوجد العديد من الأسباب والأهداف التي قد تدفع الشركات للتوسع عبر الحدود وإنشاء شركات متعددة الجنسيات، ومن أهم هذه الأهداف:
1- توسيع الأسواق: يعد توسيع نطاق الأسواق وتحقيق النمو الاقتصادي هو واحد من الأهداف الرئيسية للشركات المتعددة الجنسيات، فإنشاء الشركات في بلدان مختلفة يسمح للشركات بتحقيق أسواق أوسع وتحقيق مزيد من الأرباح. ويمكن توضيح هذه الفكرة بعدة أمثلة، مثلاً:
<!--شركة كوكاكولا: تمتلك شركة كوكاكولا فروعاً ومصانع في جميع أنحاء العالم، مما يتيح لها الوصول إلى أسواق واسعة ومختلفة، وتحقيق نمو اقتصادي كبير. ويمكن القول إن شركة كوكاكولا تمكنت من إنشاء علامتها التجارية العالمية والشهيرة بفضل توسيع نطاق أعمالها والدخول إلى الأسواق العالمية.
<!--شركة أبل: تتواجد شركة أبل في العديد من البلدان حول العالم، وتبيع منتجاتها المختلفة في جميع أنحاء العالم. وتمكنت الشركة من تحقيق نمو اقتصادي كبير، وتحقيق أسواق واسعة ومتنوعة، وذلك بفضل توسيع نطاق أعمالها والدخول إلى الأسواق العالمية.
<!--شركة تويوتا: تعتبر شركة تويوتا واحدة من أكبر شركات صناعة السيارات في العالم، وتوجد فروعها ومصانعها في عدة بلدان حول العالم. ويمكن القول إن توسيع نطاق أعمالها والدخول إلى أسواق عالمية مختلفة، ساهم في تحقيقها لنمو اقتصادي كبير ووصول منتجاتها إلى جميع أنحاء العالم.
2- تحقيق التكامل الاقتصادي: يساعد إنشاء الشركات المتعددة الجنسيات في تحقيق التكامل الاقتصادي بين البلدان، حيث يمكن للشركات أن تستفيد من الموارد والمعرفة المتاحة في كل بلد وتعزيز التعاون بين الدول، وذلك لعدة أسباب منها:
<!--تحقيق التوافق والتكامل التجاري: يساعد إنشاء الشركات المتعددة الجنسيات في تحقيق التوافق والتكامل التجاري بين الدول، وذلك لأنها تساعد على إزالة العوائق التجارية وتسهيل تدفق السلع والخدمات بين الدول المختلفة. ويمكن القول إن شركات مثل "كارفور" و"تيسكو" و"وولمارت" تمكنت من تحقيق هذا التكامل والتوافق التجاري بين العديد من البلدان.
<!--الاستفادة من الموارد الطبيعية: تمتلك بعض الدول موارد طبيعية غنية مثل النفط أو الغاز أو المعادن، ويمكن للشركات المتعددة الجنسيات الاستفادة من هذه الموارد من خلال إنشاء شركات فرعية في هذه الدول والاستثمار في الصناعات المرتبطة بهذه الموارد. ويمكن القول إن شركات مثل "شل" و"إكسون موبيل" و"بي بي" تمكنت من استغلال الموارد الطبيعية في العديد من الدول حول العالم.
<!--الاستفادة من المعرفة والخبرة المحلية: يمكن للشركات المتعددة الجنسيات الاستفادة من المعرفة والخبرة المحلية في الدول المختلفة، وذلك من خلال التعاون مع الموردين والمصنعين والعاملين في هذه الدول. ويمكن القول إن شركات مثل "نستله" و"بيبسيكو" تعتمدان على هذه الاستراتيجية من خلال التعاون مع الموردين المحليين في العديد من الدول.
3- التقليل من المخاطر: يعد توسيع نطاق الأعمال وإنشاء الشركات المتعددة الجنسيات طريقة للتقليل من المخاطر التجارية، حيث يمكن للشركات توزيع المخاطر على أكثر من سوق وتقليل تأثير العوامل الخارجية على الأعمال. تحقيق التنوع الجغرافي في أسواق الشركة يعد وسيلة فعالة للحد من المخاطر التجارية، ومن أمثلة ذلك:
<!--شركة التصنيع العالمية التي تقوم بإنتاج السلع الاستهلاكية في بلدان مختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة والصين والبرازيل. وبالتالي، إذا تعرضت سوق واحدة لأي عوامل خارجية مثل الركود الاقتصادي أو الصراعات المحلية، فإن الشركة لن تتأثر بشكل كبير بسبب تواجدها في أسواق أخرى.
<!--شركة الطاقة العالمية التي تعمل في مجالات مختلفة مثل النفط والغاز والطاقة المتجددة في بلدان متعددة، مما يسمح للشركة بتوزيع المخاطر على أكثر من سوق. على سبيل المثال، إذا تعرضت سوق النفط في إحدى الدول لتقلبات كبيرة في الأسعار، فإن شركة الطاقة العالمية لن تتأثر بشكل كبير، حيث أن لديها تواجد في سوق الغاز والطاقة المتجددة.
<!--شركة الإنتاج الزراعي العالمية التي تعمل في مجال الزراعة وإنتاج الأغذية في بلدان مختلفة، مما يتيح للشركة توزيع المخاطر وتقليل تأثير الظروف الجوية والأحوال المناخية المتفاوتة في البلدان المختلفة. وبالتالي، إذا تعرضت سوق واحدة لمشكلات مثل الجفاف أو الفيضانات، فإن الشركة لن تتأثر بشكل كبير بسبب تواجدها في أسواق أخرى.
4- تحسين الكفاءة والإنتاجية: يمكن للشركات المتعددة الجنسيات تحسين الكفاءة والإنتاجية عن طريق توسيع نطاق الأعمال وتحقيق التخصصات في كل بلد، وتبادل المعرفة والتقنيات بين البلدان المختلفة. ويمكن للشركات المتعددة الجنسيات تحقيق تحسين الكفاءة والإنتاجية بعدة طرق، بما في ذلك:
<!--الاستفادة من التخصصات: يمكن للشركات المتعددة الجنسيات الاستفادة من التخصصات المتاحة في كل بلد، مما يؤدي إلى تحسين جودة المنتجات وخفض التكاليف. على سبيل المثال، شركة سامسونج الكورية تتميز بخبرتها في صناعة الإلكترونيات، وتوظف هذه الخبرة في جميع الأسواق التي تعمل فيها، مما يسمح لها بتقديم منتجات عالية الجودة بتكلفة أقل.
<!--تحسين العمليات: يمكن للشركات المتعددة الجنسيات تحسين العمليات الإنتاجية والتوزيعية عن طريق استخدام التقنيات والمنهجيات الأفضل الموجودة في كل بلد. على سبيل المثال، شركة تويوتا اليابانية تعتمد على منهجية "الإنتاج النحيل" (Lean Production) في جميع مصانعها، وتوظف هذه المنهجية في جميع أسواقها المختلفة، مما يساعدها على تحسين الكفاءة وخفض التكاليف.
<!--تحسين الابتكار: يمكن للشركات المتعددة الجنسيات تحسين الابتكار والتطوير عن طريق تبادل المعرفة والتقنيات بين البلدان المختلفة. على سبيل المثال، شركة آبل الأمريكية تتعاون مع شركات يابانية وكورية في تطوير تقنيات الإضاءة والعرض والكاميرات، وتستخدم هذه التقنيات في منتجاتها المختلفة، مما يساعدها على تحسين الجودة وزيادة التنافسية.
علاوة على ذلك، يمكن للشركات المتعددة الجنسيات الاستفادة من تبادل المعرفة والتقنيات بين البلدان المختلفة. على سبيل المثال، يمكن لشركة تصنيع السيارات العالمية أن تنقل التقنيات الجديدة والمعرفة من مصنع في بلد ما إلى مصنع آخر في بلد آخر، مما يسمح بتحسين الإنتاجية وتحسين جودة المنتجات في كل بلد. كما يمكن للشركات المتعددة الجنسيات تبادل المعرفة والخبرات في مجالات الأبحاث والتطوير، مما يسمح بتقديم منتجات وخدمات أفضل وتحسين الكفاءة.
على سبيل المثال، شركة مايكروسوفت العالمية تعمل في مجال تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وتوفر برامج وحلول للعملاء في جميع أنحاء العالم. ولتحقيق ذلك، تمتلك الشركة فروع في بلدان مختلفة، وتستفيد من الموارد المحلية والخبرات في كل بلد لتطوير منتجاتها وخدماتها. وبذلك، تستطيع الشركة تحسين الكفاءة والإنتاجية وتقديم منتجات وخدمات أفضل للعملاء في جميع أنحاء العالم.
5- تحقيق الاستدامة البيئية: يمكن للشركات المتعددة الجنسيات العمل معًا لتحقيق الاستدامة البيئية وتقليل الأثر البيئي السلبي، وهو ما يساعد في تحسين سمعة الشركات وجذب المستثمرين المهتمين. تحقيق الاستدامة البيئية هو أحد الأهداف المهمة التي تسعى إليها الشركات المتعددة الجنسيات، ويمكن تحقيق ذلك عن طريق تبني ممارسات تجارية مستدامة وخضراء في جميع البلدان التي تعمل فيها الشركات.
مثلاً، تتخذ شركة "نايكي" (Nike) إجراءات للحفاظ على البيئة، حيث تسعى للحد من انبعاثات الكربون وتعزيز الاستدامة في جميع مراحل الإنتاج والتصميم والتوزيع. وتستخدم شركة "إنيرجايزر" (Energizer) مواد مستدامة وقابلة لإعادة التدوير في إنتاج بطارياتها، وتستخدم تقنيات الطاقة المتجددة في عمليات الإنتاج.
بالإضافة إلى ذلك، تقوم بعض الشركات بتبني سياسات وممارسات للحفاظ على الموارد الطبيعية والتقليل من النفايات، كما تدعم بعض الشركات الجمعيات الخيرية والمؤسسات البيئية وتتعاون معها للحفاظ على البيئة. وعندما يتبنى المستهلكون البيئة والاستدامة كقضايا مهمة، يمكن للشركات المتعددة الجنسيات تحسين سمعتها وزيادة جاذبيتها للمستثمرين والمستهلكين المهتمين بهذه القضايا.