فراقك يا والـدي محـزن(<!--)
فلا جزع إن فرق الدهر بيننا |
|
فكل امرئ يوماً به الدهر فاجع |
الإنسان في هذا الوجود وفي مراحل عمره يمر بأتراح ومنغصات وبأفراح ومسرات وأجمل تلك المراحل وأحلاها مرور أعوام وسويعات عمر المرء بين أحضان والديه، واستمرار إقامته حولهما ، وخاصة حينما يعلوهما الكبر وتبدأ حاجاتهما إلى المساعدة والرعاية، لأن البر بهما من أوجب الواجبات وأعظمها؛ تُضاعف فيه الحسنات. ولقد قرن المولى رضاه برضى الوالدين، قال تعالى:(وقضى ربك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحساناً ..الآية) وقال رسول الهدى: "برّوا آباءكم تبرّكم أبناؤكم " ولكن الأيام لا يدوم لها سرور :
ومن عاش في الدنيا فلابد أن يرى |
|
من العيش ما يصفو وما يتكدرُ |
فبعد صلاة المغرب من ليلة الجمعة 8 محرم1383هـ أنسلّت بهدوء روح والدنا العالم الجليل الزاهد الشيخ: عبد الرحمن ابن محمد بن ناصر الخريف بعدما صحبت جسده الطاهر أكثر من ثلاث وتسعين حِجة ..، بعد عمر طويل حافل بإخلاص العبادة لله وباقتناص شتى العلوم النافعة من بطون الكتب ومن أفواه مشايخه الفضلاء، ولد عام 1289هـ وفي سن مبكرة ألحقه والده بإحدى الكتّاب لدى الشيخ المقرئ عبد العزيز ابن ناصر التريكي، ثم تولت رعايته هو وشقيقاته والدته الحنون بعد وفاة والده حتى ختم القران الكريم حفظاً وتلاوة ـ رحمهم الله جميعا ًـ ، ولقد أعقب فقدك يا والدي ورحيلك عنا حزناً طويلاً في نفسي وبين جوانحي وفي نفوس إخوتي ووالدتي ومحبيك، وكان لهذا الغياب الأبدي فجوة واسعة في مجال العلم والإرشاد والفتوى في حريملاء، وما جاورها من البلدان والأرياف؛ لما يتمتع به من خلق كريم وأدب جِّم رفيع وغزاره في علمه، وحفظه لكلام الله مجوداً "مع إلمامه بتفسير وأسباب نزول الكثير من السور والآيات"، وكان معروفا عنه حدة الذكاء وسرعة الحفظ منذ فجر حياته ..، فهو موسوعة في علم الحديث، والفقه، وعلم الفرائض، وفي اللغة العربية وآدابها :
ليس على الله بمستنكر |
|
أن يجمع العالم في واحد |
فهو علَم بارز ومرجع لبعض القضاة والعلماء وطلاب العلم في إيضاح ما قد يستعصي فهمه لديهم من الأحكام الشرعية وعلم المواريث مع اختيار أيسر السبل وأفضلها وأقربها للصواب بعبارات وجيزة خالية من الحشو والإطناب مما يدل على عمق علمه وفهمه للأحكام الشرعية، فهو مدرسة تربوية لنا وللعامة والخاصة معا ـ رحمه الله ـ وقد تروى من رِضَاب العلم على نخبة من كبار العلماء والمشايخ بدءً من الشيخ محمد بن ناصر المبارك رائد الحركة التعليمية في "الشعيب" و"المحمل"، والشيخ عبد الله بن فيصل قاضي حريملاء، والشيخ حمد بن عبد العزيز، والشيخ عبد الله الحجازي، ومعه مجموعة من طلبة العلم كالشيخ علي بن داود، وناصرالعمراني، وحسن العمراني، ومن خارج حريملاء أمثال الشيخ عبد الله بن محمد أبالخيل، والشيخ عبد المحسن إبراهيم الحقيل، وأحمد الدهش، ومن بلاد فارس عبيد الله، وعبد الكريم الدرويش وغير هؤلاء من طلبة العلم. وكانت حريملاء في ذلك الوقت كخلية نحل يؤمّها الكثير من طلبة العلم لما يجدونه من تشجيع وإكرام من أهالي حريملاء. ثم رحل إلى الرياض فلازم الدراسة على مجموعة من المشايخ:الشيخ عبد الله بن عبد اللطيف، والشيخ حمد بن فارس، والشيخ سعد بن عتيق. والشيخ إبراهيم بن عبد اللطيف ـ رحمه الله الجميع رحمة واسعة ـ فلم يفارق مجالسهم حتى منح الإجازة العلمية. وكان أثناء إقامته بالرياض يطلبه الإمام عبد الرحمن الفيصل ليسمعه ما تيسر من كلام الله، لما يتمتع به من حسن الصوت وقدرته على التجويد والترتيل. وبعد استيفائه لدراسة العلوم الشرعية واللغوية رجع إلى بلده حريملاء وانضم إلى علمائها ـ مرة ثانية ـ ولازم مجالستهم، ولم يشغله طلب معيشته عن الاستمرار في البحث والقراءة حتى أصبح عالماً جليلا يشار إليه بالبنان. كما أنه لم يُوغل في طلب الدنيا بشغف أو نهم وإنّما ليعيش عيشة بساطة وكفاف.
وفي عام 1347هـ اختاره الملك عبد العزيز قاضيا لبلدة (قرية العليا) الواقعة في الجزء الشرقي في المملكة فلم يقبل العمل في سلك القضاء تورّعا، ولكنه ألزمه فتوجّه وبقي هناك مدة تسعة أشهر وأثناء هذه الفترة ظل يكاتب الملك عبد العزيز طالباً الإعفاء من هذا العمل فنقله إلى بلدة (سنام) الواقعة في منطقة العرض. وكان الملك عبدالعزيز يأمل من نقله وتقريبه إلى منطقة الرياض قبوله الاستمرار في القضاء، ولكن الوالد ـ رحمه الله ـ هدفه مفارقة العمل في مجال القضاء، فظلّ يُلح على الملك في طلب الإعفاء حتى أُعفي عن منصبه فعاد إلى بلده حريملاء فرحا مسرورا، ولسان حاله يردد قول أبي الطيّب المتنبّي يوم لامه أحد طلاب العلم على تركه هذا المنصب مٌتمنِياً أن يكون بديلاً له:
ماذا لقيــت من الدنيا وأعجبه |
|
أني بما أنا باكٍ منه محسود |
فلما استقر هناك التفّ حوله لفيفٌ من طلبة العلم أمثال: الشيخ عبد الرحمن بن محمد المبارك، والشيخ أحمد بن علي الشدّي، والشيخ عبد العزيز بن حمد المقرن. يستمع لهم في جملة من كتب المطوّلات في الفقه، والتفسير، والسِير، كما يحضر لديه مجموعه أخرى لتقلي القرآن الكريم حفظا ودراسة مجودة، ومن أبرز أولئك .. الشيخ محمد بن سليمان المهنا، والشيخ عبدالله بن محمد بن منصور، والشيخ صالح بن عبدالله بن صالح، والشيخ صالح بن ناصر العجاجي، والشيخ عبدالله بن ناصر العمراني ـ رحمهم الله جميعا ـ والأستاذ عبدالله بن سلمان الحميدي ـ متعه الله بالصحة ـ وغيرهم من القراء ونظراً لانشغاله بأسباب المعيشة لم يتمكن من التأليف. وإنما اقتصر على بعض التعليقات والهوامش المفيدة. فهو إلى جانب ذلك يمضي الساعات الطوال في القراءة والبحث حتى قُبيل وفاته، حيث توفي في ليلة الجمعة الموافق 8/1 /1383هـ عن عمر يناهز الثالثة والتسعين عاما..
وكان وَلوعاَ بالرماية والصيد، يتغذّى بعض الوقت بلحوم الظباء والوعول، وصيد أنوع من الطيور فهو يجد في ذلك خلوة من المشاكل، ومتعة لا يساويها شيء من متع الحياة. وكان معنيّاً بتوجيه بنيه الوجهة السليمة، ومن وصاياه لنا تقوى الله في السر والعلانية، وإصلاح ذات البين والتغاضي عن هفوات الإخوان وعدم التدخّل في شؤون الغير، وإكرام الضيف، والتعفّف عمّا في أيدي النّاس، والزُهد في الدنيا، والدعوة الصادقة لولاة المسلمين..
تولّى وأبقى بيننــا طيب ذكره |
|
كباقي ضياء الشمس حين تغيب |
رحمك الله ياوالدى رحمةً واسعة، وجمعنا بك في دار كرامته، وأسبغ عليك شآبيب رحمته، وألهمنا وجميع الأسرة ومحبيك الصبر والسلون، إنه سميعٌ مجيب
(( إنـــــا لله وإنا إليه راجعون ))
إبنك المفجوع بفراقك ..
عبدالعزيز بن عبدالرحمن الخريف
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->