الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد: فالموجب لجمع هذه الكلمات بهذا الكتاب وفاء لمن رحلوا عنا إلى دار الخلود التي سكبنا فيها العبرات وذرفنا فيها الدمعات الحرى حزناً عليهم من والدين وأخوة، ومن رجال أفذاذ فقدهم هذا الوطن وأحدث رحيلهم فجوات واسعة في مجالات عدة.... فالإشادة بمآثرهم وآثارهم الحسان محمدة تلوح بما خلدوه من أعمال جليلة وذكرى حسناً على مر الملوين، فمعلوم أن الرثاء والتأبين من أبرز ماحفلت به كتب التراث منذ القدم . منذ العصر الجاهلي، وقلما نجد شاعراً منهم أغفله أو استغنى عنه، وكان العصر العباسي من أغنى العصور بالشعر عامة وبالرثاء خاصة، وقد سكب الشعراء لهيب حزنهم وفيض مشاعرهم، وعصارات مهجهم حزناً على فقد من كان معهم من أهل وإخوة وأحبة، وعد مناقبهم ومحاسنهم وما تركوه من آثار خالدة وسير حميدة، فالرثاء الصادق يفيضُ من براكين النفوس حمماً، وقد يحس الشاعر أو الكاتب حرارة قلمه أثناء تسجيل مشاعره وإفراغها كتابةً لشدة الأوار الذي يعتمل داخل طوايا نفسه وفي قلبه..، وهذا عين صدق المشاعر في هذا المجال ..، لذا أحرص حينما أهم بالكتابة عن راحل له مكانته في شعاب نفسي أن أطعم ما أكتبه بأبيات مؤثرة من جيد أشعار القدامى للتعبير عن مدى تأثري فيما أكتب عن أولئك الأعزة الراحلين ـ تغمدهم الله بواسع رحمته ـ
الدهر لاءم بين ألفتنا |
|
وكذاك فرق بيننا الدهر |
وكقول الآخر مجيباً لسؤال مقدر بهذا البيت الذي يفيض حزناً ولوعة:
بلى إن هذا الدهر فرق بيننا |
|
وأي جميع لا يفرقه الدهر |
مع ذكر عدد من محاسنهم وآثارهم الحسنة، ولقد اقترح الكثير من الإخوة أن أقوم بتأليف كتاب أحصر فيه كلمات الرثاء والتأبين التي أفرغتها من خاطري كتابة حزناً وأسفاً على من غابوا عنا إلى دار البقاء، وعددها أربعة وثمانون كلمة موثقة التاريخ والزمن، ليستفيد قارؤوها من نوادر الأبيات التي ورد ذكرها في ثنايا تلك الكلمات ..، فهي شواهد جاهزة ومؤثرة يحلو لكثير من الكتاب اصطياد أمثالها من بطون الكتب:
تولى وابقى بيننا طيب ذكره |
|
كباقي ضياء الشمس حين تغيب |
وقيل لما اعتلّ سيبويه وضع رأسه في حجر أخيه فبكى أخوه لما رآه لما به، فقطرت من عينيه قطره على وجه سيبويه ففتح عينه فرآه يبكي فقال:
أُخيين كنا فرق الدهر بيننا |
|
إلى الأمد الأقصى، ومن يأمن الدهرا |
وهكذا يحسن إيراد أمثال تلك الشواهد حسب المقام والحال..
ولقد جمع شتاتها الابن البار محمد بهذا الكتاب الذي أرجو أن يحضى بالقبول ممن يسرح طرفه في صفحاته ..، وبمجمل الشواهد الشعرية المذيلة بآخر هذا الكتاب .. ليسهل عليه أخذ ما يحتاج إليه ..، كما أود من القارئ الكريم غض النظر عما يلمسه من إيراد الشاهد وبعض عبارات التأبين في عدد من الكلمات، وليعتبر كل موضوع مستقلاً بذاته وعن غيره ..، لأن موضوع الرثاء والتأبين محدود، ولامناص من ذكر محاسن ومآثر كل من غاب عنا وعن الوجود ..، وذلك لاشتراك معظمهم في الصفات والآثار الحميدة .. والأعمال الجليلة التي عملوها في حياتهم وبقيت شاهدة وذكرى معطرة بالثناء عليهم ـ تغمدهم الله بواسع رحمته ـ ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
دقات قلب المرء قائلة له |
|
إن الحياة دقائق وثواني |
فأعمل لنفسك بعد موتك ذكرها |
|
فالذكر للإنسان عمر ثاني |
وهذا الكتاب هو باكورة حصيلة العمر، ومشوار الحياة الأدبية ..، ويليه عدد من الكتب التي تضم بين دفتيها مجموعات من مقالات المناسبات والذكريات، ولا يسعني إلا أن أشكر معالي الدكتور عبد العزيز بن عبد الله الخويطر الذي عطر هذا الكتاب وذلك بتشريفي بكتابة المقدمة فبارك الله فيه وشكر مساعيه، والشكر موصول للأستاذ الفاضل عبد الله بن صالح الرشيد الذي اختتم هذا الكتاب بكلمته الضافية، وإن كانت حافلة بالمبالغة والإطراء ـ هداه الله وأصلح عقبه ـ فأنا أستميح القارئ الكريم عذراً فيما سطرناه هنا متذكراً هذا البيت:
إن تجد عيباً فسد الخللا |
|
جل من لاعيب فيه وعلا |
المؤلف..