أبكي كريمـاً غُــيّـِب في الثــرى(<!--)
(الشيخ عبد الله بن إبراهيم الخريف رحمه الله)
سلامٌ على القبر الذي ضم أعظماً |
|
تحوم المعالي حولها فتسلم |
من منغصات الحياة وباعث أحزانها أن يفاجأ المرء بما يحزنه ويكدر صفو عيشه وملذاته في حالات لا يتوقع نزولها، ولا ارتطامها الموجع الذي يدكُّ هضاب قلبه ومهجته، فلقد كان لنبأ رحيل عمنا الفاضل ـ أبو إبراهيم ـ الشيخ عبد الله بن إبراهيم الخريف في 2 صفرعام 1395هـ وقع مؤلم في نفسي كدر خاطري، وأحزن أسرته وعارفيه ومحبيه حزناً طويلاً لما يتمتع به من سماحة خلق وسخاء وخصال حميدة قلَّ أن تتوفر في غيرة ، حيث وهبه المولى طيبة النفس، وسلامة القلب، ولين الجانب وحسن التعامل مع الصغير والكبير، فهو رجل خير وبركة، يأنس به جليسه، كله صدق ومحبة، وتواضع جم ّ، الابتسامة لا تفارق محياه ـ رحمه الله ـ لقد كافح منذ فجر حياته في طلب المعيشة والأخذ بأسباب التجارة والكسب الحلال الذي هو طابعه طيلة عمره المجيد معتمداً على الله ثم على مجهوده الشخصي، فهو رجل عصامي لا عظامي..!
ولقد باكره اليتم صغيراً بوفاة والده إبراهيم فضاقت الدنيا في عينيه ولم ير أمامه سوى أن يشمر عن ساعديه غير معول على أحد، ولسان حاله ذاكراً قول الشاعر الذي يحث على مجابهة الحياة بالصبر والعمل الجاد الدؤوب:
وإنما رجل الدنيا وواحدها |
|
من لا يعول في الدنيا على رجل |
وحينما علم أن جسمه الضئيل ـ آنذاك ـ لا يتحمل الكد ومزاولة الأعمال الحرفية الشاقة التي هي من مصادر طلب المعيشة السائدة في تلك الأزمان البعيدة..، لم ير بُداً من الأخذ بأسباب جلب الرزق بمزاولة البيع والشراء على قدر حاله. ويُقال أن أول ما بدأ به: شراء "قلّة تمر" يساوي وزنها حوالي 60 كيلو من أحد تجار الرياض في تلك الحقبة الزمنية ..، فأخذ يبيع منها (بالقطّاعي) فيكسب قرشاً أو قرشين يومياً، ثم يسدد القيمة لصاحب البضاعة إذا توفرت لديه، واستمر على هذا المنوال وقتاً من الزمن..، وقد كسب ثقة التجار ووثقوا به وبصدقه وأمانته، فا استمروا في تشجيعه وإمهاله في تسديد الثمن..، وتدرج في البيع والشراء، حيث نال شهرة عظيمة، وثقة تامة حتى من لم يره أو يقابله البته..! فأخذ بعض تجار التمور بمدينة الإحساء يكاتبونه ويبعثون إليه كميات كبيرة بواسطة قوافل من الجمال محملة بأطنان من جيد التمور لبيعها غير مطالبين بدفع قيمتها ..، وعندما يقوم ببيعها وبتصفية أثمانها يبعثها إلى أصحابها، وهكذا ينجح الصادقون والمخلصون في تعاملاتهم ..، ثم فكر ـ رحمه الله ـ هو وأخوه العم محمد في جلب مكائن ومضخات للري لتحل محل " السواني" التي كانت تستخدم في سحب المياه من الآبار لسقاية النخيل وسائر المحاصيل الزراعية، ويعتبران من أوائل من فكر في جلب تلك الآلات ..فأخذت تلك المكائن تنتشر شيئاً فشيئا في المزارع الحكومية أولاً بل وفي أرجاء البلاد عموماً، وقد حازا قصب السبق في هذا المجال الحيوي، وقد شجع على سرعة انتشارها حسن تعاملهم مع أصحاب الفلاحة والزراعة، وإمهال المعسرين منهم حتى تتحسن أحوالهم مما زاد في شهرتهم وسمعتهم الحسنه، وإقبال أصحاب الفلاحة على امتلاك تلك المضخات التي أراحت الكثير منهم من معاناة ومتاعب السواني ..ـ أي نزح الماء بواسطة الحيوانات مثل الحمير والجمال والأبقار حسب حال وإمكانيات كل بلد، وتعتبر بداية قفزة جديدة حضارية، وعندما كثر أبناؤهم أستقل العم عبد الله ـ أبو إبراهيم ـ بأعماله التجارية التي نمت نمواً ملحوظاً، ثم منح أبنيه الكبيرين إبراهيم وعبد الرحمن الصلاحية ومعاونته في إدارة بعض الأعمال التجارية ليتدربوا وليعتمدوا على أنفسهم بحذق فن التجارة والتعامل مع عملائهم بكل احترام ولباقة في قابل الأيام ..، لعلمه اليقين أنه سيرحل في يوم من الأيام، ويبعد عنهم بعداً أبدياً، ويبقى المال بين أيديهم متداولاً..!! مؤكداً لهم ذلك ، ولسان حاله يردد على مسامعهم قول الرياحي:
وكل إمرء يوماً سيلقى حمامه |
|
وإن نأتِ الدعوى وطال به العمر! |
ولم يقتصر نشاطه التجاري ـ رحمه الله رحمة واسعة ـ على جلب المضخات فحسب بل وفي كثير من العقارات والأراضي التي كان كثير الصبر في التعامل بها مابين هبوط أسعارها وارتفاعها، وصدق من قال: " فما انقادت الآمال إلا لصابر"
ولقد فطر على حب المساكين والعطف على الأرامل والأيتام وذوي الحاجات يبذل بيد ندية في أوجه البر والإحسان، كما أنه قد سعد ببناء عدد من المساجد في كثير من المواقع: بالرياض وفي بعض البلدان مثل مدينة مرات وحريملاء وغير ذلك من البلدان الأخرى .. مع تشييد منازل للأئمة والمؤذنين، فهو قدوة حسنة في أعماله الجليلة لمن يحب البذل فيما يرضي رب العباد ـ جلت قدرته ـ ، ونحن على يقين أن أنجاله الكرماء النجباء سيحذون حذوه في البذل للأعمال الخيرية، وكل ما ينفع الوطن وأهله بنمو سنام التجارة لديهم مجتمعين على هيئة شركة ـ بحول الله ـ وذلك ضماناً لقوتها وديمومة استمرارها وعطائها لتبقى قامة عالية يستفيدوا منها والمواطن معاً . وللعم عليّ فضل كبير لا أنساه منه على سبيل المثال احتضانه لي عندما قدمت من حريملاء لأنظم إلى طلبة العلم بحي دخنه لتلقي مبادئ في العلم على يد سماحة مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ الشيخ محمد ن إبراهيم وعلى أخيه الشيخ عبد اللطيف بمسجد الشيخ محمد ـ رحمهم الله جميعاً ـ ، وقد أكد علي بأن أكون في ضيافته لتناول طعام الغداء والعشاء مدة إقامتي بالرياض عامي 69/1370هـ لعلمه أن الحال المادية والمكافأة التي تصرف لنا شهرياً من قبل الشيخ محمد بن إبراهيم لا تتجاوز أثني عشر ريالا وخاصة للمبتدئين أمثالي ..، فهي زهيدة جداً ، كما لا أنسى عطف ورعاية زوجته ـ أم عبدالرحمن ـ عليّ متعها الله بالصحة والسعادة، التي تعتبرني أحد أبنائها، ودائماً تشجعني على الاستمرار في الحضور إلى البيت في أوقات تناول الطعام والاستئناس بالتحدث مع أولادها لتخفف عني وحشة الغربة والبعد عن الأهل ..، علماً أن سكني في أحد غرف البيوت التي خصصها جلالة الملك عبدالعزيز لطلاب العلم ـ طيب الله ثراه ـ ، وعندما كبرت شجعني العم على الزواج وأقرضني بعض المال وقبل ذلك سعدت بصحبته لأداء فريضة الحج، وقد استفدت من تلك الصحبة ومن خصاله الحميدة التي تتصف بالسخاء والكرم والتسابق في شراء بعض متطلبات الرفاق مثل تأمين الماء في مواسم الحج بمنى وعرفات، وتوفير الحطب وغير ذلك من مستلزمات المسافرين هناك، وهذا هو شأنه مع أحد رفاق الحج من أهالي القصيم ويدعى صالح الدحيم من موظفي الهيئة بمكة المكرمة ـ على ما أظن ـ ، فكل واحد منهما يحاول أن يسبق الآخر في شراء زفات الماء قبل توفره بواسطة الأنابيب في تلك الأزمان، والزفات عبارة عن صفيحتين من التنك يحملهما السقا بائع الماء والقيمة في مواسم الحج في ذالك العام مابين أربعة ريالات فضة إلى ستة ..، فهذه الصفة المحمودة تركت في نفسي حب التسابق في شراء بعض متطلبات الرحلات أو السفريات، ومثل هذه المبادرات الطيبة تؤنس الصحب في رحلاتهم وأسفارهم، وقيل إن سبب التسمية بالسفر لأنه يسفر عن وجوه الرجال وعن طباعهم وسلوكياتهم، والحقيقة أن غياب ورحيل العم عبد الله قد أحدث فراغاً وفجوة واسعة في محيطه الأسري والاجتماعي معاً والعزاء في ذلك كله أنه نشأ في طاعة الله وترك ذكراً حسناً وذرية صالحة تدعو له، ولله قول الشاعر :
وإن تكُ غالتك المنايا وصرفُها |
|
فقد عشت محمود الخلائق والحلم |
فالذكريات الجميلة مع العم عبد الله و مع أنجاله الكرام ستبقى في مضمر النفس مدى عمري ، رحم الله أبا إبراهيم وأسكنه عال الجنان ، وألهم ذويه وأبناءه وبناته ، وأم عبدالرحمن وإخوته ، ومحبيه الصبر والسلوان ،"إنا لله وإنا إليه راجعون"
<!--[if !supportFootnotes]-->
<!--[endif]-->
(<!--) كتبت يوم الأحد 5 صفر 1395هـ، الموافق 16 فبراير 1975م.