جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
اللغة والفكر في ديوان
"هي عادة المدن"
خالد جمعة
اللغة هي الأداة الحاملة للمادة الأدبية، وهي من تحمل الفكرة وتقدمها لنا، ويكفي أن تكون اللغة جميلة لنستمتع بالعمل الأدبي، في هذا الكتاب تأخذنا اللغة إلى فضاء رحب، نهيم فيه محلقين في عالم الشاعر "خالد جمعة" وإذا ما أخذنا الأفكار الإنسانية التي يحملها الكتاب نكون أمام عمل يستحق أن نقف عنده.
المرأة
المرأة لها حضورها ، وكلنا يعلم الحيوية التي تخلقها عندما تحضر، فهي أن جاءت بواقعية أم في الأدب أم في الخيال تبقى لها هيبتها ومكانتها، فحضورها مرحبا به أينما حلت وكيفما جاءت:
"احتاج إلى حبك كي أميز بين حزني وانكساري، احتاج عينيك كي أرسم العالم من أدراج لم يصعدها أحد، ولم يغن على ظلالها أحد" ص16و17، فالمرأة هي البلسم الشافي للشاعر، وهي من يستطيع أن يخرجه ويحرره مما علق به، ويحتاجها لمسألتين، الأولى متعلقة بالمعرفة التي يستطيع من خلالها أن يحد موقفه/موقعه، والاحتياج الثاني جاء ليرتقي إنسانيا وثقافيا، فهو يريد رسمها بصورة خاصة مميزة، والجميل في هذا التناول لمرأة أنه الشاعر يرى العالم من خلال عيونها هي وليس من خلال عيونه.
المرأة هي الباعث والخالق لكل العناصر الجميلة في الحياة، فمنها وبها يجد الجمال والهدوء والسكينة، هذا ما يقوله الشاعر:
"كميت لا يموت
كان الليل بحاجة إلى قصيدة ليغسل ليله، ليمد حنينه البعيد إلى روح هذا الجمال الكامن فيك، وحين أسأل بسذاجة المبتدئين: من أين تأتين باستثناءاتك كل فجر، تحيطين الوجود ببسمة وتكتبين على الهواء: من أين يأتي النبع بمائه منذ مليون سنة؟" ص29، الجميل في هذا المقطع أنه جاء من خلال ثلاثة أصوات، الراوي، والشاعر، والحبيبة، وإذا ما توقفنا عند المقطع الذي جاء على لسان الراوي، نجده المذكر "الليل" يبحث عن أنثى "قصيدة" وهذا ما يشير إلى أن الشاعر في العقل الباطن يعطي المرأة أهمية ومكانة عالية، وهي لا يتوقف عند هذا الأمر، بل يجعل الهدف/الغاية من كتابة "القصيدة" لتتخصب/لتتغنى بالحبية، ومن ثمة تقدم لها، وكأن الجمال يأتي/ينبعث/يولد من المرأة، لهذا هو جمال، ولهذا يقدم لها، فهي الخالق والباعث والواجد للجمال، كما أنها تقبل (قربان) الجمال فقط.
وإذا ما توقفنا السؤال الذي طرحه "الشاعر" سنجد "السذاجة" تتناسب وطبيعة تركيب الفقرة التي جاءت بها، "وحين أسأل بسذاجة المبتدئين" فلا نجد فيها أي فنية أو ابداع، بل فقرة عادية تعبر عن حقيقة (سذاجة) السائل، لكن السؤال بحد ذاته جاء بشكل متألق ورائع: "من أين تأتين باستثناءاتك كل فجر، تحيطين الوجود ببسمة وتكتبين على الهواء" فالسؤال حيوي وينم عن ثقافة عالية، وكأن الشاعر بهذا أراد أن يقول بأنه يمكن أن يقدم على فعل عادي، لكنه سرعان ما يتدارك نفسه ويتقدم من ذاته كشاعر.
أما الصوت الثالث فجاء على لسان الحبية التي تكتب: "من أين يأتي النبع بمائه منذ مليون سنة؟" فنجد اللغة الأنثى حاضرة من خلال حديثها عن النبع "المذكر وعن "مائه" وهنا كان صوت الأنثى حقيقي وصادر عن امرأة وليس عن رجل، وهذا ما يجعل الفقرة حقيقة صادرة عن انثى وليس عن ذكر، وهذا ما يجعلنا نقول أن الشاعر ينسجم ويتوحد مع ما يكتبه، من هنا علينا التوقف عنده وليس المرور عليه مرور الكرام.
ألم الشاعر
الشاعر والكاتب يمتلك احساسا مرهفا يمكن لأي حدث/فعل/صوت/قول/صورة أن يخدشه ويسبب التعكير له، فما هو التعب/الأم الذي يعني منه "خالد جمعة"؟:
" تعبت
حين ضممتك ولم أجد غير الهواء الخفيف يعبئ المساحة بين يدي.
تعبت
من علب الحنين على رفوف القلب، تنز فريق الأفق، وينام السواد في غيه وأنام.
التعب مجيئك في ذهابي، وحضورك دون رائحة.
التعب ذوبان العاشق في نهر كسول
التعب جوع الروح إلى البدايات
التعب حنين الماء إلى أمه الغيمة
التعب أن تحب
تعبت وحين تكسرني المسافات أقبل الندى في يديك الخائفتين فأنجو" ص19-24، اللغة الشعرية حاضرة، والشاعر يقدم أفكارا بشكل مختزل ومكثف، فهو يتحدث بلغة شعرية هادية وناعمة، رغم القسوة والألم الكامن بين حروف كلماته، فالعاطفة والحنين والحب هما ما يؤرقه ويسبب له التعب/الألم، فيبدو لنا وكأنه النبع المتدفق ولا يجد من يغترف ليشرب منه، وهنا يكون دور الشاعر المعطاء الذي يفيض بالحنان والحب والعطاء، فهو كالأم/كالأرض التي تعطي لأن طبيعتها العطاء.
ما جاء فيما سابق جاء بشكل (مباشر) عن وجع وألم الشاعر، لكن كيف يكتب الشاعر "خالد جمعة" عن هذا الألم؟ وكيف يعبر عن ألمه؟:
"الغارة تفسخ الدوري والموجة والبنات والندى والضوء والأمس واليوم، يتعثر الرجل بالظلمة كي يفهم فصلا في رواية طويلة، تخذله الكهرباء وزوجته والطحين/ جثة الوقت ملقاة على حبل التلفزيون كأية جثة أخرى، ...أزواج من حمام ولغة تتبخر على الأسفلت، تصاب اللغة في مقتل وتموت بعيدة ووحيدة وباردة مثل ماموث مدفون في ثلج مصنوع من ثلج.. بأم عيني رأيت عشرة مفردات يتسللن إلى قاموسي دون أن أحرك إصبعا كي أمنعها... يجلس شاعر وحده محاط بالهواء الساخن، أمامه برتقالتان هما كل ما تبقى من مظاهر الحضارة، فيغامر فيأكل واحدة فتشعر الأخرى بالوحدة وتقول لنفسها: هذا القاتل لا يرحم.
تعلق امرأة رعبها على الشباك كي لا يراه الصبية الذين يعللون ارتجافهم بالبرد لا بالخوف، يسقط الرعب عن حافة الشباك، يتكسر في أرض الغرفة شظايا كل شيء وكل وقت، الساعة على الجدار قررت أن تستريح بعد أن أصبح عملها لا ضرورة له" ص54و55،
صورة الناس/للإنسان الذي يتعرض للغارة والكيفية التي يكون بها، فنجد استحالة القراءة ـ وهي فعل إنساني ـ ونجد الرجل يحمل هم تأمين الطعام لأسرته وسلامتها، ونجده يتألم بمشاهدة الحمام على الإسفلت، هذه الصور تجسيد شبه واقعي، لكن هناك طريقة للشاعر حلق بها بعيدا فيؤنسن الأشياء والجماد والتي تعبر عن حجم المأساة التي يعيشها الشاعر/الإنسان، فهناك اللغة الأداة والوسيلة التي يكون/يجد فيها الشاعر ذاته تموت بعد أن تصاب في مقتل، وهنا الشاعر يفقد ذاته لأن ادواته من المفترض أنها لم تعد موجوده، فهل حقا أصبح "الشاعر" غير شاعر، لفقدانه لغته؟، أم أنه مصاب بحدث عظيم سيفجره كشاعر بحيث يتجاوز كل ما هو عادي ومألوف؟
اعتقد بأن الاحتمال الثاني هو الذي سيكون عليه "خالد جمعة"، وهذا ما وجدناه عندما "جعل مفردات (دخيلة) تتسلل، وعندما جعل البرتقالة تتكلم كإنسان تماما، وتبدي غضبها على فعل قتل أختها!!، ونجد المرأة تعلق "الرعب"، الذي يسقط كالزجاج، ونجد الساعة التي تتوقف عن العمل بإرادتها هي، كل هذه الصور (المجنونة) تؤكد على عبقرية الشاعر وعلى تمكنه من أدواته الشعرية، فقدم لنا صور في غاية الروعة رغم قتامتها، وهنا يكمن أبداع الشاعر، تقديم صورة قاسية ومؤلمة لكن بصور شعرية جميلة تخفف من وطأة الحدث، المشهد على القارئ.
حكم الشاعر
الشاعر هو مفكر وفيلسوف وعبقري وأديب، لهذا الشعراء هم أعلى مرتبة إنسانيا وحضاريا، "خالد جمعة" يقدم لنا فلسفته كشاعر من خلال قوله:
" لمن سنقول الشعر حين يموت الذين نحبهم؟" ص30، وكأن الشاعر يدعو إلى التشبث بالحياة، ويرد على كل من يطالبنا بالموت، فالحياة هي التي تجعل الشاعر يقول/يكتب الشعر، وتجعلنا نحن أحباءه نستمتع بهذا الشعر.
ويقول على لسان المرأة: "أريد من يسرقني لا من يحرسني" ص38، فهذا الكلام الصادر عن المرأة يشير إلى حاجتها إلى الحرية وعدم وضع القيود والحواجز أمامها، وعبر أيضا حاجتها إلى من يأخذها إلى عالم/فضاء يحررها من الواقع، بحيث تهيم في فضاء الحب والحبيب، وحاجتها روحية وجسدية.
ونجد فلسفة الشاعر في "أعتقها فمتمرتين":
"قال: أما زلت لا ترى أحدا في مرآتك؟
قال:
آخر مرة نظرة لي في المرآة خرج شبحان يعضان المسافة بين وبين المرأة
قال: رأيت العدم في علبة الكلام على الطاولة ولم تزل عاشقا؟
قال: أفرغت نفسي من نفسي لأملأها بها، ففاضت عني
قال وما الحقيقة؟
قال: أن تكون ما تعي أنك هو" ص42، هذا الكلام أبعد من أن يؤخذ بمعناه العادي، بل هو كلام عميق يأخذنا إلى مكان آخر، فيبدو الشاعر صوفي تماما، وهذا ما جاء من خلال فكرته عن البصر العادي والبصيرة التي في "المرآة"، ونجد الصوفية أيضا من خلال حديثه عن الفراغ والامتلاء، وكذلك فكرته عن الحقيقة التي تكمن في الذات، الواعية، الذات العارفة.
الومضة
من أصعب أنواع الكتابة، والقلة هي التي تتقن هذا النوع من الكتابة، لكن الشاعر "خالد جمعة" الذي امتعنا بما قدمه بالتأكيد هو متمكن من هذا النوع من الكتابة:
"
ـ1 ـ
عيناك زمن خائف
أطمئنه بقبلة
فيخاف أكثر" ص61، الفعل والفعل المضاد هما الجميل في هذه الومضة، فالشاعر يتحدث عن عيناها، وهذا بحد ذاته له وقع خاص في المتلقي، كما أن فعل "قبلة" له أثر في الحبيبة وفي القارئ معا.
الديوان صادر عام 2009، دون اسم دار نشر، مطبعة الأخوة رام الله، فلسطين
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية