المقارنة رديف الموازنة, والتي هي سليقة بشرية ومهارة يتمتع بها البشر بنسب متفاوتة تتبع مستوى المعرفة والتركيبة النفسية والثقافة.. والمثل العربي يتردد في مواقف متمايزة و"بضدها تتمايز الاشياء". فالمقارنة عمل عقلي حسي ومهاري, ولكن هناك بون شاسع بين عمل الباحث الدّرب وبين عمل الفرد العادي في عملية المقارنة من حيث الوسائل والطرق والادوات العلمية التي تساعد الباحث على تحديد الافكار ووصفها وترتيبها في سياقات ثقافية او اجتماعية او علمية او تربوية....... فالمقارنة العلمية تساعد في عمليات التحليل والتفسير والتركيب والتعميم واستخلاص القوانين.
المقارنة في اللغة:
عند مراجعة اللغة لجذر المقارنة نجد أن قارنه (مقارنة) وقارن الشي بالشيء وازنه به (المعجم الوسيط), وفي الانجليزية نجد ان Compare تعني الفحص من اجل التعرّف على التشابه من عدمه ( قاموس ويبستر 1999) وبناء عليه يمكن تعريف المقارنة بانها : وسيلة للفصل بين شيئين وصولاً للحكم.
المقارنة في التربية:
ان تقدير درجة التمايز بين النظم التعليمية تعتمد على المقارنة في كثير من الاحوال. والتقدير يرتبط بالتعميمات العلمية, فالمقارنة اذن عملية او اسلوب يتسم بالعلمية, فاختبار الاحتمالات او الفرضيات يعتمد على المقارنة في تقدير درجة الصحة او الارتباط في دراسة ظاهرة من الظواهر التربوية. ويمكن القول بأن دراسة العلاقة بين المجتمع والتعليم او بين ممارسات التعليم وآلياته في نظام معين او مخرجات هذا التعليم في المجتمع في صور التعلم المتعددة: تتطلب استخدام المعلومات والبيانات او المعطيات القومية او عبر القومية من اجل اختبار الاحتمالات او الفرضيات التي ترتبط بقضية التعليم ككل او التربية في مجتمع من المجتمعات. وبشيء من القطعية يرى فاريل Farrell " انه لايمكن وضع تعميمات في دراسة تربوية دون استخدام الدراسة المقارنة او المنهج المقارن فيها". وهذا يعني - وفقا للرؤية هذه- أن التربية المقارنة هي احد المناهج الاساسية التي تعتمد عليها الدراسات التربوية, باعتبار ان استخدام البيانات العالمية يبلور المشكلة المدروسة بابعادها المختلفة. وقد يمثل هذا طموحا عاليا وواقعيا - في نفس الوقت- من فاريل في ظل طرح فكرة عالمية التربية او نظمها Global Education التي بدأت تنتشر في عالم اليوم.
تعريف التربية المقارنة:Education Comparative
نظرا لاختلاف وجهات النظر الايديولوجية واهتمامات الباحثين حول مفهوم التربية المقارنة - وهذا ينسحب على كل العلوم الانسانية والاجتماعية- ادت بهم الى قوقعة التعريف في اطارذاتيتهم وتخصصاتهم... فوجدت عدّة تعريفات في ادبيات هذا العلم منسوبة لاصحابها, منهم من ركز في تعريفه على الجانب التحليلي التفسيري للمجال وآخرون على الجانب التاريخي و ثلّة على الجانب الثقافي وقوم على الجغرافية السياسية وجمّع على الجانب الفني ......... وهذا عرض لبعض التعريفات مع محاولة التحليل لها:
1- تعريف جوليان Julian : (الجانب التحليليAnalysis )
" الدراسة التحليلية للتربية في البلاد المختلفة بهدف الوصول الى تطوير النظم القومية للتعليم وتعديلها بما يتماشى مع الظروف المحلية".
2- تعريف لاورايز Lauwerys :( الجانب التحليلي التفسيري Explanative & Analysis )
" دراسة تحليلية تفسيرية عن العوامل التي تؤثر في السياسة التعليمية وتحددها وهي بذلك تتضمن دراسة سياسة التعليم وتشتمل على دراسة الانظمة التربوية المختلفة من حيث واقعها وتطورها التاريخي في بلدين او اكثر واعطاء الاولوية للمقارنات بين هذه النظم وذلك بوصف وتقويم الطرق المختلفة في علاج المشكلات المتماثلة"(معجم المصطلحات التربوية/ رمزي كامل حنا الله ورفيقه 1998).
ورغم اتفاق صاحبي هذين التعريفين السابقين من حيث وجهتي النظر في ان التربية المقارنة عملية تحليلية تفسيرية الا أن جوليان وضّح هدف المجال وهو تطويرالنظام التعليم القومي بالاستفادة من تجارب الآخرين, اما لاورايز فقد وضح ان عملية التفسير والتحليل تتناول العوامل التي تؤثر في السياسة التعليمية السياسية منها والثقافية .....
3-تعريف كاندلKandel :(الجانب التاريخيHistorical )
" الفترة الراهنة من تاريخ التربية المقارنة, او انها الامتداد بتاريخ التربية حتى الوقت الحاضر" . وينتقد بيريداي هذا التعريف لان التربية المقارنة دراسة ذات طابع تتداخل فيه ميادين مختلفة. وهو يرى أنه اذا كان على التربية المقارنة ان تنشد شيئا ذا قيمة من دراسة اوجه الشبه والاختلاف في النظم التعليمية فان ذلك لايتحقق تماما الا باعتمادها على ميادين متعددة كعلم الاجتماع والتاريخ والاقتصاد والسياسة وغيرها.
4-تعريف مالينسونMallinson :(الجانب الثقافيCultural )
" الدراسة المنظّمة للثقافات من اجل اكتشاف اوجه الشبه والاختلاف ولماذا كانت هناك حلول مختلفة لمشكلات قد تكون عامة ومشتركة للجميع".
وهنا نجد تأكيد مالينسون لدراسة الاطار الثقافي للانظمة التعليمية وما يترتب على ذلك من اوجه الشبه والاختلاف وذلك بهدف نفعي اصلاحي يمكن الافادة منه في اصلاح النظم القومية وتطويرها.
5-تعريف بيريداي (الجانب الجويوسياسيPolitical Geography )
" الجغرافيا السياسية للمدارس من حيث عنايتها بالتنظيمات السياسية والاجتماعية من منظور عالمي, ومهمتها هي التوصل بمساعدة الطرق المستخدمة في الميادين الاخرى الى الدروس التي يمكن استخلاصها من المفارقات او التباين في الممارسات التربوية في المجتمعات المختلفة كوسيلة لتقويم النظم القومية المحلية".
ويتضح من هذا العرض للتعريفات المختلفة في محدّداتها بين العاملين في مجال التربية المقارنة المؤسسين منهم والمحدثين انه ناتج عن الرؤية الايديولوجية او اهتمامات الباحثين. فكاندل ينظر الى الشخصية القومية National Character – التي يعتبر النظام التعليمي نظاما فرعيا من نظمها- من منظور تاريخي, فيرى ان تاريخ كل امة على ارضها يعتبر القوة الكبرى التي تترك بصمتها على تلك الشخصية القومية التي تتميز بها الامة عن غيرها من الامم, وأنه – اي التاريخ- هو الذي يلوّن بقية القوى الثقافية التي تؤثر فيها بلونه الخاص, وهو ما يتفق فيه هانزHans مع كاندل وان كان الاول يعتبر التاريخ مجرد قوة او عامل من القوى والعوامل الثقافية الكثيرة التي تؤثر في الشخصية القومية وتحدد معالمها وتؤثر من خلالها في نظامها التعليمي.
ثم يأتي مالينسون لينظر الى التربية المقارنة ايضا من منظور تاريخي ولكن من زاوية ما اسماه النمط القومي Pattern National . ويرى عبد الغني عبود انه لا فرق بين مصطلحي الشخصية القومية والنمط القومي, فالنمط القومي لا يعد (بضم الدال) ان يكون ذلك السلوك الظاهر الذي يعبر عن الشخصية القومية وهذه الاخيرة لا وجود لها في الواقع الا من خلال النمط القومي الذي يعبر عنها.
وبعدها يرى لاورايز دراسة نظم التعليم في ضوء ما يسميه التقاليد الفلسفيةPhilosophical Classical للامة كبديل عن كلّ من الشخصية القومية والنمط القومي فتدّرس التربية الامريكية في ضوء الفلسفة البرجماتيةPragmatism (فلسفة اميركية تتخذ من النتائج العملية مقياسا لتحديد قيمة الفكرات وصدقها) والتربية الفرنسية في ضوء الفلسفة العقلانية والتربية الانجليزية في ضوء الفلسفة التجريبية Experimental والالمانية في ضوء الفلسفة المثاليةIdealism والسوفيتية في ضوء المادية الجدليةDialectical .......... ويعتبر ما توصل اليه لاورايز دفعة بالرؤى السابقة للامام حيث نجد انفسنا مع التقاليد الفلسفية امام مفهوم اكثر تحديدا ومباشرة لاقتصاره على عنصر رئيسي واحد هو الايديولوجيا بدلا من عدّة عناصر مكونة لمنهج النمط القومي او الشخصية القومية.
ويمكن بعد عرض التعريفات السابقة وخلفياتها ودوافعها الايديولوجية تبنّي تعريف عبد الغني عبود والذي يتسم بشيء من الشمولية وان كان الهدف الايديولوجي والثقافي متبدّي في تعريفه اكثر من الهدف النفعي الاصلاحي للمجال :
" دراسة نظم التعليم وفلسفاته واوضاعه ومشكلاته في بلد من البلاد او اكثر مع ردّ كل ظاهرة من ظواهرها ومشكلة من مشكلاتها الى القوى والعوامل الثقافية التي أدت اليها بحثا عن تلك الشخصية القومية التي تقف وراء النظام التعليمي بما فيه من مظاهر ومشكلات".
تحليل التعريفات السابقة:
1-التربية المقارنة مجالا مستقلا بذاته. فهي تهتم بالتربية في كل انحاء العالم, اي انها تعني بالتربية من منظور عالمي.
2-التربية المقارنة تعني بالدراسة التحليلية و التفسيرية للقوى الثقافية بهدف التوصل الى فهم معقول لجوانب التشابه والاختلاف بين الانظمة القومية للتعليم ومشكلاتها المختلفة.
3- التربية المقارنة تتضمن بالضرورة قيمة نفعية اصلاحية لتطوير نظم التعليم القومية. فللدراسات المقارنة اهمية في انها تساعد في رسم السياسات
التعليمية او اتخاذ القرار الافضل او تأييد وجهة نظر معينة بما يتناسب مع الظروف والامكانيات المحلية.
4-ينبغي لفهم النظم التعليمية ان نتعمق في تحليل القوى السياسية والاجتماعية التي تحكمها. ذلك ان النظم التعليمية تعكس عادة الفلسفة الاجتماعية والسياسية السائدة بصرف النظر عما اذا كانت هذه الفلسفة مصرّحا بها او عكس ذلك في بلد معين.
5- ليس هناك اطار موحّد لتطور النظم التعليمية. فبعضها جاء نتيجة تطور بطيء يمتدّ باصوله الى الماضي البعيد ومن ثم لا يمكن فهمها الا بدراسة التاريخ والتراث والتقاليد التي نشأت فيها وتطورت من خلالها ولعل هذا التوصيف ينطبق على النظام التعليمي العربي. وبعضها جاء نتيجة تغير ثوري مفاجيء ومن ثم استخدمتها الحكومات الثورية لتثبيت دعائم النظام الجديد كما في حالة الاتحاد السوفييتي. وبعضها فرضت على شعوبها المهزومة من جانب المنتصر الظافر كما في المانيا اعقاب الحرب العالمية الثانية. وبعضها جاء وليد الرغبة في الاسراع بعملية التغيير او التحول الاجتماعي كما حدث في انجلترا بعد الحرب العالمية الثانية بصدور قانون بتلر سنة 1944.
التربية والتربية المقارنة ( العلاقة بينهما):
ان الدراسة المقارنة في التربية تعني عند ميريت وكومبزMerritt & Coombs عملية تطوير النظرية التربوية التي تحتاجها التربية المقارنة فبدون هذه النظريات او النظريات التي تم بناؤها لا يمكن لباحث التربية المقارنة توضيح وتفسير القضايا التربوية حتى داخل نظام تعليمي قومي مفرد.
وينضم الى فكر السياق السابق لي تانه هو Le Thanh Khoi بمقولته "ان نظرية عامة حقيقية في التربية يفضل ان تقوم على دراسة متعمقة للعلاقات المتبادلة بين التعليم والمجتمع او التربية والمجتمع في مختلف الحضارات والسياقات الثقافية على أن يكون الغرض من ذلك هو التوصل الى احتمال تكوين قوانين او فرضية لكونها تحمل خصائص المكان والزمان التي تعطي مؤشرات معبّرة نسبيا عن جوانب التباين.
ويأتي اندرسونAnderson بمقولة تتسم بالقطعية ولا تخلو من الذاتية عندما يؤكد أن فهم التربية فهما كاملا لا يمكن ان يتم بدون التربية المقارنة, بمعنى ان التربية المقارنة يجب ان تكون جوهرية او علم اساسي في دراسة وتحليل وفهم نظم التعليم القومية عبر العالم ووضع تقريرات امبيريقيةEmpirical عن التربية.
التربية المقارنة والتربية الدولية:
تستهدف التربية الدوليةInternational Education تحقيق التفاهم العالمي المتبادل بين الشعوب. وتلعب التربية الدولية دورا هاما في هذا السبيل بما تقوم به من جهود في التقريب بين شعوب العالم والتعريف بثقافات هذه الشعوب ونظمها الاجتماعية وتأكيد ضرورة فهم الآخرين والتعايش معهم. ومن ثم فان هناك علاقة وثيقة بين التربية المقارنة والتربية الدولية من حيث ان الاولى تسهم في تحقيق اهداف الثانية بما توفره من معلومات عن ثقافات الشعوب وانظمتها الاجتماعية في ارتباطها بالانظمة التعليمية مما يساعد على تفهم الشعوب لبعضها البعض وتقاربها فيما بينها. ومن هنا يرى عبد الغني عبود أن هناك فرق بين التربية المقارنة والتربية الدولية فهذه الاخيرة لا يتعدّى الهدف منها تبادل الاشخاص والافكار بين المؤسسات التربوية في الدول المختلفة وتوعية الطلاب بمشكلات الشعوب الاخرى وتنمية الاحساس الانساني العام لديهم. اما مهمة التربية المقارنة (اصلا) فهي تتعدى ذلك الى الفهم والتحليل والتفسير.... .
ان التربية المقارنة تطرح جدلا بقوة كيف يمكن الاستفادة من خبرات الآخرين وتطبيقها على نظم تعليمنا رغم ان الظاهرة التربوية ليست ظاهرة طبيعية خطّية وانما المنحنى الانساني يمتاز بالتأرجح, لا سيما اذا اخذنا اعتبارات اخرى منها اختلاف الثقافات ومستوى التنمية والسياسات التعليمية....... ؟ أم أن مسألة الفروق بين الثقافات والخبرات بين الشعوب فيها نوع من التضخيم الهدف منها الانطواء على الذات؟ هذا ما سنحاول تناوله في الجزء الثاني........
ساحة النقاش