جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
سلاسة اللغة في ديوان
"حفيد الجن، سيرة شعرية"
راشد عيسى
جميل أن نجد من يحثنا عن مولده من خلال القصيدة، والأجمل أن تكون اللغة المستخدمة سلسة وناعمة، سنجد في هذا الديوان المتعة، وهي السمة الأهم والأبرز في أي عمل أدبي، وسنجد بعض المشاهد تأخذها إلى الواقعية والرمزية معا، كما سنجد الحياة الريفية بشكل واضح في الديوان، كما سنجد بعض القصائد الساخرة كما هو الحال في قصيدة "عرف الديك" وهناك قصيدة "جرس الكبش" التي يمكننا اسقاطها على رأس النظام الرسمي العربي، ونجد قصيدة الومضة في "تصبيع" ونجد استخدام كثيف للحيوانات كما هو الحال في قصيدة "المغارة"، والقصيدة الأجمل في الديوان كانت "الملتبس" والتي تتوحد فيها الكلمة مع الحرف مع المضمون فكانت قصيدة منسجمة تماما في شكل وطريقة تقديمها من جهة، وبين الألفاظ والحروف من جهة أخرى، كل هذا الجمال سنحاول تناوله لعلنا نفلح في تبيان جمالية ديوان "حفيد الجن، سيرة شعرية".
الرمزية والواقعية
يحدثنا الشاعر عن مولده فيعدنا إلى بداية وجوده في الحياة، يقول في قصيدة "حفيد الجن الأزرق":
"...
فوق ذراع جبلي يمتد
كنمر أسطوري
كان أبي يجمع حطبا
مع أمي الحبلى بي
صاحت أمي وهي تزم الحزمة
فوق الرأس:
جاء مخاضي
داء ... م .. خا.. ضي
رقص أبي
نتش الشبابة من جيب
القمباز وعزف "الدلعونا"
واتخذت أمي جذع الزيتونة
متكأ وابتهلت للرب بأن
يرزقها بولد
صاح أبي
...
حنطي اللون وكنعاني
السيماء
وشفافي كيسوع
يطلع نور من عينيه
ويغسلني
كم يشبهني!
يشبه دمعة وطني
...
صحاها ..مال علي
وقطع الحبل السري
بشبريته
قمطني بالكوفية
وبضحكة
وتلا في أذني الشعر
وموال عتابا
ضحكت أمي
ضحكت ...ضحكت حتى كاد
الجبل يهيل
فرك أبي حبة زيتون
تحت لساني
قلت له: لا تقلق..
لا تقلق
إني من نسل عميد الجن
الأزرق"ص7-10.
هناك العديد من الألفاظ الشعبية الفلسطينية كما هو الحال في "نتش، الشبرية؟، القمباز، الدلعونا، الكوفية" وإذا ما اصفنا إليها "جذع الزيتونة، وشفافي كيسوع" يتأكد لنا أن الشاعر يعمل بإصرار على توضيح فلسطينيته في القصيدة، فرغم خلو الديوان من ذكر المكان كما هو الحال عند الكتاب والأدباء الفلسطينيين، نجد "راشد عيسى" يستخدم ألفاظ فقط، لكنها تعطينا وتوصلنا إلى فكرة الفلسطينية التي أرادها الشاعر.
وإذا ما توقفنا عند "تقميط" الشاعر بالكوفية، بعد ولادته يمكنا أن نأخذها على أنها حدث واقعي، لأن الولادة تمت في الجبل ولم يكن هناك مجال للاستعانة بالقابلة أو الذهاب إلى المستشفي، كما يمكننا أن نأخذ عملية "التقميط" بصورة رمزية أيضا. وهذا الأمر ينطبق أيضا على الصوت الأول الذي سمعه المولود/الشاعر، فكان الشعر وموال عتابا، وهذا الفعل يمكننا أن نأخذه على أنه ناتج عن فرح الأب، فوجد نفسه يعبر عن فرحته بهذا الشكل، وكما يمكننا أن نأخذ الحدث عل أنه ومزي.
الأم
للأم حضورها ومكانتها، فما بالنا عندما يكون العمل الأدبي يتحدث عن سيرة!، يخصص الشاعر قصيدة "السرير" محدثنا عن أمه والأثر الذي تركته فيه، يقول:
" ...
عندما ولدتني رأيت
سريري ما بين نبعين
في صدرها
قلت هذي مرابع روحي
إذن
وهنا سوف أحيا
وسوف أموت ...هنا
أتعرف لغز الوطن
وهنا دمعتي المطمئنة
لكن أمي
بنت لي سريرا من الخيش
شد بحبلين بين غصنين
في تينة دائخة
...
كنت كم كنت أرجو لو أني
حبة كوسا
لتلمسني كف أمي ولو
دون قصد ولا جدل
من حنان
كنت كم كنت أغبط حب
البطاطا يكوم في حجر
أمي التي انشغلت عن سريري
لترضي أبي
وتداري الزمان"ص47-50.
الجميل في هذه القصدة بساطة التعبير عن الأمنية التي يريدها الشاعر، لكنها بالتأكيد توصل لنا طبيعة العلاقة الحميمة بينهما، كما أن "الكوسا والبطاطا" يعطينا صورة الأم التي تهتم بتغذية ابنائها، فهي تعتني بهم جسديا، وايضا روحيا من خلال:
"بنت لي سريرا من الخيش
شد بحبلين بين غصنين"
الارجوحة البسيطة منحت الطفل/الشاعر شعورا بالفرح، لهذا ما زال يتذكر هذه الارجوحة، ونجد انعكاس أثر الأم الايجابي على الشاعر في بداية القصيدة عندما رسم لنا مشهد في غاية الجمال:
"عندما ولدتني رأيت
سريري ما بين نبعين
في صدرها
قلت هذي مرابع روحي"
اعتقد أن هذه الصورة الناعمة والجميلة ما كانت لتكون دون وجود الأم، فهي التي منحت الشاعر هذا الإلهام ليرسم لنا هذه الصورة.
القصيدة الساخرة
التنوع في تقديم القصائد يجعل الديوان كباقة من الأزهار متعددة الألوان والرائحة، يحدثنا الشاعر عن الديك الأبيض، وهو يسمى عند الفلاحين "ديك دولة/دجاج دولة"، في بداية القصيدة يحدثنا الشاعر عن ديك "بلدي" أصيل يعرف كيف يقوم بواجبه تجاه الدجاجات:
".. وكان يطوف على عشر دجاجات
في البيت
وكثيرا ما زار دجاج الجيران" ص86،
لكن بعد أن يذبحه الجد للضيوف، يأتي بديك جديد:
في العالم الماضي
بتعنا ديكا أبيض من أحدث
مزرعة في العصر
نصحونا أن نطعمه علفا
غريبا
ففعلنا
وبمدة شهر
صار الديك سمينا كخروف
...
وشرينا عشر دجاجات
أطلقنا الديك لخدمتهن
ولما حاول أن يتزوج
إحداهن
خاب على الفور
فانتفضت أكبرهن
قفزت فوق الديك ولعبت عنه الدور" ص85-88.
دائما قصص الحيوانات تأخذنا إلى عالم بسيط وممتع، لكنه عميق، أليس هذا ما كان في كتاب "كليلة ودمنة"؟ فنجد الشاعر يحدثنا عن قصة بلغة بسيطة وممتع، لكن فكرتها عميقة تجعلنا نتوقف عندها، وبالتأكيد سنجد لها علاقة بما يجري في رأس النظام العربي الرسمي، فها نحن نرى كلما جاء (رئيس) جديد نجده أقزم وأتفه من سابقه.
القصيدة الرمزية
إذن الشاعر يستخدم الحيوان في ديوانه ليبعدنا قدر المستطاع عن واقع السياسة البغيض، فالحديث فيها مؤلم وموجع، خاصة لدول ولمجتمعات لم ترى في حياتها انتصارا أو انجازا واحدا يرفع من مكانة الأمة/الشعب، فكثرة الهزائم وتتابعها وتكرارها تصيبنا بالغثيان، فأصبحنا نتجه إلى أي شيء يحررنا/يبعدنا عما نحن فيه، "راشد عيسى" هو واحد من أفراد هذا المجتمع، لهذا نجده يتحدث عن واقع الحاكم/الرئيس في قصيدة "جرس الكبش" والتي يقول فيها:
" عجوز عليل
وشبه ضرير
ورجلاه معقوفتان
يسير ببطء ذليل
ورأس يكاد يمس التراب
وظهر نحيل
كوس الندم
عرفناه من جرس كان يوما
يدير المراعي
ويصغي
إليه المدى باهتمام
وحين يرن مع الصبح
ترنو إليه النعاج
وتسمعه باحترام
وكنا نراه على أول السرب
يخطو كقيصر
هو الآن خلف القطيع يحفزه
بالعصا
هو الآن يدفن قرنيه بين الحصى
لئلا يرى غيره حاملا للجرس" ص89و90.
يمكننا اسقاط هذه القصيدة على الواقع الرسمي والشعبي العربي، والجميل في هذه القصيدة أن الشاعر استخدم عبارات قصيرة وجعل من القصيدة قصة قصيرة، لهذا امتعنا أكثر من مرة، مرة باللغة السهلة، ومرة في السرد القصصي، ومرة بالفكرة التي طرحها، ومرة باستخدام الكبش والقطيع ليحررنا من الحديث عن السياسة والواقع البائس والهزيل الذي نعيشه.
قصيدة الومضة
تعدد اشكال القصائد له أثر جميل على المتلقي، في قصيدة "تضبيع" والتي تلتقى مع كلمة "تطبيع" تحذرنا بطريقة ناعمة وسلسة من "الضبع":
"1
لو حنى الضبع لي ظهره
لست أقفز عنه
ولا اركبه
2
لو رمى الضبع لي نابه
لست أطفئ ناري
ولست أقربه
3
لو يقص نخالبه الضبع لي
لا أسلم يوما عليه ولإن
لان لي مخلبه
4
لو سها الضبع لي
كي أغادر خوفي
سأفتح عيني جدا
لئلا يخالسني ذنبه" ص91و92.
قبل الدخول إلى هذا الومضات نتوقف قليلا عند القصائد الثلاث الأخيرة والتي جاءت تتحدث عن الحيوانات، فعندما يريد الشاعر أن يتناول موضوع سياسي نجده يستخدم الحيوانات، وهذا الاستخدام يخفف ويبعد المتلقي عن الطرح السياسي المباشر والذي يسبب له الكآبة والامتعاض، وهذا يعد ذكاء من الشاعر، الذي يحرص على مزاج القارئ ويهتم بمشاعره، فيقدم له واقع مؤلم لكن بشكل محبب وجميل، ويخدم الفكرة، وفي ذات يمتع القارئ بها رغم قسوتها.
كتابة الومضة من أصعب انواع الكتابة، فالشاعر يختزل ويكثف افكاره بها، والملفت للنظر في هذه الومضات أن هذه الومضات تحمل عين الفكرة التي جاءت في قصيدة "لا تصالح" ل"أمل دنقل" لكن ما يحسب "لراشد عيسى" أنه قدم عين الفكرة لكن بطريقة ناعمة وسلسة، فلا نجد فيها الصوت العالي، وهو لا يخاطب القارئ مباشرة، بل يحدث نفسه، وهذا ما جعلها أكثر سلاسة ونعومة.
القصيدة الأجمل
في قصيدة "الملتبس" تتوحد الكلمة مع الحرف من الفكرة:
"كل الضوء من غير روحي
فاهي
يتعدى
ولا يثير انتباهي
مكتف بي
أحاول الوهم وحدي
طالع شرقي دمعتي
وانشداهي
ليس سهوا أصد
دنياي عني
إنما للنور طبع
التساهي
أتقهوى دمي
على أي جرح
وأغني بين الجراح
المقاهي
أنا والوهم خدعتان
اتحدنا
ولبسنا معا قميص التماهي" ص65و66، حرف الهاء يخدم فكرة الألم، كما يخدم فكرة التيه/اليأس، فهنا يستخدمه الشاعر بالمضمون الثاني، فنجده الشاعر يعبر عن يأسه من خلال "فاهي، انتباهي، الوهم، انشداهي، سهوا، التساهي، اتقهوى، المقاهي، التماهي" كل هذه الكلمات إذا ما ربطناها بالفقرة التي جاءت بها، نجد هناك حالة من اليأس والتيه عند الشاعر، وإذا ما ربطنا المقاطع القصيرة والتي تعبر حن حالة "التعب/القرف التي يستخدمها بحالة اليأس، يتأكد لنا أن هناك انسجام وتوحد بين الكلمة والمعنى والشكل الذي قدمت فيه القصيدة.
الديوان من منشورات مكتبة الأسرة الأردنية، وزارة الثقافة، عمان الأردن، سنة الطباعة 101
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية