القدس في مجموعة
"عشاق المدينة"
نزهة الرملاوي
بشكل شبه دائم يهتم الفلسطيني بالمكان أكثر من الآخرين، لأن صراعه مع المحتل مزدوج، صراع بشري/سكاني، وصراع مكاني/جغرافي، فنجد في اسم الكاتبة "رملاوي" مثلا يعطينا نموذج على اهتمام الفلسطيني بالمكان، فجاء حضور مدينة الرملة في الاسم كتعبير عن انتماء وتمسك الكاتبة بالمكان/بالجغرافيا التي تنتمي إليها، وغالبا من نجد الفلسطيني ينسب ذاته إلى المكان أكثر منه إلى لعائلة.
في هذه المجموعة تقدم لنا الكاتبة المكان غير العادي، المكان المقدس، لهذا سنجد حضوره ومكانته وهيبته وأثره بشكل واضح، فهي تجعله ـ احيانا ـ أقرب إلى الإله، لهذا نجدها تتغنى به من خلال تراتيل مكانية، فتبدو لنا وكأنها الإله المعبود الذي نمجده لذاته، لما فيه من صفات، لجماله، لما يمنحه فينا من وجود، لما يعطينا من راحة وطمأنينة، فالمكان، القدس، مدينة مقدسة، ليس بصفتها الدينية فحسب، بل بصفتها الاجتماعية أيضا، فمن خلالها استطاعت "نزهة الرملاوي" أن تقدم لنا هذه المجموعة القصصية، أليس ذلك كافيا لتأكيد حضور ومكانة وأثر المكان عليها على "نزهة الفلسطينية"؟.
القدس المقدسة
المجموعة مكونة من خمس وعشرين قصة، وجميعها تتحدث عن القدس، حتى لو كانت الشخصيات بعيدة عنها فهي حاضرة في الوجدان كما هي حاضرة بالمشاهدة وبالوجود فيها. وهذا ما جعل المجموعة تبدو وكأنها رواية، فالمكان "القدس" حاضرة في كافة الأحداث والشخصيات، فهي بوصلتهم لمعرفة الجهات الأربع، وهي الهواء الذي يتنفسون، وهي من تمنحهم القدرة على التأمل في الحياة. فهم والقدس شيء/كائن/عنصر واحد لا يمكن أن ينفصلا.
لكن ما هو الأثر الذي تحدثه هذه المدينة بساكنها؟ تجيبنا القاصة في قصة "عشاق المدينة" فتقول: "... فهي الساحر التي تأسر العيون بجاملها، والسلطانة التي تحكم القلوب بعشقها الأبدي، ... لا استطيع التنفس بهواء غير هوائها، ولا استطيع النوم إلا بين أحضانها، ولا النمو إلا تحت شمسها، ولا السمر إلا بين نجومها وقمرها، ولا استطيع سماع شيء إلا سماع مآذنها وأجراس كنائسها، ماءها سر وجودي، واسوارها وآثارها عنواني وتاريخي" ص15، فالمكان ليس شيء جامد، صم بلا حياة، بل يعطي الكثير من عناصر الحياة، ويمنح الشعور بالوجود الشخصي/النفسي، وأيضا الوطني، لهذا نجدها تختم المقطع بقولها: "ولا استطيع أن اعيش في بلد آخر" ص15.
هذا عن الأثر المادي والنفسي الذي تحدثه القدس في ساكنها، فكيف سيكون حضورها في نفوس ساكنيها؟، وكيف سيرد أهلها هذا الجميل الذي تحدثه فيهم؟ تجيبنا "نزهة الرملاوي" في قصة "عطر الماضي" فتقول: "للقدس عيون ترقب عشاقها وأبناءها أينما حلو، لا يحبطها الانتظار، ولا يهمها طول المسافات ولا تقلب الفصول، مدينتنا أنثى ليست كأي أنثى...تبقى على العهد لأوفيائها، عاشقة ولادة للخير ومعاني القدسية، تزرع من نور شمسها أملا تتجلى في جذوره انتصارات الحياة، وتحتضن النجوم الغياب في سمائها، يشتمون عطرها كلما هبت نسائم الشوق لحضرتها، طلة مقدسة تظل من شرفاتها الخالدة، تتمايل دلالا في ليلها الذي يشع نورا من نجومها التي تتلألأ خلف مضاجع ألمها، أملا بالنصر وابتهاجا بمواسم الوفاء، تجرها خيول عربية الملامح نحو الحرية" ص71، أليست هذه تراتيل للمكان، كما هو الحال في تراتيل الإله؟، فكل الصفات الحسنة والخير نجدها حاضرة في هذا المقطع، وهذا الخير ناتج/قادم/خارج من المدينة فقط، ولا يمكن لأي مكان/مدينة أخرى أن تمنحه، لهذا نقول نحن أمام ترتيل مكانية، وهذه سابقة تحسب "لنزهة الرملاوي" لم يأتي بها أي كاتب روائي أو قصصي من قبل.
وهناك عطاء متبادل بين المدينة وسكانها، فكلا منهما يأخذ ويعطي، فهما شيء، جسد واحد، تقول الكاتبة في قصة "في حجرة مقدسة"...أيقنت أن عشاق المدينة وإن رحلوا عنها ذات يوم، وعادوا بعد ألف غياب تتذكرهم وتضمهم بين ذراعيها كأم طيبة، تحميهم من لهب شمس في نارها، وبرد قارس تحت ثراها، وتعد للراحلين عنها حكاية ممزوجة بالعتاب كم هي معشوقة مدينتنا، حين تراها لا تستطيع إلا أن تركع بين أحضانها حامدا شاركا الله أنك في ثراها تتجول، وإن صليت في مكان ما على ترابها فإنك تتحدى كل إبعاد قد يصيبك، إن ابعدوك عن مسجدها وقبتها وكنائسها وروحها وعظمتها وقداستها اللامتناهية... يا لك من مدينة رائعة ملهمة للشعراء والأدباء، يا ندى معطر من أريج السماء، لك معنى آخر في وجدان ساكنيه وعشاقك على مدى الدهر" ص30، قد يبدو أن المعطي هو المدينة فقط، والآخذ هم السكان، لكن أليس عندما تعطينا الأم الحنان تجد ذاتها ومكانتها في هذا العطاء، فبدونه تفقد شيء من ذاتها، لهذا عندما تعطي المدينة/الأم هي تكون آخذة في ذات الوقت، وعندما يتغنى بهذا الشعراء بعد أن تلهمهم، أليس هذا أخذ وتبادلا العطاء؟، وعندما تمجد كإله أليس هذا أخذ ممن يمجدها؟، من هنا نقول أن مدينة القدس ليس مدينة كأي مدينة، فهي مكان تجتمع فيه العديد من العناصر المانحة والمشكلة للحياة الاجتماعية والدينية والنفسية والوطنية.
بين القصة والرواية
عندما تتحدث المجموعة القصصية عن أي فكرة، حدث، مكان، زمان، شخص، مجتمع واحد تمتع القارئ وتجعله يتماهى من النصوص، وتكون أقرب إلى الرواية منها إلى مجموعة قصة، في هذه المجموعة نقترب من عالم الراوية رغم عدم توافقها من شكل الرواية، لكن نجد روح السرد، وتعدد الأحداث، وتنوع الشخصيات والاحداث كلها مرتبطة بمكان واحد، هو القدس، فالطريقة التي استخدمتها "نزهة الرملاوي" بالحديث عن المكان تعتبر استثنائية، فهي تقدمنا من كافة الشرائح الاجتماعية التي تعيش في المدينة، تتناول الأطفال، المراهقين، الآباء والأمهات، الزوج والزوجة، الجد والجدة، الفقراء والأغنياء، الحاضرين والغائبين، المناضلين والاحتلال، كل هؤلاء نجدهم في القدس، وكأنها الأم التي ينتظرها الأبناء.، لهذا نجد كافة الشخصيات تربطهم علاقة حميمة بالقدس، الغني والفقير، والمرأة والرجل، الطفل والشيخ، فكل ما نريده في الرواية حاضر في المجموعة القصصية، تعدد الشخصيات، تعدد الرواة، المكان، الزمن المترامي، الأحداث المتنوعة، الصراع، لغة السرد، كل هذا حاضر في المجموعة.
دائما نقول أنه من الصعب تناول مجموعة قصصية كاملة، لأن ذاك يوجب على الكاتب أن يتحدث عن كل قصة على حدة، وعندما ستكتب عن خمس وعشرين قصة بالتأكيد سيكون ذلك بحاجة إلى جهد وطاقة ووقت كبير، في مجموعة "عشاق الدينية" تسهل علينا الكاتبة هذا الأمر من خلال وحدة المكان، الذي نجده حاضر في جميع القصص، كما أن العنوان "عشاق المدينة" نجده في بداية كل قصة، ثم اسم القصة ورقمها، وهذا يشير بطريقة ما إلى وحدة المجموعة القصصية وتكاملها، فعندما حدثتنا عن مرحلة المراهقة وكيف كانت تفرح بأعمال ذلك الفتى الذي يغازلها فتقول عنه في قصة "قمر يشاكس ظلي": "...أختبئ خلف القنطرة حتى لا يراني، وإذا به ينتظرني خلف القباب، أخجلني ذلك العاشق في سماء مدينتنا. أعاود الجري ويعاود من جديد، فتدوي ضحكاتنا لتملأ الساحات برسائل حب لا تنتهي، لم أكن أتوقع أن أنظر للقمر أثناء المشي والركض سيؤدي بي إلى الوقوع أرضا" ص34، واهم كل من يعتقد أن القدسية تكمن في كل ما هو جاد وصارم، فمثل هذا السلوك المراهق هو طبيعي وضروري، لأنه يؤكد على تنوع الحياة الاجتماعية في المدينة، فليس كل من هم فيه راشدين، فمنهم أطفال ومراهقين، والحديث عن هذه الشرائح يعطي حيوية ومتعة لنص الأدبي.
ونجد في قصة "عطر الماضي" هذا المشهد: " ...كيف كان يدنو من سور بيتنا ويختبئ خلفه.... وكف كان يعاود التقدم بين الحين والآخر، ليراني من خلف النافذة فيلوح لي بمنديله المبلل بالعرق صيفا، وبقبعته السوداء شتاء، وكلما داست أقدامه حينا، امتدت يده إلى الرود الجوري في بستان الجيران، في لحظة غفلة منهم، يقطفها، ويقذفها نحو نافذتي ضاحكا ويلوذ بالفرار" ص74،
في القصة السابقة استخدمت القاصة لغة الأنا في السرد، فهي من سرد لنا القصة وقدمتها لنا بطريقة جميلة وناعمة وبريئة، لكن كيف ستروها لنا عندما تكون من يقوم بهذا السلوك هي طالبة عندها، وهي المسؤولة عنها؟، تجيبنا في قصة "الحب المسموح": "إلا أن عيني امسكتها بها سريعا، فأفكاري ترافقها وتتحرك معها، فترشدني إليها إذا حاولت الإفلات من مجال رؤيتي" ص84، تحاول المعلمة أن تحد من سلوك الطالبة ولا تريد أن تمنعه بالمطلق، فهي مرشدة وليست سجانة، لهذا نجدها مشاعرها تتعاطف مع الطالبة: "أحسست أن قلبها ينبض في صدري وروحها تعانقي وتقلب في وجداني صورا كادت تموت، فدبت فيها الحياة من جديد، وراحت تتنفس" ص84، إذن المعلمة وجدت في سلوك الطالبة نفسها عندما كانت بمثل عمرها، فتعاطفت معها، لكن هل ستكتفي المعلمة بالتعاطف فقط، أم ستمنحها مزيدا من الحرية؟.
"سأسمح لمشاكستها الطفولية أن تلاعب نظراته من بعيد، وسأـسمح لوهج مراهقتها الصاعد دون استئذان أن ينير عتم ذكرياتي المغبر من زمن بعيد" ص85، دائما الحديث عن علاقة الحب يفرح المتلقي كما يفرح الكاتب/ة، لهذا سنجد القاصة تتألق في هذه القصة، فتربط ذاتها بالأحداث فهي جزء منها، وتجد في الطفلة المراهقة ما تفتقده الآن، وهي في سن الرشد، لهذا سنجد شيء من الأنانية في تعاملها مع الطالبة،: "ترى ما الذي يدفعني للمراقبة؟ أهي المسؤولية؟ أهو الانضباط والالتزام؟ أهو الخوف عليها من طريق تجهل معالمه؟ أهو الاشتياق الذي يقودنا إلى زمن بعيد من عمرنا إن أرد الدخول إلينا؟" ص85، الأجمل في هذه الأسئلة أنها تدفعنا للتفكير والتوقف عندها، فالقاصة لا تريد أن تبين لنا حقيقة مشاعرها بشكل مباشر وصريح تجاه ما يجري، لهذا ارتأت أن تطرح هذه الأسئلة، والتي منها يمكننا أن ندخل إلى حالة عقلها الباطن، خاصة إذا ما ربطنا هذه القصة بقصة "قمر يشاكس ظلي" التي جاءت على لسانها وهي طفلة مرهقة.
فما قامت به الطالبة أعاد المعلمة إلى ما قامت به، إلى ما تحب أن تقوم به الآن، رغم رشدها، من هنا نجدها تعبر عن هذا الحب لذاك الفعل الطفولي، المراهق في هذا الفعل: "احتضنت طفلتي بين ذراعي، وأخذت أراقصها كما أراقص الأخريات، على انغام تدغدغ فرخنا بالحب والشتاء، وأقطف من احمرار خديها وردة جورية، أحفظه في ذاكرتي، كلما قرأت سطورها في كتاب كنت قد خبأته في أدراج النسيان يوما ما" ص86، فنجدها تستخدم عبارة "الوردة الجورية" التي جاءت في قصة "عطر الماضي" وكأنها تغذي ذاكرتها بما تقوم به الطالبة الآن، وما يحسب لهذه القصة أنها تقدم مخرج من مأزق الطرح المباشر، وأيضا جمالية هذا المخرج، فالقاصة أخرجت أفكارها ومشاعرها بطريقة ذكية، فهي تحرر ذاتها من الرسمي والروتين، وتقدم لنا حقيقتها كمرأة، كأنثى بحاجة بشكل دائم إلى من يغذي أنوثتها بالحب، إن كان من خلال القول أو العمل.
لهذا نقول يمكننا التعامل مع هذه المجموعة كرواية وليس كقصص مستقلة عن بعضها البعض، فهناك ما هو مترابط ومتصل، والأحداث والمشاهد والشخصيات تلتقي في أكثر من قصة.
المجتمع الذكوري
دائما هناك دور للكاتب/ة يتمثل في كشف عيوب المجتمع، وهذا الكشف يأخذ عدة اشكال منها ما هو مباشر، يأتي من خلال أحداث القصص أو الروايات أو المسرحيات أو من خلال القصائد، "نزهة الرملاوي" تحدثنا عن أوجاع المرأة في مجتمع يسود فيه الذكور والافكار المتخلفة، فنجد في قصة " زقاق البوس" الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع المرأة، وهي من القصة المؤلمة والقاسية، لكنها تعرينا نحن مجتمع الذكور، وتفضح عيوبنا من خلال هذا المشهد: "استوقف الهدوء أنين صبية لم تتجاوز السادسة عشر من عمرها تبكي بحرقة، وزوجها الثمل يركل جسدها دون رحمة، بدأ صوتها يخرج ببطء، مع انها تدرك أننه من العيب إسماع الجيران القاطنين حول منزلها صوتها أو بكاءها، ويجب عليها ان تصبر وأن تكتم تلك الهموم الساكنة في داخلها، هذا ما لقنت به قبل الزفاف، وعلى الرغم من حرصها على كتم أنينها وصوت بكائها، فقد اخذ يعلو من الألم وانفجر مستغيثا، وكلما علا صوتها واشتد بكاءها ورجاءها، ازدادت الضربات واللكمات،" ص63، هذا واقع المرأة في المجتمع الذكوري، فالكاتبة تنحاز إلى المظلومين، وتقف ضد كل ما هو متخلف، وبالتأكيد ستقف إلى جانب المرأة لأنها امرأة، وتتعاطف معها، وهذا كانت واضح في قصة "زقاق البوس".
لكن هناك قصة أخرى تقدم فيها مجتمع الذكور القاسي والعنيف بطريقة غير مباشرة، ففي قصة "يا عيب الشوم" نجد الشخصيات الفاعلية من الذكور، صغار وكبار، تتحدث القصة عن الطفل "ماجد" الذي يسرق الخبز من الفرن، فيمسك به صاحب الفرن "أبو هاشم" والذي كان قد حلف يمين بأن "أن أمسكت بالسارق لأخلعن عنه ملابسه وأخرجه للملأ مضروبا على قفاه" ص59و60، وعندما يشاهد "أبو هاشم" يخلع حزامه ويعري الطفل "ماجد" السارق، تبدأ الأفكار السوداء بالانتشار وتأخذ المشاهدين إلى ما هو ابعد من الحدث، إلى أن يتم تحل الإشكال وتوضح الأمور للمختار ولأهل الحي.
إذا ما توقفنا عند هذه القصة الذكورية سنجد فيها قسوة، رجل يجلد طفل، حتى لوكان سارق، ويجلده وهو عارا، ونجد قسوة المجتمع الذكوري الذي أخذ يفكر بطريقة شيطانية، دون مراعاة مكانة وعمر "أبو هاشم" المعروف لهم، لهذا نقول أن الكاتبة، تنحاز للمرأة وتقف ضد الرجل/الذكر، حتى في عقلها الباطن.
الصور الأدبية
هناك مجموعة كبيرة من الصور الأدبية، من هذه الصور،: "نحن في زمن اصبحت فيه المشاعر كالصورة القديمة باهتة الألوان" ص32.
"فتحت الباب الكبير وخرجت من المنزل، يا لها من إشراقة شمس لوحت لي من خلف النافذة" ص39.
"لك الله يا أيام! على مقاعد الدراسة غفت جدائلي، وعلى أدراجها راحت يدي تخط ما أمرت به من واجبات وكتابات وألوان عبث بها طفولتي، فخبأتها من مارد النسيان، وتوجتها ملكة متحدية في عرش العلم والمعرفة" ص43.
"ظلت قدماي سائرتين بلا هدف، وبقى يتبعني كقمر خبأته غيوم الشتاء خلفها، حتى لا يستنير به أحد غيري" ص88و89.
الأب والأم
قلنا في موضع غير هذا أن الأب غالبا ما يقدم بصورة سلبية، صورة الأب القاسي العنيف، على النقيض من صورة الأم التي تأتي بالبهاء والحنان، وتقدم بصورة جميلة حانية.
"...حتى لا يستعدي والدي، ذلك المارد الأزرق، فيزلزل صراخه أرجاء المدرسة وجدران البيت العتيق، يتطاير رذاذ بصاقه أمام وجوه الواقفين، ولا أخفي عليك خوفي الشديد على أمي، ان تقع من صفعة قوية إن اختبأت خلفها" ص21،
"الأب ينطلق الشرر من عينه الحمراوين ويتوعد الزوجة بالطلاق إذا ما انتهك عرضه" ص50
"...أتخيل يد أبي تشدني غلى الخلف، وتقذف بي الأرض...ما زال صوت ابي يزمجر في الفضاء، فتزلزل الأرض تحت أقدام العابرين" ص89.
إذن الأب قاسي وعنيف، ولا يراعي الأنوثة أو الطفولة، وهذه الصور جاءت تؤكد على أن المجتمع الذكوري الذي قدمته "نزهة الرملاوي" هو مجتمع متخلف ويستحيل أن يقدما إلى الأمام قيد أنملة.
من هنا كان البديل في الأم، تلك التي تعطي دون أن تأخذ، التي تمنح الحنان والحب، فكانت في قصة "فناجين على صواني الذاكرة" الأم التي تحرص على اطفالها حتى وهم في المدرسة، تراقبهم، وعندما تتذكر بأنهم نسوا الشطائر في المنزل: تبدأ بالبحث عن طريقة توصلها لهم ، فتقذف بها من فول سطح المنزل، لكنها لا يصل، وتسقط في ساحة مهجورة للمدرسة، فتنادى على المعلمة لكي تخرج الشطائر، والتي بدورها تنادى على الآذن والذي يقوم بإحضارها من الساحة. وبعد أن يعيدها الآذن نجد الأم تواصل عملها من خلال هذه المشهد: "شكرت أمي المعلمة صاحبة القلب النبيل، لكنها لم تبرح سطح المنزل، حتى أخذت الشطائر من الآذن، لمحت أمي من بعيد تؤشر بيدها إلى فمها أن أتعجل بتناول الشطيرة" ص44. اشارة الكاتبة إلى فعل "شكرت أمي المعلمة" يأتي على أنها تحفظ الجميل وأنها شاكرة، كما أن الإشارة التي قامت بها لابنتها تأتي كدليل على أن الأمهات يقمن بعملهن كامل دون ان يتركن أي جزء منه.
التنوع والتعدد
طبيعة المجتمع المدني التعدد والتنوع، ومن تحرص "نزهة الرملاوي" على تقدم مدينتها بشكلها الحضاري، فنجدها عندما تتغنى بالمدينة تذكر صوت المآذن والأجراس، وعندما تريد أن تتحدث عن جمالها تأتي بذكر المساجد والكنائس، لكن الكاتبة لا تكتفي بهذا بل نجد في قصة "جياد على أدراج المدينة" تحدثنا عن طبيعة المجتمع في مدينة القدس، فالجميع منسجمين في علاقة اجتماعية مدنية واحدة لا يفرق بيتهم أي دين أو ملة، تحدثنا عن أم الولايا فتقول: "قررت أم الولايا أن تزور (أم جروج) أخت ماريا في حارة النصارى" ص101، وهذه اشارة إلى طبيعة المجتمع الفلسطيني الذي توحده الحياة الاجتماعية وتثريه وتقويه، بحيث لا يمكن لأي عابث بهذا المجتمع أن يدخل من باب الدين أو الطائفة ليخلخل اركان مدينة المدينة، ورغم قلة الحديث عن حياة التنوع والتعدد الاجتماعي في المدينة، تبقى الإشارات التي تكررت في الكثير من القصص حول المساجد والكنائس تكفي لتؤكد على هذا التعدد والتنوع الذي يمتاز به المجتمع الفلسطيني.
قبل النهاية أشير إلى أن مجموعة "عشاق المدينة" مجموعة مميزة، فاللغة وطريقة التقديم والأحداث والشخصيات كلها كانت قريبة منا، فنجد العديد من الأغاني الشعبية والألعاب التي مارسناها أيام زمان،"الغماية، الغميضة، عالي واطي، أنا النحلة أنا الدبور، نط الحبل، السبع حجار، الفنة، الطائرات الورقية، كلها هذا يقرب المجموعة منا أكثر ويجعلها حميمة إلى قلوبنا.
المجموعة منشورة عام 2017، القدس، فلسطين، الإخراج الفني والطباعة مؤسسة الناشر للدعاية والإعلان.