5 تكوين الأسرة وتربية الأبناء هو أهم وأخطر مشروع تقوم به في حياتك `بعد هذه السياحة المتعمقة مع هذه الأسرة المتميزة نود أن نخلص إلى بعض الحقائق في التربية الأسرية لتكون نبراسا لنا :أ) إن تكوين أسرة وتنشئة الأبناء ليس هو ركوب الحنطور أو تقديم وردة أو أكل جيلاتي فحسب ، وإنما هو أضخم مشروع يقوم به الإنسان في حياته ، وبه ومعه يبدأ الشخص في تحمل مسئولياته ومعايشة الحياة الحقيقية ، وهذه حقيقة لا يدركها الكثير من الناس وبخاصة الشباب . ب) أن التربية الصالحة تحتاج إلى الدراية والعلم ، وبذل الجهد والعرق ، وتحمل المشاق والصبر الجميل لما يترتب عليها من آثار ضخمة وثمار طيبة : فنحن نرى اللاعب حين يذهب ليؤدي مباراة في الكرة ويعرف نتيجتها بعد 90 دقيقة ، نراه يمارس العديد من التدريبات ويبذل الجهد والعرق وقد ينعزل في أحد المعسكرات فليس من الغريب في ميدان التربية أن ينزل الأب أو الأم أو المعلم إلى مارثون الحياة ويبذل جهده ويتعب ويعرق ، ولا يرى نتيجة تربيته إلا بعد 30 أو 60 عاما ، ولا يستطيع الإحاطة بكل آثارها الطيبة إلا يوم القيامة : فالتربية السوية كالكلمة الطيبة وهما كالشجرة الطيبة ؛ أصلها ثابت وفرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، ونظرة متعمقة إلى مسيرة سيدنا يوسف (عليه السلام) بل وإلى مسيرة حياة إخوته أنفسهم تؤكد لك هذه الحقيقة .وقد حاولت في إحدى دراساتي أن أستقصي ثمار التربية الطيبة وأضرار التربية السيئة ؛ فأحصيت أكثر من 50 ثمرة للتربية الصالحة ، وأكثر من 30 ضررا للتربية السيئة على الفرد والأسرة والمجتمع الذي يعيش فيه: (أحمد مصطفى شلبي، 2016).ج) والأحكام المتعجلة على الأبناء ليست في مصلحتهم ولا في مصلحة الأسرة ولا التربية ، وإنما المطلوب التحلي بالبصيرة والحكمة والصبر الجميل (فلا تربية بغير صبر) ثم الدعاء الدائم للأبناء وطلب العون من الله العفو القدير، كما فعل سيدنا إبراهيم عليه السلام...( ربِ اجعلني مقيم الصلاة ومن ذريتي ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب) (إبراهيم :40-41) ، ومن بعده سار على دربه حفيده سيدنا يعقوب عليه السلام .ولو توقف المشاهد أمام البئر (أو الجب) ورأى سيدنا يوسف وهو يلقى فيه لحكم ساعتها بأن حلمه قد تبخر بل وأن حياته نفسها قد انتهت، ولو سلط الكاميرا على بعض أخوته الذين ألقوه في البئر لحكم بأنهم أناس لا يرجو منهم فقد ارتكبوا جريمة شنعاء في حق أخيهم والذي ليس فيه خير لأخيه كيف سيكون فيه خير للآخرين! لكنك تتفق معي أن هذا حكم متعجل قد أتى بعد الشوط الأول من المباراة أو بعد الفصل الأول من القصة، وبقية أحداث وفصول قصة سيدنا يوسف (عليه السلام) ووصوله إلى منصب عزيز مصر ، قصته معروفة وسوف نشير إلى طرف من أحداثها بعد قليل، لكن تعالوا نسلط الضوء على بعض أحداث مسيرة إخوته هؤلاء: - النية المبيتة: (اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخلُ لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين) (يوسف: 9)وتأمل في العبارة الأخيرة وفي كلمة (صالحين)- تخفيف الجرم من القتل إلى الطرح على الأرض، وعند التنفيذ من القتل إلى الإلقاء في الجُب.- اعتراف الأخ الأكبر بالتقصير في حق سيدنا يوسف (عليه السلام) قبل أن يعرف بأنه عزيز مصر؛ (... من قبل ما فرطتم في يوسف....) (يوسف ، 80) اعتراف أخوته بالخطأ؛ (وإنا لخاطئون) (يوسف، 91) - طلبهم من الأب أن يدعو ويستغفر لهم: (قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين) (يوسف ، 97).- اجتماع شمل الأسرة ودخولهم في دين سيدنا يوسف (عليه السلام) - وصية أبيهم لهم وتأكيده عليها قبيل موته (ألا يموتوا إلا وهم مسلمون) كما سبق الإشارة.فهل كان للمشاهد للفصل الأول عند الجُب أن يتخيل هذا التحول لأخوة يوسف كأثر من آثار تربية أبيهم لهم وحنوه وصبره عليهم وبصيرته وحكمته معهم!!! وما بالكم كيف كان تأثير تربية هذا الأب في سيدنا يوسف نفسه ... (عليهما السلام)د) والتربية عملية تضرب بجذورها عبر الماضي السحيق وتستقي منه، وانظر إلى حديث النبي الكريم وهو يشير إلى عائلة سيدنا يوسف عليه السلام، فيقول: (الْكَرِيمُ ابنُ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ ابْنِ الكَرِيمِ: يُوسُفُ بنُ يَعْقُوبَ بنِ إسْحاقَ بنِ إبْراهِيمَ، عليهمُ السَّلاَمُ) (أخرجه البخاري).ه) أما في الحاضر فهي تملأ جنباته بهجة وإشراقا: (فالأبناء بهجة النواظر، وطرب الأسماع، وفلزات الأكباد وأمل المستقبل والزخر عند الكبر، ومن أعظم إنجازات الإنسان في هذه الحياة) (أحمد مصطفى شلبي: المرجع السابق، 2016؛ 5).و) ثمرتها هي المنتج البشري وهو أهم منتج تبنى عليه الأسر وتتقدم به المجتمعات في الحاضر والمستقبل ، وهي تنتج 3 أنواع؛ (فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله ...) ( سورة فاطر:32)ز) ودعاء الأبناء من الباقيات الصالحات ومن الذكر الحسن للإنسان بعد أن يطوي صفحة هذه الحياة : ففي الحديث الشريف؛ (إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث؛ صدقة جارية ،أوعلم ينتفع به ،أو ولد صالح يدعو له) (رواه مسلم ).ح) وتربية الأبناء تمتد آثارها إلى الجيل السابع منهم، كما أشار بعض العلماء في تفسيرهم لقوله تعالى (وكان أبوهما صالحا) (الكهف: 82) فقد حفظ الله الكنز للغلامين اليتيمين لصلاح أبيهما، وكما يقول المثل العامي: (العرق يمد لسابع جد).ط) ويوم القيامة يتشفع حافظ القرآن في عشرة من أهله وجبت لهم النار ويدخلهم الجنة، ويلبس والديه تاج الوقار، روى سهل بن معاذ عن أبيه ـ رضي الله عنهما ـ أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال: “من قرأ القرآن وعمل به ألبس والداه تاجًا يوم القيامة، ضوؤه أحسن من ضوء الشمس في بيوت الدنيا، فما ظنكم بالذي عمل بهذا؟ رواه الحاكم وصححه ورواه أبو داود.وعن أبي أمامة الباهلي ـ رضي الله عنه ـ قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: “اقرءوا القرآن فإنه يأتي يوم القيامة شفيعًا لأصحابه” (رواه مسلم).ي) كما أنهم يستقبلون أبويهم على باب الجنة ويرافقونهم فيها إن كانوا من الصالحين( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ ۚ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ) (الطور: ٢١).ك) كذلك فإنهم من أسباب السعادة وراحة البال في الدنيا والآخرة، ولذلك كان من دعاء عباد الرحمن؛ (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما) (الفرقان:74). فاللهم اجعلهم لنا زخرا وقرة عينٍ واحفظهم بحفظك الجميل ؛ فأنت خير حافظا وأنت أرحم الراحمين .
بقلم د. أحمد مصطفى شلبي [email protected]
نشرت فى 29 ديسمبر 2023
بواسطة mostsharkalnafsi
د.أحمد مصطفى شلبي
• حصل علي الماجستير من قسم الصحة النفسية بكلية التربية جامعة عين شمس في مجال الإرشاد الأسري والنمو الإنساني ثم على دكتوراه الفلسفة في التربية تخصص صحة نفسية في مجال الإرشاد و التوجيه النفسي و تعديل السلوك . • عمل محاضراً بكلية التربية النوعية و المعهد العالي للخدمة الاجتماعية . »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
362,644
ساحة النقاش