الشيخ د /صالح الأطرم عالم فقدناه(<!--)
وإذا الكريم مضى وولى عمره |
|
كُفِــل الثـناء له بعـمرٍ ثان |
من طبيعة الإنسان السّوي في هذا الوجود الميل إلى صحبة الأخيار والاستئناس بهم وبأحاديثهم، وبالأخذ والعطاء معهم، وتبادل المصالح والمنافع حسب طبيعة كل إنسان، والتعاون فيما بينهم في شؤون الحياة عامة وفي سائر المجالات الأخرى ..، فحلاوة الدنيا ومسراتها تَعْذبُ وتحلُو بتعدد معارف الإنسان من الأصدقاء ورفاق العمر، ولكن شَعوباً ينغصها ويكدر صفوها برحيل الواحد تلو الآخر من أولئك الأحبة ..
ففي يوم الجمعة 26/12/1428هـ فُجعنا برحيل ومغادرة الحياة الزميل الفاضل الشيخ د/ صالح بن عبد الرحمن الأطرم عضو هيئة كبار العلماء زميلي في تلقي مبادئ العلم لدى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ وفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم بمسجد الشيخ محمد بن إبراهيم بدخنة عامي 69/ 1370هـ رحمهم الله جميعاً ـ وزميل الدراسة بالمعهد العلمي عامي 73/1374هـ بعد عودتنا من دار التوحيد بالطائف ..
والحقيقة أن توالي رحيل الزملاء أمثال الشيخ صالح محزن جداً ومحدث فراغاً موحشاً وموجعاً لنفسي فأنا كلما أخلو بنفسي تجول بخاطري أطياف أحبتي ورفاق دربي، وأحس بوحشة الفراق والغربة في هذا الوجود:
إذا ما مضى الجيل الذي أنت منهم |
|
وعمرت في جيل فأنت غريب! |
ولقد ترعرع فضيلة الشيخ في أكناف مدينة الزلفي المعروفة برجالها الذين يغلب عليهم طابع الجد والحرص على اقتناص العلم، والصلابة في الرأي والتفاني في النهوض ببلادهم ..، ثم شخص إلى الرياض مبكراً لطلب العلم هناك لدى المشايخ على يدي سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم وأخيه الشيخ عبد اللطيف بمسـجد الشيخ محمد وفي منزله أيضاً.. وبعد افتتاح المعهد العلمي عام 1371هـ ألتحق به حتى نال الشهادة الثانوية عام 1374هـ ثم واصل الدراسة بكلية الشريعة وحصل على الشهادة العالية بتفوق عام 1378هـ، ثم عين مدرساً وعضواً في هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأخيراً عضوا بارزاً في هيئة كبار العلماء وفي اللجنة الدائمة للإفتاء إلى أن أدركته بعض الأمراض وظلت مصاحبة له سنوات عّدة حتى أختاره المولى جواره يوم الجمعة 26/12/1428هـ ـ كما أسلفنا ـ وصلى عليه بعد صلاة العصر آلاف المصلين يؤمهم سماحة المفتي الشيخ عبد العزيز بن عبد الله آل الشيخ، بمسجد الراجحي .. ثم تبعه إلى مراقد الراحلين بمقابر حي النسيم خلق كثير من محبيه وتلامذته والمشيعين، ولم أر كثافة مثل ذاك المشهد المحزن الذي تبودلت فيه التعازي والدعاء له بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يأذن الله للخلائق بالنهوض والوقوف أما م الموازين القسط، والسير على الصراط المستقيم إلى دار النعيم لمن كسب خيراً في الدنيا وشملته رحمة المولى، ونرجو لأبي عبد الرحمن أن يكون من الذين يؤتون أجورهم مرتين جزاء ما تركه من آثار طيبة وأعمال جليلة، .. فهو محبوب لدى مجتمعه وأسرته وتلاميذه، ولقد أحسن الشاعر عبد الغفار الأخرس حيث يقول:
ولفقده في كل قلب لوعة |
|
ولذكره في حمده ترديد |
فزوال ذاك الطّود بعد ثباته |
|
ينبيك أن الراسيات تبيد |
وكان أثناء تلقيه العلم عامي 69/1370هـ يسكن في أحد البيوت التي خصصها جلالة الملك عبد العزيز ـ رحمه الله ـ لطلبة العلم هو وبعض الزملاء أمثال فضيلة الشيخ محمد بن ردن البداح يتدارسون في العلم وحفظ المتون مثل كتاب التوحيد والعقيدة الواسطية وكشف الشبهات وغير ذلك من الكتب المفيدة في الحديث والفقه ..، وينظم إليهم الزميل الوفي محمد بن علي بن خميس في استذكار الدروس والتسميع لهم في القراءة لأنهما فاقدي البصر، ويستعينان به دائماً حيث يقضون جل أوقاتهم ولياليهم في الحفظ وتداول الأمثلة في النحو وإعرابها فوقتهم في تلك الحقبة الزمنية وقت جد كله خير وبركة في التحصيل العلمي وتخزينه في بنك الذاكرة، وذلك لكثرة فاقدي الإضاءة البصرية، ولندرة الكتب والمراجع ..، ولقد أفرغ أبوعبد الرحمن في صدور وأعالي رؤوس تلامذته الكم الخالص من العلم وحلو رضابه، فكلامه ـ رحمه الله ـ وجيز وعلمه غزير خالي من حشو الكلام سريع تقبله واستقراره والتصاقه في جدران الذاكرة، وكأن بمن سعد بتلقي العلم على يديه حينما يتذكره بعد أن رحل إلى الدار الباقية يردد بين جوانحه هذا البيت:
تولى وأبقى بيننا طيب ذكره |
|
كباقي ضياء الشمس حين تغيب |
ولئن غاب عنا أبو عبد الرحمن وأخفت الترب جثمانه الطاهر فإن علمه وذكراه العطرة باقية في نفوسنا ونفوس محبيه مدى الأيام.. والعزاء في ذلك كله أنه خلف ذرية صالحة تدعوا له وتجدد ذكره ممثلة في أبنه الأكبر عضو مجلس الشورى الشيخ د/ عبد الرحمن وبقية ذريته الكريمة...
رحم الله أبا عبد الرحمن وأسكنه فسيح جناته وألهم ذريته وأبنائه وبناته وشقيقه محمد ومحبيه الصبر والسلوان.
"إنا لله وإنا إليه راجعون.
رحمك الله يا أبا نبيل(<!--)
بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم |
|
وأموالهم، ولا أرى الدهر فانيا |
ما أكثر فجائع الليالي والأيام وتوالي الأحزان القريبة في هذا الزمان، حيث تتابع رحيل الكثير من الأهل والأحبة ورفاق العمر .. ، وهذه سنة الحياة فظاهر الأرض يستقبل الوافدين وباطنها يحتضن الراحلين إلى يوم النشور يوم يجمع الله الخلائق في صعيد واحد للجزاء والحساب، ففي صباح يوم الاثنين 23/3/1429هـ هاتفني الأستاذ الزميل/ ابراهيم بن عبدالعزيز العقيلي من جدة قائلا عظم الله أجركم في زميلنا الأستاذ الأديب/ عبدالله بن سليمان الحصين ـ أبو نبيل ـ أحد ابرز طلاب دار التوحيد بالطائف وبكلية الشريعة بمكة المكرمة حيث لبى داعي المولى مودعا آفاق مدينة جدة التي قضا فيها شطرا كبيرا من عمره، فقلت مسترجعا (إنا لله وإنا إليه راجعون) وفجأة طوح بي الخيال إلى أول لقاء به في فناء دار التوحيد عام 1371هـ ولقد تلقاني بكل ترحاب وهنئني بالقبول والانتظام بالدراسة هناك، وأخذ يملي علي بعض النصائح الأخوية باختيار الصحب الأخيار، وبالمثابرة في الجد والإنصات إلى شرح المعلمين والحرص على توسعة المدارك بكثرة الإطلاع على الكتب الأدبية والمجلات المفيدة وما تيسر من صحف، فالصحافة تكاد تكون معدومة أو قليلة جدا في تلك الأيام، وكان ـ رحمه الله ـ قدوة حميدة في حب القراءة والاطلاع على ما يجد في عالم الثقافة والمجلات التي تصل من القاهرة ولبنان إلى بعض مكتبات الطائف مثل: مكتبة الأستاذ/ محمد سعيد كمال العريقة، ومثلها مكتبة المؤيد بمحلة الشرقية ومكتبة الزايدي عند باب الريع، ومثله في حب القراءة ابن عمه الشيخ/ سعد بن عبدالرحمن الحصين بل معظم طلاب الدار يتنافسون في اقتناص العلوم والفوائد من عدة مصادر، فالأستاذ عبدالله شعلة في النشاط الثقافي والخطابي، وكان يرأس النادي ويشجعنا على علو منبره للتعود على الخطابة والارتجال، وطرح رداء الخجل والتهيب متمثل بهذا البيت:
بوركت يا عزم الشباب وقدست |
|
روح الشجاعة فيك والإقدام |
وقد أكد علي أن ألقي كلمة أمام الجمهور ـ وهي الوحيدة ! فاستعنت بزميل الدراسة لا زميل فصل الشيخ الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم آمين هيئة كبار العلماء بدار الإفتاء حاليا، فأعد الكلمة بعنوان (من وحي الغربة) فألقيتها وأنا مشدود الأعصاب أمام جموع غفيرة في مقدمتهم سعادة أمير الطائف عبدالعزيز بن فهد المعمر، وسعادة محمد بن صالح بن سلطان وكيل وزارة الدفاع – آنذاك ـ ، ومعالي الشيخ محمد سرور الصبان الذي كان يدعم مكتبة الدار بالمال ـ رحمهم الله جميعا ـ ، ولفيف من الضيوف والزوار والمعلمين، وكانت أيام و ليالي الطائف كلها نشاطات وتألف بين الزملاء ومعلميهم، ومعظمهم من فطاحل علماء الأزهر أمثال المشايخ: عبداللطيف سرحان وشقيقه عبدالسلام وعبدالرحمن النجار، وعبدالمنعم النمر، ومحمد الطيب النجار، والشيخ طه الساكت، ومحمد سليمان رشدي وغيرهم من أفذاذ العلماء الأجلاء ولقد أحسن أمير الشعراء أحمد شوقي حيث يقول:
قم في فم الدنيا وحي الأزهرا |
|
وانثر على سمع الزمان الجوهرا |
رحمهم الله جميعا، وقد تعين الأستاذ عبدالله الحصين رحمه الله بالمديرية العامة للإذاعة والصحافة ... ، ثم تسنم عددا من المناصب الهامة منها: مدير عام التعليم بمنطقة الطائف، ثم مدير عام التعليم بمنطقة جدة، ثم مدير عام البعثات الخارجية بوزارة التعليم العالي، وكان عضوا بارزا في مجلس منطقة مكة المكرمة، وتولى رئاسة تحرير جريدة المدينة فترة من الزمن، وزاول الكثير من الأعمال المشرفة في خدمة الوطن وأهله ..، فهو صحفي وكاتب مجيد قلمه طيّع بين أنامله كثير الظمأ والرشف من بحيرات المحابرـ آنذاك ـ، ولقد أفنى الكثير من الأقلام التي تسيرها أفكاره النيرة التي تنحدر من هضاب قلبه، ومن أعالي رأسه ..، وكان يحثني دوما على البقاء بالطائف لإتمام الدراسة بالمرحلة الثانوية لطيب هواه واعتدال جوه، والابتعاد عن مشاغل الأهل والمحيط الأسري بحريملاء، مرددا قول أبي تمام حيث يقول:
وطول مقام المرء في الحي مخلق |
|
لد يباجتيه فاغترب تتجدد |
ومذكرا بقول الإمام الشافعي ـ رحمه الله ـ
ما في المقام لذي عقل وذي أدب |
|
من راحة فدع الأوطان واغترب |
سافر تجد عوضا عن من تفارقه |
|
وانصب فإن لذيذ العيش في النصب |
ولكن نظرا لرغبة الوالدين ـ رحمهما الله ـ لأكون على مقربة منهما انتقلت إلى المعهد العلمي بالرياض في بداية عام 1373هـ بالسنة الثالثة، أنا وبعض الزملاء أمثال الأستاذ عبدالله الحمد الحقيل، والدكتور محمد بن سعد الحسين والدكتور محمد بن عبدالرحمن المفدى، ومعالي الدكتور عبدالعزيز بن محمد العبدالمنعم، وغير هؤلاء الأخوة الكرام ..، ولنا مع (أبو نبيل) ذكريات جميلة لا تغيب صداها عن البال أبد الأيام ..، حيث كنا بالقسم الداخلي (المهجع) متجاوري الغرف فإذا تعبنا من استذكار الدروس روحنا عن أنفسنا بالمساجلات الشعرية وببعض الطرائف الأدبية الخفيفة .. كذلك ليالي الرحلات المتعددة نقضيها في مسامرات أدبية وتمثيليات هادفة منها رحلة وادي عشيرة الواقعة شمال الطائف فقد أصاب الأستاذ عبدالله في تلك الأمسية مرض مفاجئ يقال له ((الخاطر)) فقال الأخ إبراهيم الحمدان ـ متعه الله بالصحة ـ أحد العاملين في دار التوحيد متطببا أحمو الحديد بالنار نبطه ..، ! في باطن عرقوبة الأيسر لعل الله يشفيه وقد أمسكوا به فلما رأى احمرار الحديد رفع صوته منزعجا قائلا طبت طبت .. ؟. وقد شفي بحمد الله وهذه من طرائف الرحلات هناك ..، وكانت ليالينا كلها أنس ومسرات وهذا مما خفف عنا وحشة الغربة والبعد عن الأهل..، ولا يسعنا في هذه العجالة المحزنة إلا أن نرفع أكف الضراعة داعين لأبي نبيل بالمغفرة وطيب الإقامة في جدثه إلى أن يبعث الله جميع الخلائق، وأن يلهم ذويه وأبنائه وزوجته ومحبيه الصبر والسلوان ملوحا بهذا البيت للشاعر الأديب محمد بن سليمان الشبل:
يا راحلا شرقت روحي بلوعته |
|
ورف لي منه أيام ومدكر! |
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
رحم الله الشيخ سعيد الجندول(<!--)
ما زال يلهج بالرحيل وذكره |
|
حتى أناخ ببابه الجمالُ |
بعض المفاجآت المؤلمة غير المتوقعة يكون نزولها على القلب موجع جداً، وأكثر إيلاماً وأطول مكثاً داخل النفس قد تبقى آثارها ساكنة سنين عديدة، يتعذر محوها أو طمسها من جدار الذاكرة، ويختلف وقوعها حسب قرب الأشخاص من القلب سواء قرابة رحم وأسرة أم قرابة محبة وصداقة، وعلى أي حال هي موجعة حتماً، ولاسيما الرحيل الأبدي لأقرب الناس وللأحبة، فقد هاتفني أحد أبناء الزميل الراحل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السحمان قائلا : عظم الله أجركم في الخال الشيخ سعيد الجندول الذي لاقى ربه في يوم الأربعاء 18/3/1429هـ بعد حياة حافلة بالعطاء والكفاح المستمر في خدمة الوطن وأهله في كثير من مواقع العمل الوظيفي والتطوعي ـ غفر الله له ـ ولقد ولد في مدينة ليلى بالأفلاج سنة 1341هـ ، وترعرع في أكنافها بين أهله ورفاق عمره، وقد بدأ تعلمه في الكتاب حينما بلغ سن السابعة من عمره لحفظ القرآن الكريم، فلما أتمه قرآة وحفظاً لعدد من أجزائه رحل إلى الرياض، وتتلمذ على المشايخ : فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم وعلى سماحة مفتي الديار السعودية ـ آنذاك ـ الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ بحلقات مسجده بدخنه، بعد ذلك شخص إلى مكة المكرمة وتلقى بعض الدروس على الشيخ عبد الله بن حسن وعلى الشيخ محمد بن مانع في أروقة المسجد الحرام ـ رحم الله الجميع ـ وحينما لحظ الشيخ محمد بن مانع عليه مخايل الذكاء والنجابة، وسرعة الحفظ أشار عليه مؤكداً الالتحاق بدار التوحيد بالطائف، فلم يرى بداً من تلبية نصحه وحرصه علية فأتجه صوب الطائف ليلتحق بركب الدارسين هناك، ويعتبر الشيخ سعيد من خيرة طلبة دار التوحيد الذين تروو من رضاب العلوم والآداب على يدي نخبة منتقاة من العلماء، ومن فطاحل علماء الأزهر الذين اختارتهم مديرية المعارف العامة كمعارين ومنتدبين من إدارة الأزهر بالقاهرة بتوجيه من جلالة الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ ، فأولئك النخبة يعتبرون من الطراز الأول علماً وخلقاً، وثقافة واسعة، فقد فتقوا أذهان طلابهم من عمق علومهم وفيض ثقافاتهم العامة، وقد عين جلالته الشيخ محمد بهجت البيطار أول مدير لدار التوحيد، ثم خلفه فضيلة الشيخ محمد بن عبدالعزيز المانع معينناً شيخنا الفاضل عبد المالك طرابلسي مديراً لها مع إشرافه عليها إشرافاً تاماً بجانب عمله الأساسي، وبمتابعة الملك عبد العزيز حيث أولاها جل اهتماماته لحاجة البلاد إلى قضاة، ومعلمين ومرشدين، وأئمة مساجد ـ رحمهم الله جميعاً ـ وتعتبر دار التوحيد أول مؤسسة علمية فريدة تعنى بالعلوم الشرعية وباللغة العربية وفروعها ..، ولقد خرجت الكثير من الأفواج الذين تسنموا المناصب القضائية العالية والتعليمية، ومنهم الخطباء والأئمة في الجوامع وفي المسجد الحرام أمثال: الشيخ عبد الرحمن الشعلان، والشيخ سعيد الذين نتحدث عنه في هذه العجالة، وفي عام 1371هـ أمر جلالة الملك عبد العزيز وولي عهده الملك سعود ـ رحمهما الله ـ بافتتاح المعهد العلمي بالرياض وفي بعض المدن، ووكل الإشراف عليها إلى سماحة مفتي الديار السعودية وإلى أخيه فضيلة الشيخ عبد اللطيف ـ رحمهم الله جميعاً ـ ومن هذا المنطلق اتسعت رقعة التعليم عامة في جوانب المملكة تدريجياً حتى وصلنا إلى الذروة في مصاف الدول المتقدمة، كل ذلك بفضل من الله، ثم باهتمامات ولاة أمر هذا الوطن بدأ من المؤسس الملك عبد العزيز وحتى عصرنا الحاضر الزاهر الذي يرعاه بكل عناية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله ابن عبد العزيز وولي عهده الأمين سلطان بن عبد العزيز، وجميع العاملين في حقل التربية والتعليم ـ وفقهم الله لكل ما يسعد المواطن والمقيم معاً، فالشيخ سعيد الجندول ـ رحمه الله ـ معروف بالاستقامة ودماثة الخلق والتواضع الجم منذ فجر حياته، ولقد سعدت بمعرفته عن قرب قبل انتقاله إلى كلية الشريعة بمكة المكرمة في آخر المرحلة الدراسية بالدار، وأنا بالصف الأول عام 1371هـ وكنا نلتقي به في بعض الأمسيات الحبيبة إلى قلوبنا في منزل زميلنا الراحل الشيخ عبد العزيز بن عبد الله السحمان الواقع في حي الشرقية بمدينة الطائف، فهو خال لأبناء الشيخ عبد العزيز، فنستفيد من بعض توجيهاته القيمة حيث يحثنا على حفظ الوقت واستثماره في استذكار الدروس وحفظ المتون والنصوص الأدبية، وجيد الشعر لإثراء الحصيلة العلمية واللغة العربية، قائلاً: من حفظ حجة على من لم يحفظ ـ تغمدهم الله بواسع رحمته ـ فنحن نغبطه حينما يعلو منصة النادي وهو يلقي الكلمات الجزلة الهادفة بكل طلاقة وشجاعة الذي يقام في ليالي الجمع برئاسة عبد العزيز بن عبد المنعم بالتناوب مع بعض الطلبة لوجود التنافس والرغبة في التفوق الخطابي فمنبر نادي دار التوحيد مدرسة للخطباء والشعراء فكم توالى على اعتلائه من أفواج أصبحوا أعلاماً في الخطابة والارتجال في المحافل الكبيرة، فالتدريب للشباب في كل جانب من جوانب الحياة مطلب مُلح، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
وتشقى حياة مالها من مدرب |
|
وتشقى بلاد ليس فيها مدارس |
وكان بجانب دراسته يقوم بمهام الإمامة والخطابة بمسجد الهادي في وسط الطائف مشنفاً ومؤنساً أسماع المصلين بصوته الجميل، وبالتوجيهات السديدة والوعظية المؤثرة في نفوس المأمومين من فوق ذاك المنبر العالي الذي تعاقب عليه عدد من طلاب الدار بعده، وبعد تخرج الشيخ سعيد من كلية الشريعة بمكة عين إماماً وخطيباً بالمسجد الحرام، علماً أنه بدأ الخدمة بعد تخرجه مباشرة مديراً للمعهد العلمي السعودي بمكة المكرمة، ثم مساعداً لمدير التعليم بمكة، بعد ذلك أنتقل إلى جهاز وزارة المعارف مساعداً لمدير عام التعليم .. ، بعد ذلك عين نائباً لرئيس هيئة التأديب وحتى عام 1403هـ ، ثم وكيلاً لرئيس ديوان المظالم ..، وبعد التقاعد أصبح مستشاراً شرعياً بوزارة الحج ولأوقاف ثم كلف بالإشراف على إنتاج مجمع الملك فهد لطباعة المصحف الشريف بالمدينة المنورة، ثم أخلد للراحلة وملازمة الجلوس بالمسجد المجاور لمنزله بعد أن أبلى بلاً حسناً عبر رحلة العمر الطويلة في عدد من المناصب كما أسلفنا .. ، وله مؤلفات عدة رحمه الله رحمة واسعة ..، ولأن خلا مكانه من شخصه فإن ذكراه الطيبة ستبقى في مضمر النفس مدى العمر ـ تغمده الله بواسع رحمته ـ وألهم ذويه وأبنائه وإخوته وزوجاته ومحبيه الصبر والسلوان ..
(إنا لله وإن إلية راجعون )
ورحل الدكتور صالح بن عبدالله المالك(<!--)
نبكي على الدنيا فما من معشر |
|
جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا ! |
بينما المرء يعيش مغتبطا بين أهله ورفاقه، أو بين رئيسه ومرؤوسيه جذلا في عز ورفعة يسير كيف شاء يمنة أو يسرة جادا في طلب تحقيق أماله ومآربه، وطموحاته الحياتية المتلاحقة التي لا تنتهي ما دام حيا، ولم يدر بخلده وقوع أي شيء من منغصات صفو عيشه وملذاته، أو أي سبب لهلاكه وموته، ولا سيما من كان يتمتع بصحة جيدة، وبمكانة عالية في محيطه الأسري، والاجتماعي والعملي معا، وقد يفاجأ بمرض طارئ مارد ومخيف لا يتفاعل مع الكوابح الدوائية التي كثيرا ما يستعين بها مهرة الأطباء مع مرضاهم، فقد يأذن الله بشفائهم على أيديهم، وقد تعييهم الحيل، وحينما يعلم ويتأكد بحلول ذاك المرض داخل خلاياه الجسمانية ولم تجد فيه الأدواء الطبية فأنه قد يصاب بانهيار نفسي أو يستسلم للواقع ويحاول الأخذ بشتى الأسباب عله ينجو ويعطى فسحة من العمر، ولكن هيهات أن يتأتى له ذلك وقد سطر في عالي جبينه مقدار نصيبه من أيام الدنيا الفانية التي لا يتسنى التأخير ولا التقديم فيه أبدا، فها هو الأخ الدكتور صالح بن عبدالله المالك قد تزامن غيابه عن الدنيا مع غروب شمس يوم الاثنين 21/5/1429هـ وتوارى عن الوجود وعن أحبابه حميدة أيامه ولياليه الحافلة بالعطاء الوظيفي وتعدد المناصب العالية بدأ من تعيينه معيدا في جامعة الملك عبدالعزيز، ثم أستاذا بنفس الجامعة بعده عين مديرا عاما بجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم وكيل لوزارة الشئون البلدية والقروية ووظائف أخرى، وأخيرا أمينا عاما في مجلس الشورى، وكان يتمتع بالحنكة والدراية، والمهارة في تذليل وتخطي العقبات بسهولة التي قد تعترض مسارات العمل الذي كان يرعاه في كثير من المواقع الهامة التي يرأسها ويشرف عليها، مع تنوير وتوجيه العاملين معه بكل لطف، وإيماءات خفيفة تجعلهم يتفاعلون ويتقبلون ذلك بنفوس طيبة، وصدور رحبة تدفعهم على الإخلاص والجد، والمسارعة في إنجاز ما يوكل إليهم من أعمال ونشاطات مختلفة، ولله در القائل:
والنفس إن دعيت العنف آبية |
|
وهي ما أمرت بالرفق تأتمر |
فالدكتور صالح - رحمه الله - محبوب لدى مجتمعه الأسري، ومع زملائه بل وجميع العاملين معه في جميع المناصب التي تسنمها لما يتمتع به من دماثة خلق ولين جانب، ولقد أكسبته التجارب وتلك الأعمال المنوطة به خبرة واسعة في حسن الأداء الوظيفي، والإداري مع رحابة أفقه ومعرفته بأحوال الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم ..، فهو بفطرته وحنكته يستسهل كل الصعاب، وأذكر جيدا يوم كان طالبا بكلية الشريعة أنه على مستوى من الذكاء والفطنة، عالي الهمة يحاول الجمع بين الشهادتين في عام واحد فيسرع في كتابة الأجوبة في الدور الأول، ثم يخرج من صالة الاختبار مبكرا ليتمكن من أداء الاختبار من جامعة الملك سعود ـ رحمهما الله ـ الواقعة على شارع الملز ـ آنذاك - ، وقد يترك الفترة الثانية إن وجدت بالدور الثاني إذا رأى أنها تتعارض مع مصلحته الدراسية، وفي النهاية يحصل على شهادتين في عام واحد، وهذا يدل على ثقته في نفسه وعلو همته وكأن الشاعر العربي يملي عليه هذا البيت :
إذا كنت ترجوا كبار الأمور |
|
فأعـدد لها همـة أكــبرا |
وقد فعل – رحمه الله – فأبوا هشام صديق عزيز وزميل دراسة لا زميل فصل، وإنما زميل الفصل الأستاذ الشاعر صالح الحمد ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ فاستمر في التحصيل العلمي والتربوي حتى نال الشهادات العالية..، ثم ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك بضع سنين حتى حصل على درجات علمية متخصصة في مجالات مختلفة منها: اللغة الإنجليزية من جامعة (إنديانا) ثم درجة الدكتوراه من جامعة متشجن الأمريكية مع مرتبة الشرف، ثم عاد إلى أرض الوطن مغتبطا مسرورا وكله ثقة بأن يجد ويخلص في أداء أي عمل يوكل إليه .. ، وهذا يدل على حذقه ومهارته ـ رحمه الله ـ وقد بدأ مشواره الوظيفي بجامعة الملك عبدالعزيز، وأخيرا أمينا لمجلس الشورى ـ كما أسلفنا آنفا - ، ولنا مع (أبو هشام) ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري أبد الدهر .. ، منها الرحلة إلى محافظة المجمعة منذ أعوام على متن حافلة فخمة ذات الطابقين لحضور حفل المجمع التعليمي الذي أقيم على نفقة معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رجاء المثوبة من المولى، ووفاء منه لموطن أبائه ومراتع صباه ـ رحمهما الله رحمة واسعة - ، برئاسة معالي الدكتور محمد بن احمد الرشيد وزير التربية والتعليم الأسبق التي ضمت كوكبة منتقاة من رجال التربية والتعليم والعلماء ورجال الأعمال ذهابا وإيابا، وقد أتحف أبو هشام الجميع في تلك الرحلة بأشعاره التي تمتاز بالرقة وعذوبة اللفظ، ولا غرابة فإن الدكتور صالح قد ولد في مدينة الشعراء مدينة الرس وترعرع في أكنافها بين والديه، وبين أترابه ولداته حتى حصل على الشهادة الابتدائية، ثم اتجه صوب مدينة الرياض ليلتحق بالمعهد العلمي مواصلا الدراسة بكلية الشريعة، وفي تلك الفترة حصل على الشهادة الثانوية من دار التوحيد بالطائف عام 1375هـ ، ثم اتجه إلى كلية الشريعة اللغة العربية بمكة المكرمة فهو قد ملأ وقته متنقلا بين مواقع كثر للتروي من ينابيع العلوم والمعرفة، ثم اختتم مساره العلمي بالحصول على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع الحضري من الولايات المتحدة ـ كما أسلفنا أنفا - ، والآن وقد دفن ودفنت معه تلك المعلومات التي أفنى زهرة عمره في اقتناصها وتحويشها .. ، وذكرياته الجميلة في دار الغربة أيام الدراسة هناك، وكان يترنم بها ويرددها في خاطره دوما..! ، ولم يبقى منها بيننا سوى طيب ذكره، وما أودعه من معلومات في أذهان تلامذته، وبعض كتبه ومذكراته..، وديوانه صغير الحجم كبير المعنى الذي توجه بقصيدة حرى في رثاء والدته الحنون التي تعتبر واسطة العقد بين القصائد مؤثرة جدا أفرغها من عصارة فؤاده حزنا ولوعة على فراقها، يقول في مطلعها:
لموتك يا أماه ينفطر القلب |
|
وتلتاع مني النفس والعين واللب |
ولو كنت أدري أن حتفك عاجل |
|
لما شغلتني عنك أرض ولا حب |
وقد فاضت روحها وفارقت جسدها الطاهر وهو نائي المحل عنها بدار الغربة بمدينة (شيكاغو) الأمريكية لمرافقة ابنه عبدالله في مرضه، وحين ما علم بذلك النبأ الذي أفزعه وراعه سارع بالعودة إلى الوطن في أقرب رحلة ليسعد بالصلاة عليها وإنزالها باللحد، وقد كان له ذلك، فالحي مهما تباعدت به الأوطان يرجى إيابه، ولكن غائب القبر لا يعود أبدا:
والشرق نحو الغرب أقرب |
|
شقة من بعد تلك الخمسة الأشبار |
وكان ـ رحمه الله ـ ولوعا بالأسفار في جوانب الأرض وأقاصيها حيث طاف حول العالم، وأروى غلة نفسه وعواطفه، ومتع ناظريه من جمال الطبيعة في تلك الأماكن التي مر بها في حياته الدراسية الطويلة والسياحة معا، مما أثرى مخزون ذاكرته لأن العين تلتقط صورا من تلك الأماكن والبقاع النائية والدانية، فترسلها إلى مستودعات الذاكرة ليقتات منها في خلواته عندما يخلد إلى الراحة أو لإمتاع جلسائه بسرد بعضها، ولقد استقيت بعضا من المعلومات عنه بواسطة شريط سجلته عبر الإذاعة في 14/1/1405هـ في حوار معه ومع صديقه الدكتور عبدالله المصري وكيل مساعد للشئون الثقافية والآثار والمتاحف ـ آنذاك ـ ولا زلت محتفظا بذلك الحوار تذكارا طيبا لأيامنا الأول وما تخللها من رحلات متعددة ..، ومساجلات شعرية لم يبقى منها سوى رنين الذكريات، وحينما أحس بدون أجله بادر برصد بعض أشعاره وهو على السرير الأبيض سرير الرحيل الأخير، وقد سماه (إخوانيات) ليقرأه ويردده من بعده مترحما عليه، ولسان حاله في تلك اللحظات الحزينة يتمثل بهذه الأبيات اللطيفة المؤثرة التي رثا نفسه بها الشاعر الأبيوردي:
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث |
|
وخطها في كتاب يؤنس البصرا |
كم من كتاب كريم كان كاتبه |
|
قد ألبس الترب والآجر والحجرا |
يا من إذا نظرت عيناه كتبتنا |
|
كن بالدعاء لنا والخير مدكرا |
رحم الله أبا هشام، وألهم ذويه وذريته، وزوجتيه أم هشام وأم سلطان، ومحبيه بالصبر والسلوان " إنا لله وإنا إليه راجعون ".
<!--[if !supportFootnotes]--><!--[endif]-->
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس، 2 محرم1429هـ.، الموافق 10 يناير 2008م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الخميس 26 ربيع الأول 1429هـ، الموافق 3 إبريل 2008م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأحد 7 ربيع الآخر1429هـ، الموافق 13 إبريل 2008م.
(<!--) نشرت في صحيفة الجزيرة، يوم الأربعاء 23 جمادى الأولى1429هـ، الموافق 28 مايو 2008م.