جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الزمن الجميل في رواية
"ما تترك الأيام"
ماجد ذيب غنما
من الجميل أن يكون للأب مكانة في التاريخ المعاصر، خاصة ذلك التاريخ الذي وصل فيه العرب إلى شيء من طموحهم، فزمن عبد الناصر كان الزمن الأمثل لنا في القرن الماضي، وهو الظاهرة الأجمل والأنقى التي عاشها العرب، إن كان على مستوى النظام الرسمي أم على مستوى المواطن العادي، في هذا الرواية سنجد شيء مما فقدناه الآن في زمن (دولة النظام/العائلة) فالراوي يحدثنا عن الحياة البسيطة التي عاشتها سورية في زمن الوحدة، وكيف كان ينظر الناس إليها وإلى عبد الناصر، وفي المقابل يحدثنا عن الأردن وما كان فيه، فالأحكام العرفية وما يتبعها من إجراءات، كان يمثل مفارقة كبيرة بين الحالتين، والجميل في الرواية أنها تقدم لنا المجتمع المدني المتعدد والمتنوع بعيدا عن التعصب الديني أو الطائفي، وإذا ما أخذنا العلاقة الطبيعية بين الرجل والمرأة وتناولها بصورة جميلة، يتأكد لنا أهمية هذه الرواية، ونضيف إلى كل هذا الأمثال الشعبية والثقافة الدينية إن كانت مسيحية أم إسلامية، والرواية تذكرينا بالعديد من الكتب والكتاب، والتي جاءت بلغة بسيطة وسلسة وبأسلوب شيقة متناسق، كل هذا يجعلنا نقول أننا أمام رواية عادية، لكنها جميلة وممتعة، وتقدم لنا شيء مما نفتقده اليوم، الحديث عن طموحنا في الوحدة وتحرير فلسطين، ووجود قائد حقيقية ينهض بالأمة ويرفع مكانتها أمام الأمم الأخرى. هذا ما يميز رواية " ما تترك الأيام".
المكان
العربي دائما يتأثر بالمكان، خاصة إذا كان هذا التأثر إيجابي، مثل فترة الدراسة والتي تعد من أهم مراحل تكوين أفكار الإنسان على كافة المستويات، يحدث " العم سالم" "خالدا" عن دمشق فيقول: "كل ما تتمناه تجده هنا... طبيعة رائعة وهدوء شاعري، غوطة فيحاء... أن باستطاعتي في هذا المكان الرائع، أن أبدأ في كتابة مذكراتي التي طال عليها الأمد.. وجمع قصائدي واشعاري" ص15و16، بهذه الهدوء والطبيعية كانت دمشق، فيجد فيها الإنسان عالمه الهادئ، فنجدها مكان يصلح للسكن، للحياة السوية، فالطبيعية لها أثرها في توفير سبل الراحة للإنسان، ونجد الإنسان هنا يمارس دور حضاري ثقافي من خلال كتابة المذكرات والقصائد، فالطبيعة والإنسان ينسجمان معا، الأولى تعطيه اسباب التألق والثاني يستفيد من الامكانيات التي تمنحها الطبيعة فيبدع ادبيا.
إذا كانت تلك كلمات "العم سالم" عن دمشق، فكيف يتناولها الراوي": "في كل صباح من صباحات دمشق، التي تستحم فيها أشعة الشمس بعطر الياسمين وفوح الورود، وتمتلئ الشوارع والأزقة بنداءات الباعة المتجولين" ص17، صورة أخرى عن حيوية نشاط دمشق، فهي مدينة نشطة ويبدأ أهلها في لعمل منذ شروق الشمس، كناية على النشاط والحيوية التي يتمتع بها الشاميون.
الزمن
الراوي يتناول الزمن من خلال حديثه عن الوحدة السورية المصرية التي كان في عام 1958، "ـ لدي الكثير .. فالناس في دمشق لا شغل لهم سوى الحديث عن الوحدة القادمة وعن القائد العربي الأسمر جمال .. وعن العدو الإسرائيلي.
ـ وهناك أمر آخر أكثر خطورة .. هو أن سورية بلد ديمقراطي وبه أحزاب تاريخية. في حين أن النظام الجديد في مصر ليس ديمقراطيا بالمعنى المعروف، كما ان الاحزاب هناك حلت نفسها مكره غير مختارة، ولعل ذلك إذا انجزت الوحدة سيطبق على الاحزاب في سورية.
ـ الوحدة لا يمكن إلا أن تكون خير وبركة" ص 34و35، وهذا زمن احداث الرواية، وهكذا تم تداول الوحدة بين الناس، فرغم أن الحدث عظيم ومهم إلا أن الناس تناولوه بأكثر من جانب، وهذا ينم عل الثقافة التي يتمتع بها السوريين، وهنا يشير الراوي ـ بطريقة غير مباشرة ـ إلى التعدد الحزبي الذي كانت تنعم به سورية.
كل هذا الحوارات كانت قبل الوحدة، لكن بعد أن تمت كان الناس بهذه المشاعر:
"وفجأة اعلنت الوحدة بين القطرين الجنوبي والشمالي، ووصل الرئيس جمال عبد الناصر إلى دمشق .. العاصمة الشمالية للجمهورية العربية المتحدة.. وبدأت دمشق الفيحاء تشهد احتفالات ومهرجانات قومية عارمة.. وتستقبل الوفود الشعبية والرسمية القادمة من داخل القطر السوري ومن لبنان سائر الاقطار العربية ... لرؤية عبد الناصر .. حبيب الشعب .. حبيب الملايين، وللتهنئة بالوحدة والاشتراك في احتفالاتها واعيادها.
ـ هل نحن في حلم! وهل صحيح أن الوحدة قد تحققت، وأن عبد الناصر معنا هنا في دمشق العروبة؟
ـ ليس حلما بل حقيقة.. أدع معي أن يحمي الله هذا القائد العربي ويحمي الوحدة ويحقق كل الآمال" ص56و57، الراوي لا يكتفي بأن حدثنا عن تلك الاجواء التي واكبت الوحدة، بل جعل شخصيات الرواية تبدي مشاعرها وردة فعلها على حدث الوحدة، وهذا ما يؤكد على أن الوحدة كانت من أهم الانجازات التي حقيقها العرب في القرن الماضي، ولم تكن إلا تعبير حقيقي وواقعي عن مشاعر وطموح وأهداف العرب القومية الاجتماعية والاقتصادية، وكأن الراوي بهذا التناول يرد على الجهات التي تعمل جاهدة على تشويه شخصية عبد الناصر وتقليل من انجازاته إن كانت على الصعيد الوطني المصري أم على الصعيد القومي العربي، فهذه الشخصية كانت الأهم والأقوى والأكثر إخلاصا بعطائها وتفانيها في تحقيق المصالح العربية.
واقع التجزئة
بعد أن ينهي "خالد" دراسته في دمشق، يعود إلى قريته في الأردن، وهو الذي عاش اجواء الوحدة وعرف ماذا تعني الوحدة العربية، نجده يبدي امتعاضه من أول ما وصل الحدود: "وتصل السيارة وخالد غارق في ذكرياته، إلى درعا ثم تجاوز حدود سايكس بيكو التي تحولت إلى حدود عربية عربية مقدسة" ص87، هذه المفارقة توضح الفرق بين الحالتين، حالة الوحدة وحالة القطرية، وإذا ما توقفنا عند حديث الراوي عن المكان الذي يقصده "خالد" فإنه يتجنب تسميته، ويكتفي بذكر "قريته" ولم يسميها بالاسم، واعتقد ان هذا يعود إلى أن الراوي في العقل الباطن، يحن لدمشق وللحياة الهانئة التي عاشها فيها، بينما نجد حالته في "قريته" بهذا الشكل:
"وصل خالد إلى القرية، وإذا البلد تعج بالأحداث واجواء الأحكام العرفية تثير الرعب وتنذر بأشد الأخطار، والسجون والمعتقلات مشرعة أبوابها لاستقبال الشباب الحزبي والعقائدي من شيوعيين وقوميين وبعثيين وسواهم" ص88، هذا التباين من الحالتين، حالة دمشق وحالة "القرية" هو الذي جعل الراوي يستخدم " لفظ القرية" وكأنه به أراد أن نفي صفة المدينة عنها، لأنها ما زالت تعيش في أجواء القمع والاحكام العرفية، وبما أن التعدد والتنوع الفكري والعقائدي هو أهم سمة في الحياة المدنية العصرية، أرادنا أن نصل إلى أن "القرية" لا يمكنها أن تمنحنا تلك الأجواء المدنية والعصرية.
هذا الواقع البائس عبر عنه المحامي "فرح" بقوله: " ما هذا الجنون .. ما جدوى الاعتقالات .. هل يظنون أن باستطاعتهم اعتقال الفكر أو حبس الرأي.. وهل يعقل أن نسمع في كل يوم بمعتقل جديد وسجن آخر.. أهذا هو الحل لمشاكلنا!؟" ص101، إضافة صوت آخر محتج على ما يجري في "القرية" يؤكد على الامتعاض العام للأحكام العرفية.
التعدد والتنوع
الأهم في هذه الراوي أنها تطرح حالة التنوع والتعدد الديني والحزبي، فهي تؤكد على أن المجتمع المدنية يتغذى على هذين الأمرين، تعدد ديني وحزبي، ولا يمكن أن يكون هناك مجتمع مدني دونهما، والجميل في الرواية أنها قدمت هذا التعدد بشكل جديد، بشكل مدهش، فبعد أن قام "مشيل" شقيق "إبراهيم" بالاعتداء على "العم سالم" نجد هذا الموقف من "خالد" بعد ان عرف حالة "مشيل" الصحية: " ـ من يتعرف إلى الأستاذ إبراهيم يغفر لمشيل ما تقدم وما تأخر من ذنبه ومن جنونه" ص55، فهنا يستخدم "خالد" المسيحي" آيات من القرآن الكريم كتأكيد على الوحدة الثقافية التي يعيشها المجتمع، فرغم أنه مسيحي إلا أن الثقافة الإسلامية حاضرة ومثرة فيه.
ونجد هذه الثقافة من الراوي نفسه، عندما تحدث عن الحوار الذي تم بين "زياد ومحاوره": " أحب خالد هذين الزميلين وغفر لهما ما تقدم ما تأخر من ذنوبهما.. ولعه كان يرى بأن لكل منهما عذره فيما يفعل" ص105، رغم أن هذا الاستخدام يشير إلى أن هناك (هيمنة) من الراوي على لغة شخصياته، إلا أنه تشير إلى ضرورة وجود ثقافة التعدد والتنوع، وهذا ما يجعلنا "نغفر" للراوي هذه (الهيمنة).
ونجد الثقافة القرآنية حاضرة عندما تحدث الراوي عن العم سالم": "وصلت إلى الشيخ خليف رسالة قصيرة من اخيه سالم يقول فيها إنه وقد تقدم في السن وبلغ من العمر عتيا، آن ه أن يعود إلى القرية لينضم حين يجيء أجله إلى ابائه واجداده" ص132، فعبارة "بلغ من العمر عتيا" جاءت في القرآن الكريم، وهي متعلق بالنبي "زكريا" الذي يتشارك بنبوته المسيحيون والمسلمون معا، وكأن الراوي بهذا الاستخدام جمع بين الديانتين معا، فهما متوافقتين على العديد من القضايا، وهذا أحد أهم الأسباب التي تجعلنا نقول بأهمية هذه الرواية، خاصة في زمن التكفير والتخوين الذي نعشيه الآن.
ونجد الثقافة المسيحة من خلال المحامي "جميل" الذي يحاور زميله "انور" حول الخمر: " ما هذا يا استاذ جميل أتشرب الخمر حتى في الصباح؟
ـ يا اخي انور .. اليوم خمر وغدا أمر.
ولكنه ستمثل بعد قليل أمام أحد القضاة، أو حتى أمام رئيس المحكمة، ولن يرضى أي منهما بحالك ؟. ثم أن الخمر ضارة بصحتك أشد الضرر.
ـ لا تصدق .. فكأس من الخمر صباحا أو مساء يفرح قلب الإنسان .. وأنا كما ترى من اتباع عيس بن مريم صاحب هذا القول" ص103، الجميل في هذا الحوار أنه ينم على سعة الصدر التي كانت سائدة في المجتمع، فلا نجد الغضب أو القسوة في التعامل مع مظاهر يعتبرها البعض غير مقبلة مهنيا أو صحيا أو دينيا.
ونجد الثقافة الدينة والحزبية تجتمع معا في الحوار الذي تم بيم "أم خالد والشيخ خليف": " ـ أن الله هو أبو الجميع، فكلنا عيال الله.. والرزق رزق الله.. فلماذا يةجد الفقر ويوجد الفقراء، ولأي سبب يحرمون من السعادة والحياة الكريمة
ـ لم أكن أعلم أنك شيوعية متخفية، ولو سمع بك لينين لمنحك أرفع وسام سوفييتي .. فهو لم يقل عن العمال أكثر مما تقولين.
....
ـ وعلى أي حال فأنا لم أسمع بلينين .. وما أعرف عن الشيوعية قليل جدا .. ولكني أذكر قول المسيح (أنه لأسهل أن يدخل الجمل في قلب ابرة، من أن يدخل الغني ملكوت السموات" ص94، بهذا الحوار يتبين لنا أن مجتمعنا كان منفتح ومتعدد الثقافات، فلم يكن اهناك لا تكفير ولا تخوين، بل حوار ونقاش عقلي، يؤكد على أن المجتمع كان ينعم بالسلام الفكري والعقائدي قبل أن ينتشر الفكر العقيم الذي أرجعنا إلى عصور القبيلة والعشيرة.
وعندما كان يتم مناقشة طبيعة الاحزاب: "ـ هل لي أن أسألك عن الحزب الذي تنتمي إليه.
ـ أه حركة .. وليس حزبا
ـ وما الفرق بينهما
ـ الفرق يسير ولعل المؤسسين اختاروا كلمة حركة لأنها توحي بالتجديد والنشاط
ـ وما هو شاعر حركتم
ـ وحدة، تحرير، ثأر
ـ شعاركم لا يختلف كثيرا عن شعارات حزب البعث
ـ لا فرق بيننا فنحن جناحا نسر عربي واحد" ص115، تركيز الراوي على الحوارات والنقاش في الراوي يشير إلى دعوته إلى ضرورة التحلي بهذا الفعل الحضاري العصري، فهو يريدنا أن نقتضي بتلك الشخصيات التي جعلت من الحوار وسيلتها الوحيدة في التعاطي ع الأفكار والأشخاص الآخرين؟؟، ولم تمارس القمع أو المنع على الآخرين، مهما كانت التباينات بينهما.
الأمثال
يستخدم الراوي العديد من الأمثال، فالعديد من الشخصيات نجدها تستخدم الأمثال، أو من هو في مقام الأمثال،: "غيروا العتبات ترزقون" ص46، كلام جاء على لسان "العم سالم"
"الجار قبل الدار" ص50، قول "أم عرفات".
"لقد كنت من قبل قائا لا يشق له غبار" ص53، قول "لإبراهيم".
"وكأن على رؤوسهم الطير" ص83، جاءت على لسان الراوي.
"وأنا كما قال الشاعر العربي .. طبيب يداوي الاس وهو عليل" ص98، بيت جاء في رسالة "مي".
"يا ظلام السجن خيم أننا نهوى الظلاما" ص102، بيت شعر جاء على لسان المحامي "فرح"
"الزوج ليس شرا لا بد منه" ص123، كلام جاء على لسان ابن "عم خالد"
وهذا ما جعل الراوية قريبة من المتلقي، حيث يجد فيها شخصيات تتحدث بلغته وبثقافته.
الرواية صادرة في عمان، الأردن، عام 2000، دون اسم دار نشر.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية