جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
فدوى طوقان
"الرحلة الأبهى"
محمود شقير
أخذ "محمود شقير" مكانته كسارد للفتيان، بحيث أن هذا الأسلوب من السرد هو الذي يميره عن غيره من الكتاب، فحجم الاصدارات التي انتجها في هذا المجال ولهذه الفئة، جعله يغير في أسلوب الكتابة، بحيث يقدم مادة أدبية بلغة سهلة وسلسة وجميلة، وبما أن الحديث يدور عن "فدوى" الشاعرة، فالتأكيد سيضفي هذا المضوع لمسه ناعمة على الكتاب رغم الحزن والألم الذي جاء فيه، لكن "محمود شقير" المتمرس في الكتابة، يستخدم التخيل/الفنتازيا ليخفف من حده الأحداث على القارئ.
الفانتازيا
المدخل الذي أوجده الكاتب للحديث عن "فدوى" كان من خلال استحضارها ـ رغم وفاتها ـ وأجراء حوار وللقاءات معها في القدس ونابلس، فتبدو لنا كأنها عادت بعد مائة عام، لهذا نجدها تتساءل: "هل ما زالت القدس تحت الاحتلال؟" ص11، وهذا السؤال يشير إلى الهم الوطني عند "فدوى"، فما زالت القدس وفلسطين حاضرة فيها حتى وهي في العالم الأخر، وتفكر بخلصهما من الاحتلال.
من مشاهد الاندهاش أن "فدوى" تعتبر غائبة عند النادل، وحاضرة وحية عند الراوي، لهذا نجد النادل يحتار/يستغرب عندما يطلب الراوي صحين كنافة: "قلت له لكي أنهي استغرابه:
ـ صحن كنافة واحد إن سمحت" ص15، وهذا ما جعل اللقاءات والحوارات تمثل حالة خاصة واستثنائية بين "فدوى" والراوي، فهو الوحيد القادر على الوصول إليها ومخاطبتها، من ثمة إيصال ونقل تلك الحوارات واللقاءات لنا نحن المتلقين.
والراوي يكسر حاجز الزمن ورتابة السرد العادي/المألوف من خلال هذا الحوار: "ها أنت مندوب إحدى الصحف أو المجلات؟
ـ أنا أعد كتابا للفتيان والفتيات عن سيرتك للاحتفال بمئة عام على مولدك.
ـ هل تحتفلون بمرور مئة هام على مولدي؟
ـ نعم" ص45، بهذه الأسلوب أستطاع الراوي أن يتجاوز رتابة السرد المباشر ويدخلنا إلى عالم حي وأقرب إلى الواقع منه إلى عالم وهمي.
وذروة الفانتازيا والخروج عن المألوف جاءت في المقطع الأخير من الكتاب: "وقفت أنتظرها عند باب المقبرة، جاءت بفستان أسود وعلى كتفها حقيبة سوداء.
مشينا معا بخطى هادئة واقتربنا من قبرها، وقفنا هناك في خشوع، وكنت أسمع أبياتا من شعرها تلقيها هي بصوت خافت وديع:
كفاني أموت على أرضها
وأدفن فيها
وتحت ثراها أذوب وأفنى
وأبعث عشبا على أرضيها
وأبعث زعرة
تعيث بها كف طفل نمته بلادي
ترابا وعشقا وزهرة؟
توقفت عن الإلقاء خيم على المكان صمت مشحون، تلفت حولي ولم تكن فدوى إلى جواري.
كانت هناك في قلبي وفي قلوب الناس" ص104و105، تكمن عبقرية الراوي ليس في إحداث الفانتازيا فحسب، بل في تقديم نهاية "فدوى" فالقصيدة التي اختارها بالتأكيد تلبي طموح "فدوى" وفي ذات الوقت تعطي القارئ خبر رحيلها بطريقة سهلة غير صادمة، لهذا نقول أن الاسلوب الذي انتهجه الراوي في "سيرة فدوى" كان موفقا تماما، فلم يحدث خبر رحيلها صدمة عند القارئ، بل جاء بشكل عادي وطبيعي، وفي ذات الوقت يلبي رغبة "فدوى".
ألم "فدوى"
المرأة في المجتمع العربي تعاني أكثر من اضطهاد، وهذا يعود إلى اننا نعيش في ظل احتلال، أو في دول تابعة ومجرورة للغرب، والاضطهاد الثاني أن المجتمع الذكوري يُعامل المرأة بطريقة دونية، ويعتبرها هي الحلقة الأضعف لهذا نجده يفرغ كل الضغط الواقع عليه من خلال تعامله مع المرأة، كما ان الدين يمارس سطوته عليها من خلال تقديمها على أنها مجرد (حرمة) ضعيفة، لهذا لا نجدها تأخذ ماكنتها كما هو حال الذكور، فدائما يتم التعاطي معها على أنها أقل مكانة وقدرة وعلما وثقافة من الذكور.
تخبرنا فدوى عن همومها وما عانته في صغرها من ظلم فتقول: "في طفولتي، ظللت أتلهف للحصول على دمية تغمض عينيها وتفتحهما، دون أن يتحقق ذلك، ولم أكن أحب ملابسي لا قماشا ولا تفصيلا، فقد كانت أمي تخيطهما بنفسها، ..كنت اتلهف للحصول على حلق ذهبي أو سوار أو فستان جميل أو دمية من دمى المصانع، كنت اتلهف للحصول على حب أبي وأمي، وعلى اهتمام خاص بي" ص16، كلنا يعلم أن هذا شيء مما جاء في كتابي "رحلة الصعبة، والرحلة الأصعب" لكن الراوي قدم لنا حاجاتها ليس ليكرر ما جاء بهما، بقدر أن ينتبه الآباء والأمهات إلى هذه المسألة، وأن يراعوا حاجات الأنباء المادية العاطفية، وأن ينبه الأبناء إلى ضرورة المطالبة والتصريح بحاجاتهم.
إذا ما عدنا إلى الزمن الذي عاشت فيه "فدوى" يمكننا أن نعلم حجم الضغط الواقع عليها كفتاة تسعى لتُكون/تُحقق ذاتها في مجتمع لا يلقي لها بالا أو اهتماما، تخبرنا عن فرحتها بالمدرسة التي أخرجتها من قتامة البيت ورتابته: "في المدرسة تمكنت من العثور على بعض أجزاء من نفسي الضائعة، فقد أثبت هناك وجودي الذي لم أستطع أن أثبته في البيت" ص37، نجد الراوي يركز في على ما يهم الفئة المستهدفة من الكتاب، وكأنه بهذا الكلام الذي جاء على لسان "فدوى" يريد من الفتيات أن ينتبهن إلى أهمية المدرسة ودورها في تحقيق الذات المتميزة والقادرة على اختراق العادي، "فدوى" التي قالت هذا.
في سن المراهقة غالبية الجنسين يمران بحالة استثنائية وعلى الأهل ان يستوعبوهما، تخبرنا "فدوى" عن هذه المرحلة وكيف تعامل الأهل معها: "...كان التواصل الوحيد الذي جرى لي مع الغلام هو زهرة فل ركض إلي بها ذات يوم صبي صغير في |(حارة العقبة) وأنا في طريقي إلى بيت خالتي... أصدر حكمه القاضي بالإقامة الجبرية في البيت حتى يوم مماتي، كما هددني بالقتل إذا أنا تخطيت عتبة المنزل...كان أشد ما عانيته حرماني من الذهاب إلى المدرسة" ص40، إذا ما تقفنا عند هذا المقطع، يتأكد لنا صرامة المعاملة التي تُعامل بها المرأة في مجتمعنا، والهدف من هذا الأمر ـ تقديم المعاملة القاسية للمرأة ـ لفت الانتباه إلى السلوك غير السوي الذي نعامل به الفتيات، والدعوة إلى ضرورة تغييره، والتعامل بطريقة عصرية مع المراهقين، وليس بالطريقة والاسلوب الذي جاء في المشهد السابق.
وتخبرنا "فدوى" عن هوايتها في تعلم العزف على العود: " كنت أحتضن العود وقد اتخذت لي مكانا في الغرفة أمام الشباك بمواجهة باب الدار، حتى لا أفاجأ بدخول أبي أو أحد أبناء عمي، وأشرع في العزف والغناء بصوت خفيض، حتى إذا ما برز رأس أحدهم بالطربوش الأحمر نهضت مسرعة وخبأت العود في خزانة ملابسنا الكبيرة" ص52، أليس من المعيب أن نحرم ابناءنا وبناتنا من حرية ممارسة هوايتهم؟، أليس من المعيب أن يكون العزف على العود أو أي آلة موسيقية عيب/حرام/ممنوع؟.
وبعد سفر أخوها "إبراهيم" إلى العراق نجدها تمر في حالة نفسية بائسة: "...عدت أوغل في هجرتي النفسية وفي الرحيل داخل الذات، إن الشيء الأكثر أهمية هو ما يحدث فينا لا ما يحدث لنا، أصبح الحزن منذ الآن هو العنصر الأساسي في حياتي" ص69، هذه المشاعر الإنسانية توكد على أهمية أن يكون هناك علاقة صداقة بين الأخوة، بصرف النظر عن الجنس، هذا من جهة، ومن جهة ثانية تشير إلى أن البعد بين الأحباء/الأصدقاء/الأخوة هو أمر موجع ومؤلم، كأن "فدوى" تدعونا لنكون معا ولا نفترق مهما كانت الظروف، لأن ألم الفرقة قاتل ومؤلم.
المرأة
تحدثنا "فدوى" عن المرأة وما تعانيه من قهر في مجتمعها، منبه إلى أن هذه المعاملة غير سوية ولا تتناسب والطبيعة الإنسان العصري: "... البيت أثري كبير من بيوت نابلس التي تذكرك بقصور الحريم والحرمان" ص27، من المفترض أن يكون هذا البيت التراثي له مكانة محببة عن "فدوى" الشاعرة ،لكن التعامل غير الإنساني جعله مكان غير مرغوبا فيه.
وتطرح تساؤلات عن حقوقها كإنسانة قبل أن تكون امرأة، تقول: "ما دام يحب الطرب، فلماذا يحرمنا من العزف والغناء؟" ص28، أيضا تنبيه إلى أن هناك خللا في المعايير التي يحكم بها المجتمع على عمل المرأة، فما هو متاح للذكر ليس متاح للأنثى.
وحتى عندما يُطلب منها أن تقوم بإلقاء القصائد، نجد في هذا الطلب حالة
غير منطقية/غير طبيعية: "كيف وبأي حق أو منطق يطلب مني والدي نظم الشعر السياسي وأنا حبيسة الجدران؟" ص71.
المهدئات
المهدئات التي يستخدمها الأدباء/الشعراء تكمن في تناوهم المرأة/الرجل، والكتابة/القراءة/الموسيقى، والطبيعة، والثورة/التمرد. في حالة الشاعرة "فدوى" كان لا بد من تتناول بعض هذه المهدئات، تحدثنا عن الطبيعة: "وكان الخروج من البيت إلى آفاق الطبيعة الرحبة يشكل راحة لنفسك وبخاصة حين يتم ذلك برفقة صديقتك علياء" ص29، من خلال الطبيعة كانت تأخذ "فدوى" جرعة مهدئة تجعلها قادرة على مواجه الصعاب، وتخطي الأزمات وحالات الضغط التي تتعرض لها.
والطبيعة لم تخفف من حالة الضغط على "فدوى" فحسب، بل نجدها تلهمها لتكتب قصيدة تقول فيها:
"هنا، هنا، في ظل زيتونتي
في ضفة الوادي، بسفح الجبل
أصغي إلى الكون واما تزل
آياته تروي حديث الأزل" ص32، وكأن الطبيعة منحت "فدوى" عامل مهدئ آخر، هو الكتابة، ومما يجعل الطبيعة فاتحة للتحرر من كآبة وبوس الواقع.
وتحدثنا عن الكتب ودورها في تهدئة نفسها وخلق حالة وعي جديدة، تتجاوز العادي/المتاح: "...كان عالمي الوحيد في ذلك الواقع الرهيب بخوائه العاطفي هو عالك الكتب، كنت أعيش مع الأفكار المزروعة في عالم الكتب، معزولة من عالم الناس" ص70، نجد دعوة من "فدوى" ـ غير مباشرة ـ إلى الاهتمام والتوجه إلى العالم الجميل، العالم الذي يحررنا من واقعنا البائس، إلى عالم الكتب والفضاء الرحب والمفتوح، فلا حواجز أو عوائق أو ستائر بين الكاتب والقارئ.
بهذا يكون "محود شقير" قد أدخلنا إلى عالم "فدوى" الشاعرة، والإنسانية، والمرأة المضطهدة، والمرأة المتمردة، التي أثبتت وجودها في ظل احتلال يقمعها كما يقمع شعبها، وفي ظل مجتمع يمارس سطوتها عليها، فاستطاعت أن تُكِون "فدوى طوقان" الشاعرة وتُخرجها لنا من بين اضطهادين، فأي امرأة هذه التي تتجاوز اضطهادين مها؟.
ولكن!!
... ولكن بعد الصفحة سبعين وجدها هناك سرد متواصل على لسان "فدوى" دون وجود تلك السردية التي استخدمت في بداية الكتاب، ونشعر وكأن الراوي يريد أن ينهي الكتاب بسرعة، لهذا أهمل جانب الفانتازيا، لكنه يعوض هذا (الخلل) في نهاية الكتاب الذي جاءت بخاتمة في غاية الروعة والجمال.
الكتاب من منشورات مؤسسة تامر للتعليم المجتمعي، رام الله، فلسطين، الطبعة الأولى
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية