في مرحلة بناء النظام الجديد بعد ثورة 25 يناير، يخشى الكثيرون من أن تعود الأمور إلى سابق عهدها بأشكال جديدة بالنظر إلى عدد من المخاوف والمشكلات. تحدد هذه المقالة أربع أولويات للتعامل مع مخاطر المرحلة الانتقالية وتقترح آلية للتشاور والتوافق الوطني.
الثورة الطريق الأعلى تكلفة للتغيير:
اقتربت مرحلة هدم النظام القديم في مصر من نهايتها بسقوط رأس النظام وتقديمه وأركان حكمه إلى المحاكمة. إلا أن هذه المرحلة تحتاج إلى إدراك أن التغيير الثوري من أسفل هو الطريق الأكثر سوءا والأعلى تكلفة من طرق التغيير الديمقراطي.
فهناك من يستعجل نتائج الثورة ويعتقد أن الأمور ستعود لسابق عهدها في غضون أسابيع أو شهور قليلة. واقع الحال أن للتغيير الثوري تكلفة اجتماعية واقتصادية، غالبا ما تُدفع على مدى زمني ممتد.
ففي ثورات أخرى عانت البلاد من عمليات انتقام واغتيالات سياسية ومن إشاعة للفوضى والفتن امتدت لسنوات وعقود. وفي مصر، بدأت هذه العمليات الانتقامية بالأحداث الطائفية، فالمستفيدون من النظام السابق، الذين هدمت الثورة المعبد فوق رؤوسهم، يُعدون بالآلاف وهؤلاء لن يتورعوا عن إرتكاب كل ما يمكن للانتقام وإشاعة الفوضى.
كما أن القضاء على وزارة الداخلية بالشكل الذي تم في مصر يضع الكثير من العقبات أمام قيام جهاز الشرطة بالدور الطبيعي له في المجتمع وبناء الثقة بين أفراده والشعب.
وواقع الحال أن هناك عددا من الأولويات تحتمها الأوضاع المصرية الداخلية والأوضاع الإقليمية والدولية، والتي يجب إبرازها في هذه المرحلة، وأهمها ما يلي.
أولوية السياسي على الاقتصادي والاجتماعي
أول هذه الأولويات أولوية السياسي على الاجتماعي والاقتصادي. بمعنى أن جهود المصريين لا بد أن تنصب الآن على التوافق على الدستور الجديد وبناء النظام السياسي الديمقراطي الجديد. فتجاهل هذه الأولوية هو المصدر الأول لتخوفين أساسيين في مصر اليوم.
الأول: استمرار الحالة الثورية في ضوء انكسار حالة الخوف لدى المصريين وتصور البعض أنه بالإمكان تحقيق أي هدف بالنزول إلى الشارع، وشيوع أسطورة أن من لا يحصل على حقوقه الآن فلن يحصل عليها أبدا.
بالطبع معظم المطالب الاجتماعية والاقتصادية مطالب مشروعة وتعبر عن مظالم حقيقية ارتكبها النظام السابق، إلا أن توقيت إثارتها ليس مناسبا الآن.
علينا الاتفاق على قواعد اللعبة الديمقراطية وبناء الأطر المؤسسية أولا حتى يمكن لنا معالجة تلك المطالب بشكل صحيح وفي جو من الحرية والشفافية. وهذا لا يمنع أن تقوم الفئات المختلفة ببلورة مطالبها ومقترحاتها الآن لكن دون ضغط شعبي يعطل مواقع العمل، ودون تصور أن الحكومة الانتقالية الحالية قادرة على حل كل مشكلات مصر.
لقد قامت الثورة من أجل إسقاط النظام السابق وبناء نظام جديد. حققت الجماهير والنخب معا الهدف الأول، أما الهدف الثاني فيحتاج إلى أن يقوم السياسيون والمثقفون والجيش بترجمة أمينة لمطالب الجماهير إلى دستور ونظام سياسي حديث. ويجب أن يتم هذا الجهد على طاولة التفاوض المنظم وبعيدا عن العروض الإعلامية.
أما التخوف الثاني: فهو تسييس الجيش والاعتماد عليه في تحديد معالم الطريق الجديد. وبدون الدخول في أسباب هذا الأمر، يجب أن يتصدى الجيش نفسه لمحاولات التسييس هذه، فالجيوش في عالمنا إما أن تكون جيوشا وطنية، محترفة، وغير مسيسة، تحافظ الحكومات المنتخبة على ميزانياتها ومستويات تدريبها المطلوب كما في الدول الديمقراطية الحديثة، وإما أن تكون حاكمة بشكل مباشر أو غير مباشر فتقمع الحريات والحقوق أو تُدخل البلاد في حروب أهلية أو إقليمية. لا شك أن الجيش المصري الوطني لن يكون إلا ضمن الصورة الأولى.
كما يجب أن تقوم القوى السياسية والنخب المثقفة بالتصدي لمحاولات التسييس هذه بالإصرار على المشاركة في تقرير معالم المرحلة الإنتقالية والاهتمام بالضمانات الدستورية والمؤسسية التي تمنع هذا التسييس في المستقبل.
أولوية المشاركة والتوافق وليس الانفراد والإقصاء:
الأولوية الثانية هي أولوية المشاركة والتوافق كبديل للانفراد والإقصاء. فحالات الانتقال الديمقراطي، وخاصة الثورية منها، تتطلب أن يشترك الجميع في تحديد معالم الطريق وفي اتخاذ القرارات المصيرية. والسبب الأساسي لهذه الأولوية هو ضمان موافقة معظم القوى السياسية وفئات الشعب، وليس كلها بطبيعة الحال، على ما يتخذ من قرارات، وبالتالي تجنب دعوات النزول إلى الشارع.
كانت طريقة وضع الدستور وتعديل القوانين تحتاج إلى أكثر من استفتاء شعبي انقسم الشارع فيه بشكل غير صحي. والبلاد التي تشهد تغييرا نحو الديمقراطية لا تحتاج، بل ويجب أن تتجنب في الأساس، اللجوء إلى أسلوب الاستفتاءات في الأسابع أو الشهور الأولى للانتقال لمنع الانقسام في الشارع.
ولتدراك ما تم يجب الآن أن تبذل كل الجهود الممكنة لضمان تشكيل اللجنة التأسيسية التي ستضع الدستور، بشكل يرضي معظم التيارات الأساسية والقوى السياسية، كما لا بد أن توضع مبادئ الدستور وبنوده الأساسية بعد حوار وتوافق وطني مؤسسي بين ممثلي كل هذه التيارات والقوى.
أولوية المشترك على المختلف:
الأولوية الثالثة تُكمل الأولية الثانية، وهي تتصل بدور الإعلام والصحافة والندوات التي تعقد كل يوم تقريبا في مصر.
المرحلة الانتقالية تحتاج أن يرتقي كل كاتب وكل مسؤول في الإعلام والصحافة إلى مستوى الحدث والتخلي عن المصالح الشخصية في سبيل إعلاء المصلحة المصرية الجامعة. لا تحتاج هذه المرحلة إلى مناظرات لا تُظهر إلا المختلف بين التيارات السياسية ولا تؤدي إلا إلى انقسام الجماهير وتوسيع مساحة الاختلاف بينهم.
على العكس تماما ما تحتاجه هذه المرحلة هو كل الجهود التي تؤدي إلى توسيع مساحات الاتفاق بين القوى والتيارات السياسية وتتجاوز مساحات الاختلاف. ففي الواقع هناك مساحة اتفاق واسعة بين هذه التيارات، تتضمن معظم مطالب الثورة ومنها التعامل مع قضايا الفقر والبطالة والتنمية وإصلاح التعليم والبحث العلمي والصحة والصناعة والزراعة.
تقدم تجارب التحول الديمقراطي الأخرى درسا مهما هنا وهو ضرورة تأجيل حسم القضايا الخلافية إلى ما بعد إقامة دولة المؤسسات وحكم القانون، وعلى رأس هذه القضايا في مصر مسألة الهوية.
لنكتف الآن بالتوافق على أمرين اثنين. الأول: أن أي نظام جديد لن يخترق ثوابت الدين الإسلامي ومبادئ الشريعة الإسلامية وقيم المجتمع المصري وعناصر هويته وثقافته الرئيسة، ويقتضي هذا ترك المادة الثانية من الدستور كما هي مع إضافة مادة تضمن للأقباط الاحتكام إلى شرائعهم وعدم إخضاعهم للشريعة الإسلامية بغير رضاهم. وأعتقد أن هناك توافقا عاما على هذا الأمر.
الأمر الثاني: الذي يجب أن نهتم به الآن على وجه التحديد هو التوافق حول المواد والضمانات الدستورية والقانونية التي تمنع العودة إلى الماضي الاستبدادي. أي تمنع قمع الحريات والحقوق الأساسية للناس، والتلاعب بحرية الشعب في اختيار حكامه ومحاسبتهم، واختراق مبادئ حكم القانون والمواطنة والتداول على السلطة. أي باختصار وضع ضمانات تمنع الانقلاب على الأسس الجوهرية لنظم الحكم الديمقراطية.
وبرغم توفر قدر كبير من التوافق على هذين الأمرين، فإن خوض بعض الكتاب والصحفيين في طرح القضايا الخلافية وإجراء المناظرات حولها يعقد الكثير من الأمور ويوسع الانقسام بين الجماهير، ما يؤخر بلورة نقاط التوافق بين السياسيين والنخب.
وهذا أمر في غاية الخطورة ولا يصب إلا في مصلحة الذين يحاولون إجهاض الثورة وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء أو الانتقام من صناع الثورة. فاتساع هوة الانقسام بين الناس في الشارع سيؤدي إلى شيوع حالة من الإحباط وتغذية دعاة الفوضى وإطالة مدة المرحلة الانتقالية وارتفاع التكلفة الاجتماعية والاقتصادية للثورة، فإلى تعزيز أنصار أسطورة أن النظام السابق كان أفضل.
أولوية الداخل على الخارج:
أما الأولوية الرابعة فهي أولوية الداخل على الخارج. فبناء مصر القوية داخليا شرط أساسي لتطوير سياسية خارجية قوية ومؤثرة. بالطبع أحسن الدكتور نبيل العربي صنعا عندما أنهى ملف المصالحة الفلسطينية وشرع في تنظيم عملية المرور في معبر رفح وعندما تحدث عن علاقات متوازنة مع الولايات المتحدة وإسرائيل وعندما أشار إلى البدء في مراجعة مواقف مصر من بعض الاتفاقيات الدولية كاتفاقية المحكمة الجنائية الدولية تمهيدا للتصديق عليها. فحسم هذه الأمور الآن هو في واقع الأمر إعادة للأمور إلى نصابها الحقيقي بعد عقود من تقزيم مصر خارجيا في عهد الرئيس السابق.
ما أعنيه من أولوية الداخل على الخارج هو تأجيل القضايا الكبرى في السياسة الخارجية إلى ما بعد ظهور حكومة منتخبة ديمقراطيا وإلى ما بعد بناء مؤسسات الدولة المصرية المنشودة. ومن هذه القضايا الكبرى مستقبل اتفاقية السلام مع إسرائيل والمعونات الأميركية والعلاقات مع إيران وغيرها.
ما تريده مصر هو سياسة خارجية لا ترتبط بأشخاص محددين، وإنما سياسة خارجية تعبر عن مصالح وطنية حقيقية تأتي من خلال مؤسسات منتخبة ويقوم على تنفيذها فرق عمل دبلوماسية قادرة على إظهار وجه وقدرات مصر الحقيقية في محيطها الإقليمي والدولي. ولعل هذا الشكل من السياسة الخارجية يعوض جزءا من الفراغ الذي سيتركه ذهاب نبيل العربي إلى الجامعة العربية.
الحاجة إلى آلية رسمية للتشاور والتوافق:
إن غياب التوافق الوطني الجامع وخلط الملفات الداخلية والخارجية قد يؤدي إلى إطالة عمر الحالة الثورية وإلى مزيد من الغموض. ولهذا فالحل هو إسراع النخب المصرية، وعلى رأسها المجلس العسكري، في ترجمة أهداف الثورة المصرية وطموحات أبنائها إلى مبادئ عمل ومواد دستورية وترتيبات مؤسسية بطرق توافقية غير إقصائية.
ويمكن تحقيق هذا الأمر بإقامة آلية رسمية للتشاور والتوافق تأخذ في اعتبارها الأولويات السابقة وتضمن قدرا أكبر من المشاركة والتوافق. هذه الآلية المقترحة لا تتناقض مع ما تبناه المجلس العسكري حتى الآن ولا تلتف على نتائج الاستفتاء السابقة كما قد يتصور البعض، فهي تتصل بكيفية ضمان تنفيذ ما اتفق عليه وإزالة المخاوف المتصلة بغموض الطريق وغياب الشفافية.
ويمكن أن تُشكل هذه الآلية على هيئة لجنة تقوم بشكل رسمي بجوار المجلس العسكري الحالي، بهدف التشاور وضمان التوافق قبل اتخاذ القرارات المصيرية التي تتصل بتعديل القوانين والتعيينات وتحديد معالم المرحلة الانتقالية.
واقترح أن تشكل اللجنة من عدد من الشخصيات لن يزيد عن العشرين تقريبا، هم قادة التيارات السياسية الرئيسة ورؤساء أحزاب وحركات قائمة بالفعل، وهي الإخوان المسلمون والوفد والجمعية الوطنية للتغيير وحزب الجبهة والحزب الناصري والكرامة والوسط والتجمع و6 أبريل وكفاية والحركات الشبابية اليسارية والليبرالية الأخرى. بالطبع سيوجد من يعارض من خارج هذه القوى، إلا أن هذا النوع من المعارضة لن يكون له وزن أمام توافق هذا الطيف الواسع من القوى السياسية.
إن الثوار مهدوا الطريق لإحداث التغيير بعد عقود من فشل النخب في إحداث إصلاح سلمي تدريجي، ولا يجب أن تُفشل هذه النخب فرصة التغيير باختلافهم وانفراد بعضهم بتحديد معالم الطريق الجديد.
ساحة النقاش