جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
القصيدة المجنونة
"آن لي"
عبود الجابري
في عالم مجنون، ليس للعقل أو للمنطق مكانا فيه، لا بد أن مواجهه بعين الجنون، فلم يعد مكان للعقل في هذا الواقع، في هذا العالم، خاصة في منطقتنا العربية ، ولن نفتج جروحنا، فكلنا يعرفها، "عبود الجابري" يرد على هذا الواقع بصفعة مدوية، بحيث نجد في هذه القصيدة شيء من العدل، من رفع الظلم الذي وقع علينا، ففي هذه القصيدة سنجد ذاتنا، سيجد كل مواطن عربي نفسه خارج "اللوحة"، فلم يعد يحتمل ذلك الإطار الذي يقيده، فلم يعد يُحتمل أن نكون مجرد صورة كاذبة تعبر عن واقع مزيف، والشاعر لا يكتفي بهذا الخروج من اللوحة، بل نجده يتحرر كليا، ويمارس طقوس الحرية، من خلال القول ومن خلال الفعل، حتى أنه يحلق "بأجنحة من حجر"، بهذا الشكل "عبود الجابري" "يشفي صدورنا"، والآن لنتأمل القصيدة المجنونة:
" آنَ لي
أن أخرج من اللوحة
وأنزل إلى الأرض
هناك سيكون بمقدوري
أن أصف الماء جارياً
وأروي سيرة الغبار
عندما يغشى الأبصار "
صورة لفعل مجنون، لكنه فعل إنساني، فعل لا يصدر إلا عن عبقري، يعرف كيف يواجه واقعه، فالشاعر يثور على واقعه في اللوحة، ويأخذ مكانه على الأرض، على الجغرافية، في المكان، وهذا الفعل بحد ذاته فعل ثوري، فعل متمرد، لا يأتي إلا ممن لا يعرف القيد أو السكون، وبما أن الراوي هو شاعر فسيهتم بالحديث/التكلم بلغته الشعرية، لهذا نجده يريد أن "يصف الماء جاريا" وهنا رد طبيعي على حالته السابقة داخل اللوحة، وإذا ما توقفنا عند رمزية "الماء، جاريا" يمكننا القول أن الشاعر يركز على عنصر الحياة، وهذا التركيز لا يقتصر على الماء كعنصر للحياة فحسب، بل على جمالية الماء وهو "جاريا"، وهذا الجمع بين طبيعة الماء كعنصر للحياة، وكعنصر جمالي في الطبيعة، يؤكد على أن الشاعر لا يهتم بالحياة العادية، بل بالحياة وبجماليتها، بالوجود فيها والتمتع بجمالها، ومن ثمة التحدث عن هذا الجميل لنستمتع نحن القراء بهذا الجمال أيضا، والخطوة التالية جاءت من خلال فضح الواقع البائس، فلم يعد هناك تحمل عند الشاعر ليكون "في اللوحة"، ليكون مجرد صورة، وكأنه بهذا افعل أراد أن يعوض عن بقاءه في اللوحة، وأيضا أصبح على قناعة بضرورة العمل على عدم العودة إلى حالته السابقة، من هنا ذكر:
" وأروي سيرة الغبار
عندما يغشى الأبصار "
اللوحة الثانية في القصيدة جاءت بهذا بهذه الصورة:
" آنَ لي
أن أشكر الرسام على حسن ظنّه
ساعة ألبسني ألواناً زاهية
ولم يفكّر بالسواد الذي تراكم
في روحي "
وهنا نتوقف عند "الرسام" هل هو الرسام المعروف؟، أم هو الله؟، أم هو شيء آخر؟، الفكر؟، المبدأ؟، الأخلاق والقيم؟، ولماذا يُشكر الرسام الذي وضعه في اللوحة؟، ألس هو من جعله أسيرها، حتى لو رسمه بالوان زاهية؟.
واللوحة الثالثة جاءت لتصور حالة الانسلاخ الكامل عن الماضي، عن الحالة الأولى:
" آن لي أن أحمل حقيبتي التي تعفّن فيها المتاع
وأمضي إلى أعالي الشجر
حتى وإن كنت طائراً
يحاول التحليق
بجناحين من حجر "
الجميل في الصورة السابقة أن هناك فعل وفعل مضاد، فالحقيبة وما فيه عامل حيوي لفعل "أمضي" وهذه المضي، ليس سلبي بل إيجابي، "إلى أعلى الشجر، وهنا يجدر بنا أن نتأمل الفضاء الرحب الذي سيكون عليه الشاعر، وما سيمنحه هذا الوجود في المكان، وهذه الحالة من شعور بالحرية والانطلاق إلى الفضاء، وإذا ما علمنا وضع الشاعر، حالته وهو أسير في اللوحة ، وما سببته له من ألم، يمكننا أن نتفهم ونستوعب اصراره على التحليق بصورة مجنونة "التحليق بجناحين من حجر".
وإذا ما توقفنا عند حالة الشاعر في بداية القصيدة ونهايتها يتأكد على أن هناك فعل ثوري، نابع وناتج عن فكر ثوري، لهذا جاءت الخاتمة تمثل الرد الطبيعي والمناسب لوجوده في اللوحة.
وتستوقفنا الصور في القصيدة مع ما جاء في المدرسة السريالية التي تجاوزت العقل وقدمت الإنسان ومشاكله وهمومة بطريقة متمردة، من هنا يمكننا القول أن "عبود الجابري" يمثل حالة التمرد على والواقع من خلال ما يقدمه من قصائد متمردة، قصائد مجنونة، لكنها تمثل الرد المناسب على واقعنا.
القصيدة منشورة على صفحة الشاعر على الفيس.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية