الشيخ محمد الجنوبي علم من أعلام القضاء في ذاكرتي (<!--)
وطول مقام المرء في الحي مخلقٌ ** لديباجتيه فأغترب تتجدد
تختلف المواقع التي يعيش بها بنو البشر في هذه الحياة على أديم هذا الكوكب الأرضي باختلاف رغباتهم وطبائعهم أو السير في نواحيها لهدف الاستيطان بها طلباً للرزق والمعيشة، أو لأجل اقتناص شوارد العلوم من مظانها.. على أيدي العلماء الأجلاء.. أو للعمل الوظيفي فكل ميسر لما خلق له، وقد يغادر المرء محضنه مهوى رأسه ومرتع صباه غير مُخَيّر لسبب من الأسباب، كالأوامر العسكرية..، الوظيفية التي لا يُجْدِي فيها الاعتذار، فمن ذلكَ أوامر الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه -الحربية والعسكرية، وتعيين العلماء لمحاربة الجهل في ربوع مملكته ببعث من يأنس بصلاحه وبعلمه ليتولى القضاء في مدن وأرياف وهجر البلاد قاصيها ودانيها لتبصير أهلها بأمور دينهم وإصلاح أحوالهم وبث روح الـتآلف فيما بينهم حاضرها وباديها، وذلك في بداية توحيد أرجائها وتوطيد أركانها، ومن اهتماماته بشعبه القضاء على الجهل ببعث أئمة ومرشدين في الهجر والقرى النائية..،وتعيين قضاة في كبريات البلدان والأقاليم التي يكثر فيها السكان، فمن أولئك القضاة فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز الجنوبي الذي ولد في حريملاء عام 1313هـ وقد باكره اليتم بفقد والده قبل سن الفطام، وتولى رعايته في البداية عمه عبدالله (بملهم) وعندما بلغ سن السابعة عاد الى حريملاء وانضم إلى بعض الكتاب لحفظ كلام الله لدى المقرئ -المطوع -حمد بن داود بحريملاء، فقد وهبه الله قوة في الفهم وسرعة في الحفظ وقد فاق أقرانه في ذلك، علماً أنه بصير لا يبصر فقد بصره في السنة الثامنة من عمره.. ولكن الله عوضه نفاذ البصيرة وقوة الحدس مع ما بداخلة من تحسر على فقد نعمة البصر ورؤية ما حوله وما بَعُد َمَداه أمام ناظريه، وكأن لسان حاله يُردد قول الشاعر ابي يعقوب الخريمي بكل حزن وتأسف:
لله عينيَّ التي فجعـــــت بهمـا ** لو أن دهـــراً بهـــا يواتيني
لو كنت خُيّرت ما أخذت بها ** تعمير(نوح) في ملك (قارون)
ثم ما لبث متذكراً قول الصحابي عبدالله بن العباس -رضي الله عنه-بهذين البيت الذي كثيراً ما يردده في نفسه سراً وعلنا فيجد سلوة وانشراحَ خاطر ورضى بما قدره رب الخلائق جل ذكره:
وإن يأخذ الله من عيني نورهما ** ففي لساني وقلبي منهما نور
وبعدما ختم القرآن الكريم عن ظهر قلب اتجه إلى مسجد "قراشة" بحريملاء الذي كان يعجّ بطلاب العلم من حريملاء ومن خارجها من البلدان المجاورة والبلدان البعيدة مثل بلدان سدير والقصيم بل ومن بلاد فارس أمثال عُبيدالله، وعبدالكريم المعروفين آنذاك لتلقي مبادئ في العلمهله ورفا على يد رائد الحركة العلمية فضيلة الشيخ محمد بن ناصر المبارك، ثم واصل الشيخ محمد الجنوبي في تلقيه العلم على فضيلة الشيخ محمد بن فيصل بن حمد المبارك بعد ذلك رحل إلى مدينة الرياض ودرس على كبار العلماء هناك بتوسع أمثال المشايخ عبدالله بن عبداللطيف، وحمد بن فارس، وسعد بن عتيق، وعلى يد سماحة المفتي الشيخ محمد بن إبراهيم، ودرس علم الفرائض والنحو على فضيلة الشيخ عبداللطيف بن إبراهيم، مما أهله للقضاء، وحينما يعلم جلالة الملك عبدالعزيز عنه وعن أمثاله ما يلبث أن يوجههم إلى البلدان قريبها وبعيدها للقضاء وإرشاد العامة والخاصة والإمامة في المساجد الكبيرة وإلقاء خطب الجمع بها تنويراً لأهلها.. فقد صدر أمره الكريم بتعيين فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز الجنوبي قاضياً في بلدة "رنيه" بلاد سبيع بالمنطقة الجنوبية بتاريخ 1/7/1355هـ وقد طلب الشيخ محمد إعفاءه من القضاء لبعده عن أهله وبلده ولمشقة السفر ووعورة الطرق
-آنذاك - فردَّ عليه الملك عبدالعزيز بأن يمتثل أمره قائلاً الوطن بحاجة لأمثالك. فسر على بركة الله وربنا يعينك..، ومكث برنيه قرابة ثلاثة أعوام.. ثم نقله إلى "تربه" في
1/1/ 1358هـ بعد ذلك تنقل في عدد من البلدان، وكل خدماته (رحمه الله ) كانت في الجانب الغربي من المملكة في: تثليث، ظهران الجنوب، نجران، وحجاز بلقرن حتى 1/1/1388هـ تاركاً أثراً طيباً وذكراً حسناً في تلك المواقع التي سعد بالمكث فيها قاضياً وخطيباً:
وإنما المرء حديثٌ بعده ** فكن حديثاً حسناً لمن وعى
فمعظم قضاياه تنتهي بالصلح والرضا بين الطرفين لما يتحلى به من لين جانب وحسن تعامل وفهم لطبائع النفوس البشرية على اختلاف اجناسهم ومواقعهم، ولذا سهل عليه سياستهم وانقيادهم لمشورته وآرائه الصائبة..، وكانت حياته العملية كلها في القضاء بتلك الديار النائية عن مهوى رأسه ومدارج صباه امتثالاً لأوامر الملك عبدالعزيز-طيب الله ثراه -وكانت قرارات جلالته وأوامر جلالة الملكين سعود وفيصل كلها خطية وبرقيات تتصف بالإيجاز وبلاغة الكلام، فالشيخ محمد محل ثقتهم واحترامهم له – تغمد الله الجميع بواسع رحمته – وكان بينه وبين والدنا الشيخ عبدالرحمن بن محمد الخريف علاقات حميمة وصلات متينة، وتبادل بينهما في الرسائل، ولازلت محتفظاً ببعض تلك الرسائل حيث سبق أن بعثها لوالدنا بخط نجله الأكبر الشيخ عبدالعزيز من محكمة نجران بتاريخ 17/8/1374هـ كما أنه يهدي بعض الهدايا مثل البن اليمني والعسل الخالص..، واستمر التواصل بينهما حتى فرقهما مفرق الأحباب والجماعات، وقد توفي رحمه الله في عام 1407هـ مخلفاً ذرية صالحة تدعوا له وتجدد ذكره الحسن بعد حياة عمل طويلة واغتراب. وهذه الكلمة الوجيزة تذكاراً طيباً لأعماله الجليلة وعلاقته الودية مع والدنا، تغمده المولى بواسع رحمته واسكنه فسيح جناته.
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) أرسلت للنشر في صحيفة الجزيرة الأربعاء 14 محرم 1434هـ الموافق 28 نوفمبر 2012م.