رحمك الله أبا عبد المحسن(<!--)
(معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري رحمه الله)
مازلت تلهج بالتاريخ تكتبه |
|
حتى رأيناك في التاريخ مكتوبا! |
حجبت عنا وما الدنيا بمظهرة |
|
شخصاً وإن جل إلآ عاد محجوبا! |
كذلك الموت لا يبقي على أحد |
|
مدى الليالي من الأحباب محبوباً! |
جبلت النفوس البشرية على حب وتقدير من كانت له مكانة وبصمات وآثار بنّاءه في وطنه ومجتمعه، حتى وإن لم تجمعهم به صلة قرابة أو زمالة في العمل أو أي شئ من المنافع الدنيوية، فيبقى ذكره طرياً تلذ له الأسماع عند ذكره..، وعندما تغرب شمسه عن الدنيا ويتوارى عن الأنظار يشعر الكثير من محبيه وعارفيه بفقد شئ ما تلقائياً كان يجول في خواطرهم حياله حباً وتقديراً، وأسفا أن خلت من شخصه داره...، وتجري هذه الحال عند فقد العظماء وكبار النفوس.
ففي يوم الأحد 24/5/1428هـ طرق سمعي نبأ رحيل معالي الشيخ عبد العزيز بن عبد المحسن التويجري، وكان لذلك النبأ وقع مؤلم في نفسي حزناً على رحيله، فرحيل أفذاذ الرجال يحدث فجوة واسعة في منظومة الرجال المخلصين في خدمة أوطانهم، وملوكهم أمثال " أبو عبد المحسن " الذي عرف عنه التفاني في خدمة الوطن والإخلاص في العمل منذ فجر حياته، كما أنه يتحلى بنفاذ البصيرة، وصواب الرأي مع القوة الشخصية والحنكة في إدارة العمل بكل حزم وثقة ..، ولقد جمع بين سماحة الخلق ونزاهة الجيب، وكان ثبت الجنان حينما يعلو منابر المحافل والمنتديات الأدبية، فهذه من الصفات المحمودة التي تميز الرجال على أقرانهم...، ولقد اتجه إلى السلك الوظيفي مبكراً في عهد المؤسس لكيان هذه الدولة الفتية الملك عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود ـ طيب الله ثراه ـ ومن بعده أبنائه البررة حتى عصرنا الحالي عصر الازدهار والتوسع الهائل في كثر من المشاريع التنموية والمجالات الحيوية والوظيفية معاً..تحت قيادة ورعاية خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز، وعضده الأيمن نائبه صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن عبد العزيز متعهما الله بالصحة والسعادة.
ويعتبر " أبو عبد المحسن " أطول الرجال خدمة متواصلة تقارب الثمانين عاماً، ولقد تخطى تلك العقود رافع الرأس بكل نشاط وحيوية :
ثمانون حولاً بل ثمانون دُرة" |
|
بجيد الليالي ساطعات زواهيا |
ولم تؤثر تلك السنون والليالي على نفسه وجهوده، فلقد منحه المولى الصحة وسلامة الحواس والذوق الرفيع، ورجاحة العقل، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول :
إذا طال عمر المرء في غير آفة |
|
أفادت له الأيام في كرها عقلا! |
ومما لفت نظري حينما قدمت من حريملاء لمواساة أبنائه ومحبيه كثافة المعزين الذين ضاق بهم القصر وساحاته بل وجميع الطرقات المحيطة به أفواج تلو أفواج لتقديم العزاء والمواساة لأبناء الراحل ـ رحمه الله ـ وكان في استقبالهم الشيخ عبد الله بن عبد المحسن، ومعالي الأستاذ عبد المحسن بن عبد العزيز التويجري مستشار خادم الحرمين الشريفين، ومعالي الأستاذ خالد بن عبد العزيز التويجري رئيس الديوان الملكي، بل جميع أبنائه الكرام .. وكان الحزن يعلو محيا الجميع ـ جبر الله مصابهم ـ وكان مهيباً عالي القامة في المحافل الدولية والمحلية:
إن العظيم وإن توسد في الثرى |
|
يبقى على مر الدهور مهيباً! |
ولي مع الشيخ الراحل بعض الذكريات الجميلة في كثير من المناسبات السعيدة، ولازلت محتفظاً برسائله الخطية التي تتسم بمتانة الأسلوب وعمق الثقافة، وسعة الأفق ـ غفر الله لك أبا عبد المحسن وأسكنك عالي الجنان وألهم ذويك وأبنائك وحرمك ومحبيك الصبر والسلوان .
"إنا لله وإنا لله راجعون ".
الشيخ ناصر المنقور والذكر الحسن(<!--)
علمٌ من الأعلام غُيب في الثرى |
|
فثوى رهين جنادل و تراب |
لقد غربت شمس معالي الأستاذ / ناصر بن حمد المنقور طيب الذكر بمدينة الضّباب ـ لندن ـ يوم الأربعاء الموافق 10/7/1428 هـ بعيداً عن مهوى رأسه ومدارج صباه مع لداته وأترابه مدينة حوطة سدير وقد صدق الله العظيم في محكم كتابه العزيز ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير) سورة لقمان، آية 34.
لقد فوجئت بنبأ وفاته بقراءة تأبين صاحب الوفاء والمبادرة الحميدة معالي الدكتور/عبدالعزيز بن عبدالله الخويطر بصحيفة الجزيرة صباح يوم الخميس 12/7/1428 هـ التي تحمل في ثناياها الحزن والوفاء لزميله " أبو أحمد " ، وعدّ مآثره وأعماله الجليلة عبر رحلة عمره الطويلة المشرفة في خدمة التعليم، وبالأعمال الدبلوماسية متعددة المواقع والمناصب العالية التي تَسنّمها بكل حنكة وجدارة، وكان لنبأ رحيله وقع مؤلم في نفسي لما يتصف به من مكانة عالية في نفوس ولاة الأمر، وتفانيه في خدمة وطنه وأهله، وقد جمع بين الحنكة وبعد النظر، وحسن السياسة، مع دماثة الخلق والتواضع الجم والكرم الفائق، مما جعل القلوب تميل إليه احتراماً وتقديراً حتى من لم يعرفه :
يثني عليك من لم توليه جميلاً |
|
لأنك بالثناء بــه جــديــر |
وهكذا يكون الرجال العظماء ـ فأسرة المنقور بصفة عامة يستعذب الناس ذكرها ـ. ولقد وصفه الدكتور عبد العزيز بصفات جميلة شاملة بأوجز العبارات وأدقها، فلم يترك مجالاً لأحد بعده ـ إلا ما شاء الله ـ بدأ من دراستهما معاً بالمرحلة الابتدائية بمكة المكرمة مواصلاً نشاطه الدراسي والثقافي حتى أنهى المرحلة الثانوية بتفوق مما أهله للإبتعاث إلى مصر على حساب الدولة أسوة بأمثاله النجباء .، ثم التحق بكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول (القاهرة حالياً) وأنهى الدراسة في السنوات الأربع المقررة بتفوق وامتياز، ثم عاد إلى أرض الوطن، وعين بوزارة المعارف وتدرج في وظائفها حتى وصل درجة مدير عام الوزارة، ثم مدير إدارة جامعة الملك سعود ـ رحمهما الله جميعاًـ ثم انتقل من حقل التعليم إلى مرتبة وزير العمل في أوائل الثمانينيات، ووزير الدولة لشئون مجلس الوزراء، فأخذ يقفز من قمة إلى قمة، وآخر منصب تربع عليه سفيراً لجلالة الملك في لندن. وقد استقيت بعض هذه المعلومات والعبارات من كلمة الأخ الفاضل معالي د /عبد العزيز الخويطر ـ متعه الله بالصحة والعافية ـ ورحم الله أبا أحمد رحمة واسعة.
ولقد عرف عنه المرونة في العمل والبشاشة وحسن التعامل مع المراجعين والعاملين معه مما أكسبه محبتهم وتقديرهم لجهوده المخلصة، وقد أجاد الشاعر محمد بن حازم حيث يقول:
وما أكسب المحامد طالبوها |
|
بمثل البشر و الوجه الطليق |
وكان طيلة اغترابه عن الوطن على صلة بأقاربه ومحبيه يُهاتفهم ويسأل عن أحوالهم وعن أسرهم ولسان حاله يقول:
وإن كانت الأجسام منا تباعدت |
|
فإن المدى بين القلوب قريبُ |
وأحياناً يستبد به الحنين إلى رؤية موطنه الأول: حوطة سدير ليجول بلحظه في أكنافه متذكراً ملاعب صباه في محلاتها وساحاتها، وإلى لقاء أصدقائه ومعارفه داخل مدينة الرياض وخارجها متذكراً هذا البيت:
ما من غريب وإن أبدى تجلده |
|
إلا تذكر عند الغربة الوطنا |
وعلى أي حال فقد قضى زهرة عمره خارج وطنه في الدراسة بالقاهرة، ثم بالعمل سفيراً بالسويد، وأسبانيا، واليابان، ولندن، وكان ـ رحمه الله ـ سبباً في تعيني مديراً لمعهد المعلمين بحريملاء عام 1379هـ حيث قال لصديقه رفيق دربي الراحل: محمد بن عبدالعزيز المشعل نريد فتح معهد معلمين بحريملاء لسد حاجة المنطقة بالمعلمين المؤهلين، ونرغب أن يكون المدير جامعياً، فكتب لي الأخ محمد المشعل رسالة ـ مازلت محتفظ بها ـ بعث بها مع سائقه إليّ بحريملاء متضمنة رغبة الوزارة بترشيحي مديراً لمعهد المعلمين بحريملاء، فحضرت إلى الرياض ومررت على الأخ محمد في مكتبه ومتجره في قيصرية الصيارف بالصفاة الواقعة غربي قصر الحكم، فأخذني معه ـ رحمه الله ـ بحكم القرابة والصداقة إلى منزله بالملز(حي الزهرة أو حي عرين) فبت عنده، وفي الصباح الباكر اتجهنا معاً إلى منزل الأستاذ ناصر بن حمد المنقور مدير عام الوزارة ـ آنذاك ـ فوجدنا عنده الأستاذ / عبد الرحمن التونسي والأستاذ/عبدالوهاب عبد الواسع أحد البارزين بوزارة المعارف، فرحبوا بي جميعهاً ـ رحمهم الله جميعاً ـ فأجلسني الأستاذ ناصر بجواره والفرح باد على محياه قائلاً نرحب بك ونرغب افتتاح معهد معلمين ببلدكم حريملاء، ولا يحتاج إلى مقابلة ولا مفاضلة لأن الوظائف لدينا تربو على عدد الجامعين ـ آنذاك ـ لقلتهم، علماً أن فوجنا تسعة عشر متخرجاً من كلية اللغة العربية عام 1378هـ ونعتبر ثاني دفعة على مستوى المملكة، ولكنه طلب مني إحضار إخلاء طرف من إدارة المعاهد والكليات، فطلبت من فضيلة الشيخ / عبد اللطيف بن إبراهيم ـ رحمه الله ـ إخلاء طرف فتمنع في البداية، فاستنجدت بالأخ / حمد بن عبدالرحمن المبارك مدير الإدارة في ذلك الزمن ـ رحمهم الله جميعاً ـ فأعطاني إخلاء الطرف واتجهت به صوب الشيخ ناصر بالوزارة ، فشرح عليه بتعجيل إصدار قرار تعيين، وتسليم ما تيسر من أثاث، ومقررات الطلاب ، وقد صدر القرار الوزاري بتعيني مديراً في 23/4/1379هـ ثم اتجهت إلى حريملاء وافتتحت المعهد مع الإشراف على المرحلة الابتدائية. فرحم الله أبا أحمد، وأبا عبدالعزيز صديق العمر محمد بن عبد العزيز المشعل رحمة واسعة.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على حرص وإخلاص الأستاذ / ناصر بن حمد المنقور في تطوير الأرياف، وتنوير أهلها بمصابيح العلم والنهل من مواد الثقافة والعلوم المختلفة، والاكتفاء الذاتي بالمعلمين الوطنيين بالمرحلة الابتدائية، وقد تحقق ما تمناه ـ رحمه الله ـ حيث خرج أفواجاً من المعلمين نفع الله بهم في تلك الحقبة البعيدة، وأختتم هذه العجالة بهذين البيتين مخاطباً منهم الآن على مستوى المسئولية:
إن المناصب لا تـدوم لواحـد |
|
إن كنت تنكر ذا فأيـن الأول |
فاغرس من الفعل الجميل فضائلاً |
|
فإذا ( رحلت ) فإنها لا ترحل |
رحم الله أبا أحمد وأسكنه فسيح جناته وألهم ذويه وإخوته وأبناءه وزوجته الصبر والسلوان.
(إنا لله وإنا إليه راجعون).
الأستاذ محمد أبومعطي إلى دار الخلود(<!--)
وأرى لدات أبي توالى موتهم |
|
فمضوا وكر الموت نحو لداتي |
بالأمس القريب وفي مستهل شهر محرم من هذا العام 1428هـ فُجعنا برحيل زميلنا د. حمد بن إبراهيم السلوم زميل الدراسة بدار التوحيد بالطائف، وفي يوم الأثنين15/8/1428هـ أنضم إلى منظومة قوافل الراحلين الزميل الأستاذ محمد بن إبراهيم أبو معطي ـ رحمه الله ـ ، بعد رحلة طويلة من العطاء والعمل المشرف في مواقع عدة..، فكان لنبأ وفاته وقع محزن ومؤلم في نفوسنا لما يتمتع به من خصال حميدة وكريم سجايا، فهو زميل فصل ورفيق عمرٍ، وسيمكث حبه وذكره الحسن طويلاً بين جوانحي مدى الأيام، ولقد عرف عنه الاستقامة والسماحة، وبر الوالدين وصلة الرحم، والإعراض عن مساوئ الناس منذ فجر حياته، وقد ترعرع بين أحضان والديه، وختم القرآن الكريم مجوداً على يد إمام مسجد محلتهم بمدينة الشعراء التي كثيراً ما يستبد به الحنين إلى مراتع صباه بها متذكراً أيامه الجميلة وأيام الطفولة التي عاشها في أكناف وربوع تلك المدينة الوادعة مع أقرانه ورفاق عمره، وما بها من مظاهر الطبيعة من أشجار ونباتات وجبال عالية يتسلقونها ويمرحون حولها مثل جبل ثهلان المشهور المتربع على هاتيك الأودية وتلك المساحات الرحبة الذي عناه بالخلود والمتانة الشاعر إسماعيل صبري باشا في أثناء وصفه للأهرامات وصمودها أمام عوامل التعرية حيث يقول:
قد مر دهر عليها وهي ساخرة |
|
بما يضعضع من صرح وإيوان |
لم يأخذ الليل منها والنهار سوى |
|
ما يأخذ النمل من أركان ثهلان |
بعد ذلك شخص إلى الطائف وألتحق بدار التوحيد عام 1371هـ حتى أخذ الشهادة الثانوية عام 1375هـ، ثم واصل الدراسة بكلية الشريعة بمكة المكرمة فنال الشهادة العالية بها عام 1379هـ، ثم عين مدرساً فترة وجيزة من الزمن..، بعد ذلك أنتقل مديراً للتعليم المتوسط وظل بضع سنين، ثم عمل رئيساً لبلدية الخرج، وأخيراً عمل مسئولاً كبيراً للتأمينات الاجتماعية إلى أن تقاعد، كما كان عضواً بارزاً في مجلس منطقة الرياض لمدة ثمانية أعوام، بعده تفرغ للعبادة وتلاوة القرآن الكريم واستقبال من يؤمه من الزملاء والأصدقاء والأقارب، ولقد دار وساس تلك الأعمال المنوطة به بكل جد وإخلاص وتسهيل لأمور المراجعين ..، فهو على جانب من الخلق الكريم والأدب الجم الرفيع وسعة الأفق، إلى جانب ذلك كان من المولعين بالرحلات الداخلية وخاصة في مواسم الربيع ومساقط الأمطار وبالصيد والقنص والسير في البراري والفلوات..، وقديماً كان يشارك في الرحلات الطلابية أثناء الدراسة بدار التوحيد، أذكر أننا نقوم بها في جوانب مدينة الطائف، وأحياناً نذهب إلى شعيب عشيرة عامي 71/1372هـ الواقع شمال شرقي الطائف وحتى نصل إلى الأراضي المتاخمة لطريق الخرمة وجهاتها حيث تكاثر طيور الحبارى وبعض الطيور البرية هناك، ونجد في اصطيادها متع جمة وفرح شديدا وكان أبو إبراهيم والشيخ عبد الله بن محمد آل الشيخ ـ رحمهما الله ـ والأستاذ عبد اللطيف بن إسحاق ممن يملكون بنادق الصيد ـ آنذاك ـ فيصطادون ما ظفروا باصطياده من الحبارى ، ولم يَعُـفّـوا عن إنزال تلك الحمائم التي تشدو فوق أشجار الطلح وأحياناً تبكي :
حمام الأيك مالك باكياً |
|
أفارقت خلاً أم جفاك حبيب |
تذكرني ليلى على بعد دارها |
|
وليلى خلوب للرجال طروب |
فكانت أيام وليالي الطائف أيام فرح ومرح ومسرات، وكنا نعد أبا إبراهيم من الفتيان الأقوياء ونلقبه: " بأنهد فتى بدار التوحيد..! " ونزداد خوفاً منه ـ رحمه الله ـ حينما نقوم بمزاولة التمرينات الرياضية الحبية بكرة القدم في ميادين "قروى" بقيادة الزميل عبد الرحمن بن عبد الله العبدان، فهو مُهاجم مَهِيب نخشاه..! وغالباً ما نفقد الصمود أمامه تاركين له الكرة في سبيلها ..، ولقد تحولت عنه تلك النضارة وعنفوان الشباب في أُُخريات حياته، ولسان حاله يتمنى عودتها ولكن هيهات ..!! وصدق أبو الطيب المتنبي حيث يقول:
وما ماضي الشباب بمسترد |
|
ولا يوم يمر بمستعاد |
ولقد رحل من صفنا بالسنة الأولى عام 1371هـ أكثر من ثلاثة أرباعنا الآن، ولم يبقى منا سوى القليل مابين عاجز ومتأهب للرحيل ولقد أكد الشاعر ذلك بقوله:
إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت |
|
حميمك فأعلم أنها ستعود |
ومن ناحية أخرى أن من عناية الملك عبد العزيز ـ طيب الله ثراه ـ بطلاب دار التوحيد أن أمر بتخصيص مكان لسكنى الطلبة المغتربين بجانب المدرسة "القسم الداخلي مهجع الطلاب" وتعيين خدم لهم مع صرف مكآفات سخية شهرية، وتأمين سيارات لنقلهم من بلدانهم بنجد عند بداية الدراسة إلى الطائف، والعودة بهم إلى أوطانهم بعد الاختبارات السنوية: سيارة لنقل طلاب القصيم وأخرى لطلاب منطقة الرياض ـ شقراء ـ حريملاء ـ الشعراء ـ والدوادمي، ومرات وتنتهي بالرياض .. وهكذا عناية ملوك هذه البلاد بطلاب العلم منذ القدم، وكانت المسافة بين الطائف ومنطقة نجد قبل تمهيد الطرق مابين يومين إلى ثلاثة أيام، أذكر أننا أثناء عودتنا من الدراسة تناولنا طعام العشاء بمدينة الشعراء بضيافة إبراهيم أبو معطي والد الزميلين سعد ـ بكلية الشريعة بمكة ـ ومحمد معنا، والغداء لدى الشيخ إبراهيم الهويش قاضي مرات ـ في تلك الحقبة الزمنية ـ والد الشيخ محمد وأخيه عبد العزيزـ رحمه الله ـ وأحياناً نكون في ضيافة أهالي شقراء ، والحقيقة إننا نجد في ذلك سعة خاطر ومسرة رغم وعورة الطريق و وغثاء السفر وتعطل السيارة أحياناً .. فقوة الترابط والتآلف بين طلاب الدار عموما لا تكاد توصف كلها محبةً واحتراماً ولكنها الأيام تجمع وتفرق:
الدهر لاءم بين ألفتنا |
|
وكذاك فرق بيننا الدهر |
ولنا مع أبي إبراهيم ذكريات جميلة متواصلة تربو على 57 عاما ً، وحتى قبيل وفاته.. كما لازلت محتفظاً ببعض رسائله الحبيبة إلى قلبي في عام 1371هـ التي تحمل في ثناياها خالص الود والتشوق إلى جمع الشمل بيننا في الدار عند استئناف الدراسة عام 1372هـ.. رحم الله أبا إبراهيم وأسكنه فسيح جناته، وألهم ذويه وأبنائه وبناته وأم إبراهيم ومحبيه الصبر والسلوان.
"إنا لله وإنا إليه راجعون "
ورحلت كريمة الشمائل(<!--)
(سارة بنت عبدالله ناصر العمراني رحمها الله)
وأحسن الحالات حال امرئ |
|
تطيب بعد الموت أخباره |
بينما كنت في مجلس أحد الأقارب مسرورا بتبادل التهاني بحلول عيد الفطر المبارك وعلامات الفرح والبهجة تعلو محيا كل واحد منا. إذ بالهاتف يتواصل رنينه حاملاً وموصلاً نبأ رحيل ابنة الخالة: سارة بنت عبد الله بن ناصر العمراني. والدة الأستاذ الفاضل : خليفة بن صالح العجاجي ـ رحمها الله ـ التي هي بمنزلة الأخت الشقيقة لي. حيث وافاها الأجل المحتوم فجر الاثنين الموافق 3/10/1428 هـ وصلي عليها بعد صلاة العصر بجامع الملك خالد بأم الحمام وقد اكتظ المسجد بالمصلين رجالاً و نساء داعين لها بالمغفرة و بطيب الإقامة في جدثها إلى أن يبعث الله الخلائق يوم النشور.
فلم أتمالك الوقوف لقوة الصدمة النفسية في تلك اللحظة الموجعة لقلبي، بل أخلدت إلى الأرض تالياً هذه الآية: ( إنا لله و إنا إليه راجعون ) وفجأة طوح بي الخيال محلقاً في أجوان فضاءات الطفولة والبراءة، ومتذكراً أيامنا الأول، وسيرتها العطرة معنا أثناء زياراتنا لهم الأسبوعية في نخلهم المسمى"الجزيع" بصحبة والدتي، حيث اعتادت زيارة شقيقاتها الثلاث والدات كل من الأخوة: عبد الرحمن بن عبد الله العمراني وناصر بن محمد العمراني بمقر نخلهم المشار إليه آنفاً ..، وبخالتي أم محمد عبد الله العمراني ـ رحمها الله ـ بنخلهم المسمى"الخرجية" فزيارة الخالات غالبا ما تكون أسبوعاً بعد أسبوع..، فنحن معشر الصغار نفرح ونحسب لتلك الزيارات كل حساب..، لنلتقي بأطفالهن بنين وبنات لنلهو معهم، فالمزارع والنخيل بها مجال رحب للمرح والفرح، وبمزاولة الكثير من الألعاب والأنشطة مثل تسلق بعض فسائل النخيل والأشجار..، ومطاردة صغار الحيوانات والدواجن..، مما يدخل السرور والبهجة في نفوسنا وكانت ابنة الخالة والدة: خليفة ـ رحمها الله ـ تفرح بمجيئنا. وتبادرنا بما تجمعه لنا من حبات النبق "السدر" ومن بيض الدواجن وفي مواسم حمل النخيل تحتفظ لنا بما يتساقط من بلح النخيل قبل نضجه، ومن ثمار الرمان والعنب ..الخ، فهي تدخر ذلك قبل مجيئنا لهم حباً منها لإدخال السرور والترغيب في مواصلة حضورنا مع والدتنا ـ رحم الله الجميع ـ فهي تكبرنا بسنوات..، وأذكر جيداً أنها من شفقتها وخوفها علينا من الغرق أثناء مزاولتنا السباحة في البرك أنا والصديق محمد بن عبد العزيز المشعل ـ رحمة الله ـ الذي اعتاد الحضور مع والدته لأخوالها مثلنا..، فهي لا تبرح مكانها خوفاً علينا، وقد انتشلتني من الماء مرة قبل أن أجيد السباحة ـ غفر الله لها ولوالديها ـ فلقد وهبها الله رحابة الصدر، وسماحة الخلق ولين الجانب منذ فجر حياتها، ودام التواصل معها طيلة العمر حتى قُبيل وفاتها، فكلما اتصل عليها تقابلني بوابل من الدعاء لي ولوالديّ فهي تملك لساناً رطباً بالدعاء الذي يُؤنس السامع. والتحبب للأقارب والجيران، وأصدقاء والديها وإخوتها، وطلب المغفرة لمن غاب عن الوجود من والدين وأهل ومعارف. وتمتاز على لداتها وأترابها بدماثة الخلق ولين العريكة وطيب القلب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا أحب الله عبداً حببه للناس). وأجاد الشاعر حيث يقول مادحاً و واصفاً أمثالها:
وجه عليه من الحياء سكينة |
|
ومحبة تجري مع الأنفاس |
وإذا أحب الله يوماً عبده |
|
ألقى عليه محبة في الناس |
أجل إنها لمحبوبة لدى عشيرتها ومجتمعها الأسري بل ومع جميع من يعرفها ويسمع عنها..، وكان لسانها رطب بذكر الله وكثرة العبادة والصيام وصلوات النوافل، بارة بوالديها تشركهما في كل ما تبذله من عمل الخير والصدقات..، وافية مع أصدقائهما لعلمها أن البر بمحبي وأصدقاء الوالدين من أفضل الأعمال وأوفاها نحوهما..
نبادله الصداقة ما حيينا |
|
وإن متنا سنورثها البنينا |
ولقد وهبها المولى ابناً صالحاً باراً هو وحيدها من الأبناء: خليفة بن صالح العجاجي. وابنتين بارتين بها الأولى عقيلة الأستاذ: علي بن أحمد الشدي، أم الدكتور/ عادل بن علي الشدي. والأخرى الجوهرة أم الأستاذ عبد الرحمن بن سليمان العجاجي. كما لا ننسى أم صالح زوجة خليفة وأبنائها وبناتها على رعايتهن بها طيلة مكثها معهم، ومرافقتها أثناء تنويمها بالمستشفيات.. مدة مرضها. وهذا ضرب من البر والوفاء لا يستغرب على أمثالهن أبداً ..، ولقد حزن الجميع على رحيلها وخلو شخصها من دارها..، فكانت شمعة مضيئة في أرجاء البيت تحث على أداء الصلوات في أوقاتها وعلى تلاوة كتاب الله، وعلى صلة الأرحام والتواصل وفعل الخير، ولك أن تتصور ما بدا حال ابنها خليفة وهو ينزلها في قبرها وكله حزن وتفجع ونظرات تُتَابع رصف لبنات اللحد حتى أخفت جسمها الطاهر، وكأنه يردد بين جوانحه وداعاً يا أماه وداعاً أبدياً ..، ويزداد أواري الحزن ولوعات الفراق حين يعود إلى البيت وقد خلا منها ـ كان الله في عونه وجميع أسرته ـ ولي مع أختي ابنة الخالة ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري مدى عمري ومهما أنسى من شيء تولى فإني ذاكر لك يا أم خليفة، وقبل وفاتها بحوالي عشرة أيام اتصلت عليها كالمعتاد مُسلماً ومطمئناً على حالتها الصحية فأحسست من نبرات صوتها الهادئ ومن تكرار دعائها الذي يُوحي بأنه دعاء مودع وراحل عن الدنيا فقد أجرضتني غُصة فلم استطع سماع بقية دعائها فجال بخاطري مُسرعاً هذا البيت لأبي تمام:
لها منزلٌ تحت الثرى وعَهدتُها |
|
لها منزلٌ بين الجوانح و القلب |
رحم الله أم خليفة و أسكنها عالي الجنان و ألهم ذويها و ابنها خليفة و بنتيها و أخوتها و محبيها الصبر والسلوان (إنا لله و إنا إليه راجعون ).
ورحل سمح المحيا(<!--)
(الشيخ عبدالله بن عبد الرحمن الشثري رحمه الله)
جزى الله ذاك الوجه خير جزائه |
|
وحيته عني الشمس في كل مطلع |
في الآونة الأخيرة من هذا الزمن تتابع رحيل الكثير من الزملاء والأحبة إلى سبيل كل حي إلى الدار الباقية مما جدد أحزان نفسي وآلمها متذكراً من مضوا وتركوا آثاراً طيبة في نفوسنا تُلزمنا باستعراض شريط الذكريات معهم، وخاصة زملاء الدراسة الذين لهم مكانة عالية في شعاب النفس يجددها مر الملوين مدى العمر كله ..، فرفوف الذاكرة محملة بأجمل الذكريات وأحلا ساعات العمر، وما يتخلل تلك السويعات والأيام من لحظات مرح وفرح ومداعبات خفيفة تدفع السآمة والملل وتجدد النشاط لاستذكار الدروس في تلك المساجد المتعددة الآهلة بأعداد كبيرة من الطلاب في شتى المراحل الدراسية لتوفر الإضاءة بها ـ آنذاك ـ حيث أن معظم البيوت خالية من الكهرباء، وخاصة في تلك الحقبة الزمنية البعيدة ..! فأجواء الدراسة هناك أجواء جد ومثابرة، وتنافس في التحصيل العلمي وهضم المناهج، ولقد أجاد الشاعر حيث يقول:
غدا توفى النفوس ما عملت |
|
ويحصد الزارعون ما زرعوا نشرت فى 30 سبتمبر 2013
بواسطة mager22
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف
عبد العزيز بن عبد الرحمن الخريف **** ولد ونشأ في حريملاء , 80كم شمال غربي مدينة الرياض . درس في حلقات العلم على المشايخ بالرياض . بدأ الدراسة النظامية بدار التوحيد بالطائف 1371 - 1372 هـ . أنهى التعليم الثانوي بالمعهد العلمي بالرياض عام 1374 هـ . كلية اللغة العربية »
أقسام الموقعابحثتسجيل الدخولعدد زيارات الموقع
30,359
|