في السّنوات الأخيرة و في أيّامها الأخيرة تحديدا، كثُر الموتُ..اطّردت أخبارُه على شاكلة متسارعة حتّى كدت أرفض قبول هذا الذّعر اليوميّ.. في مثل هذه الأوضاع من كثافة حضور العدم، يصبح الأحياء الذين هم مثلي في الطّباع و طريقة الإحساس بالأشياء، إزاء حاليْن: حالة التعوّد إلى درجة فقدان ردّ الفعل الشّعوريّ، وهي حالة من برود العالم تُصيب الباطن حتّى أخال أحيانا أنّ موضع قلبي أجوف، أو أنّ فحمة أطاحت بالقلب و استقرّت مكانه.. و حالة من ذعر لاهب تليها الأسئلة العمياء، ثمّ ينشأ على إثرها ذهول حزين. و هذه الحالة ليست مجانيّة كما يُعتَقَد.. بل هي حالة من وعيٍ شرسٍ يوشكُ على الكفْر ثمّ ينكسرُ أوارُها، ثمّ يستأنفُ الوعيُ تمزّقه بين نار الكفْرِ الصّاعدة و ماء الإيمان التّسليميّ.. في الأيّام الأخيرة، بعد موت كثير من الوجوه التي ترافقنا في الضّيافة الأرضيّة العابرة، وقعتُ في شرَكِ الحالة الثّانية. صرتُ أسيرَ اللّهب و الذّعر، يقودني العمى و اليقين، ينوب كلاهما الآخرَ على نحو تبادليّ سريع، أكاد أثناءه أخسر القدرة على استعادة الأنفاس.. زرتُ المقبرة في يوم دفْن صديقي. و صرتُ بعد ذلك أزورها بانتظام تقريبا، لأنّ الموت آخذٌ في الحُدوث التّراكميّ.. لا يفوتني أن أخبركم أنّني أكره المقبرة و المدافن، و ليس ذلك لأنّها تحتضن الموتى و تترجم عمليّة النّسيان بأشدّ ما تكون تلك العمليّة. أكره المقبرة بوصفها مكانا واقعيّا.. و قد أضحيتُ أكره الواقعيّة وكلَّ مَن و ما دلّ عليها.. المقبرة تجمع هذيْن الضدّين معا: النّسيان و الواقعيّة.. هذا الجمع بحدّ ذاته بذيء، فبما تحيل عليه من نسيان، تلغي المقبرة الوجود، تدفنُ ذبذبات الكون السّابق. إنّها تنسفُ جماليّات ما كان، وتهدم التّاريخ البشريّ في طرفة عيْن.. في لحظة الطيِّ تُطوى خُضرةُ العالم، حيث يصفرّ النّشيد الكونيّ، وتتكسّر أنظمة الموسيقى، فتغور الأنهار، يخنُسُ نور الكواكب منخرطا في ظلمته القريبة، و تتفتّت علامات العظمة: من جبال منتخية في سموقها، و بحار مستلقية في صخب جلالها و سكينة لذّتها، من عواصف يخورُ فيها صوتُ تشظّيات السّماء..من.. و منْ..و مِن...... كلّ علاماتِ عظمة الإنسانيّة، كلّ تلك الأكوان الّصغرى ضمن منظومة الكون الأكبر، تتلاشى. تنسربُ - و تراها و هي تفعل- في عجالة داخل حفرة ضيّقة. في لحظة واحدة تندفنُ في قاع النّسيان ! ياللدّهشة ! ياللعظمة الخفيّة الظّاهرة! ياللضّآلة العميقة الفجّة ! و المقبرة بما تمثّله مشهد إطباق كونيّ تحثّك على الواقعيّة. و لا تنفصل الواقعيّة على الاعتبار. و لا ينفصل الاعتبار أحيانا عن الشّعور بالعبث الكونيّ نفسه: الاعتبار هو شكل من أشكال التّسليم بالنّسيان، بالموت، باللاّشيء.. الواقعيّة تدعوك ،حين تكون في المقبرة ،في مواجهة قبور البشر الذين عرفتَهم في فترةِ ماضيك، إلى الاعتبار في الموت المبكّر:
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
نشرت فى 29 إبريل 2018
بواسطة magaltastar
مجلة عشتار الإلكترونية
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »
ابحث
تسجيل الدخول
عدد زيارات الموقع
580,508