جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الشكل والمضمون في قصيدة
"أي سلام"
ناصر دياب
لا بد أن يكون هناك أثر للواقع في النص الأدبي، وخاصة الشعري، فالشاعر عندما يكتب تكون القصيدة هي التي تكتبه، وليس هو من يكتبها، من هنا نجد العديد من الشعراء يستخدمون ألفاظا معينة في قصائدهم، متجاوزين ذاتهم ولغتهم كشعراء، فيكون الحدث سيد الموقف في هذه القصائد.
سنجد في هذه القصيدة لغة عادية جدا، بعيدا عن الصور واللغة الشعرية التي نعرفها، وكأن الشاعر من خلال اللغة يعبر عن قرفه وحنقه على الواقع، لهذا قدم لنا لغة تناسب الفكرة، الحدث الذي يتناوله، يفتتح الشاعر القصيدة فيقول:
"اي سلام
والوطن يستباح!
كل يوم
و في كل ليلة
تكون فيه
القيامة
ومحشر من الدم
له بداية
ولكن
ليس له نهاية
هناك"
الألفاظ السوداء تطغى على القصيدة من خلال: "يستباح، القيامة، محشر، الدم" وإذا ما توقفنا عند هذه المقاطع سنجدها خالية من الصور الشعرية أو اللغة الشعرية.
يكمل لنا الشاعر حالة الواقع:
"هناك في وطني
ثائر مناضل
معلوم
يخشاه الردى
على كل باب
يهرب منه
فهو جريء
جريح مظلوم
ومفقود مجهول
لا ذنب له
إلا انه من غير الحاشية
ليس مدعوم"
يركز الشاعر على حرف الميم في "معلوم، مظلوم، مدعوم، مفقود، مجهول، فحالة ضم الشفتين التي نستخدمها عندما نلفظ حرف "الميم" تعبر عن ألم وحنق الشاعر على الواقع، أضافة إلى الفكرة التي تحملها الكلمات، كل هذا يجعل الألفاظ والحروف والمضمون تتوحد في تبيان حالة القرف واليأس التي يمر بها الشاعر.
يكمل الشاعر القصيدة :
" قد يكون شهيدا
أو أسيرا
ونذل عميل
مهزوم
كمفتي يدّعي العلم
في كل الأمور
باع الله والدين
والضمير"
ذروة القرف نجدها في صفات الأشخاص الذي يسقطها الشاعر عليهم "نذل، عميل، مهزوم، كمفتي باع" فهو يعبر عن سخطه على هؤلاء المخربين من خلال تقديمهم بلغة عادية تتناسب ومكانتهم الوضيعة.
يقدمنا الشاعر من لغة رفيعة وشعرية من خلال حديثه عن الوطن:
"في وطني
الشريف يلفظ أنفاسه
صامت
وفي صمته مكلوم
سلاحه
النار و الدم
عزمه خلق أخرس
مكتوم
حزنه غطى الفضاء
واخترق عنان السماء
لا تلوموا الإنسان
إن بكى
الطفولة.. والنساء.. والشيوخ
إنه عالم
يرى الحق
مسروق
يسير
في الديجور"
إذا ما قارنا هذا المقطع مع السابق، سنجد هناك فرق واضح في اللغة، فرغم أن حالة القرف والسخط واضحة في كلا المقطعين، إلا أن لفظ "الوطن" جعل الشاعر يتخلص ولو قليلا من أثر الواقع عليه، وجعله يتقدم من اللغة والصور الشعرية:
"في وطني
الشريف يلفظ أنفاسه
صامت "
"وفي صمته مكلوم
سلاحه"
"حزنه غطى الفضاء
واخترق عنان السماء"
"يرى الحق
مسروق
يسير
في الديجور"
كل هذه الصور جاءت بأثر "الوطن" الذي أحدثه في نفس الشاعر، فجعله يتحرر من الواقع ويتقدم من الصور الشعرية قليلا، بحيث تتجاوز حالة القنوط والسخط المطلق.
وعندما وجد الشاعر ذاته ولغته في المقطع السابق، أخذ يتقدم أكثر من الفرح الذي يحدثه لفظ "الوطن" في نفسه، فهو البلسم الشافي من مرض الواقع، لهذا نجده يتغنى بهذا "الوطن" ويتألق متجهاً نحو البياض الناصع والمطلق، مبتعدا عن قتامة الواقع البائس:
" منذ زمن مضى
كان هناك
زقزقة عصافير
وقوس قزح يعكس لوحة
فيها كل ألوان الحياة
بطيفها الجميل
والمياه تعبر النهر بموسيقا الخرير
و الطعام على بساطته
هانىء له طعم لذيذ
والقمر يغازل الفاتنات
يحلمن وهن نائمات
بعاشق يكسوهن
بأجمل الزهور
من الياسمين و النرجس الجميل"
المقطع الأخير جاء مغاير تماما لفاتحة القصيدة، وكأننا أمام نص شعري آخر وجديد، وأمام شاعر آخر ليس له أي علاقة بما كتبه في فاتحة القصيدة، "زقزقة، العصافير، قوس قوح، الألوان، الحياة، طيفها، الجميل، المياه، النهر، الموسيقا، خرير، بساطته، هانئ، ، لذيذ، القمر، يغازل، الفاتنات، بعشق، يكسوهن، الزهور، الياسمين، والنرجس" كل هذه الألفاظ والمعاني البيضاء جاءت بسبب لفظ واحد هو "الوطن" فتحرر الشاعر كليا من قتامة الواقع، وأصبح شاعر البياض والجمال بعد أن كان شخص عادي يتحدث بلغة عادية وتشاؤمية.
يختم لنا الشاعر القصيدة:
"واليوم يسأل أهل وطني
أيطول هذا الظلام
أم قريبا
سيبزغ الضوء
ويسطع النور؟؟؟!!!"
لغة واقعية وعقلية تبتعد عن العاطفة أو الإثارة، لهذا استخدم الأسئلة كدعوة غير مباشرة للتفكير والتوقف أمام الواقع، وكأن الشاعر صحا من سكرة الشعر التي أحدثها حضور "الوطن" ووقف امام الواقع، لكننا نجد وقفته تحمل بوزغ لأمل، بهذه المقاطع الثلاث يؤكد لنا "ناصر ديب" شعاريته وإنسانيه في ذات الوقت، لهذا بدأ القصيدة بشكل عادي، ثم قدمنا من بياض اللغة والشاعر، ثم خاطبنا بلغة العقل والواقع.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية