جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
التنوع والتعدد الأدبي في مجموعة
"مسا ... فات"
سمير الشريف
للعصر اثره على الكاتب، فنحن في زمن النت والسرعة والقارئ الذي يريد الفكرة مختزلة ومكثفة، لكن هذا النوع من الكتابة لا يقدر عليه أي كاتب، فهو بحاجة إلى مجهود كبير وقدرات خاصة على الصياغة الأدبية، ويحتاج إلى أشكال أدبية متنوعة حتى يجد القارئ الفكرة بأكثر من شكل أدبي، كما أن اللغة والألفاظ لها مكانتها ودورها في جذب القارئ لهذا النوع من الأدب.
من الجميل أن يكون للكاتب بصمة تميزه عن الآخرين، "سمير الشريف" من الذين يكتبون قصة الومضة، وهذا النوع من القصص يحتاج إلى قدرات استثنائية، واستطيع القول أنه أصبح هذا النوع من القصص ميزة تحسب للقاص "سمير الشريف" الذي يتقن هذا النوع من الكتابة، وأعتقد أنه في هذا المجموعة قدم ما هو جديد من خلال تعدد الأشكال الأدبية للقصص، فمنها ما جاء بشكل رمزي، وآخر بشكل واقعي، وبعضها قُدم بصورة الفانتازيا، وهناك بعض القصص الساخرة، ومنها ما جاء بأكثر من مدرسة أدبية، ولا يكتفي القاص بهذا فنجده أحيانا يقدم أفكارا بحاجة إلى وقفة وتفكير، وهنا قصص تقدم أسئلة أو جاءت بصيغة سؤال، وإذا ما أضفنا إلى كل هذا وجود صورة قصصية، أو قصص جاءت بشكل صور أدبية، نكون أمام كاتب يستحق أن نتوقف عند ما يقدمه من قصص، فالملفت للنظر ليس الأفكار فحسب ـ بل الشكل الأدبي والطريقة التي قدمت بها القصص أيضا، فهنا يتوحد الجمال والتنوع الأدبي مع المضمون، وهذا التكامل بين الشكل والمضمون يجعلنا نقول أن "سمير الشريف" أبدع وتألق في مجموعة "مسا ...فات".
عناوين المجموعة كافة جاءت بكلمة واحدة: "هروب، مرايا، اندفاع، صراخ، تمرد، غروب" ـ إذا ما استثنينا قصة "ابن كلب" وهذا يتناسب وطبيعة قصة الومضة، فالاختزال في العنوان يخدم القصة وهو كافا ليعطي القارئ اشارة عن طبيعة شكل هذه المجموعة، كما العناوين جاءت بين الفعل والاسم والحرف.
الفانتازيا
سنحاول هنا تقديم بعض النماذج من الأشكال الأدبية التي استخدمها "سمير الشريف" في مجموعته القصصية "مسا ...فات"، ننوه إلى أن هذا النوع من الأدب يمثل ذروة اغتراب الكاتب عن واقعه، كما في ذات الوقت أنه يشير إلى تمرد الكاتب على هذا والواقع، فالأفكار هنا تتجاوز العقل والمنطق، يقول في قصة "مواجهة":
"مررتُ بي لحظة، قلت لي: كيفك يا أنا؟
تطلع بي مستغربا ثم تركني ومضى" ص 13، حالة الاغتراب نجدها في الألفاظ التي استخدمها القاص: "مستغربا، تركني، ومضى" وهذه اشارة إلى الوحدة التي يمر بها القاص، وهذا الانسجام بيم فكرة الاغتراب وبين الألفاظ المستخدمة وبين شكل الفانتازيا الذي جاءت به القصة يجعلنا نتأكد أن القاص لا يكتب لقصة بل هي من تُكتبه، وهذا التوحد بين الحالة الكتابة والقاص والشكل الأدبي تؤكد إلى أن الكاتب يكتب بطريقة ناضجة ومن داخله، من عقله الباطن وليس من الخارج فحسب، وهذا ما يجعل القصص تأخذ مكانتها ووقعها في القارئ.
جاء في قصة "اختناق":
"عندما قفز النمر من اللوحة التي يضع الفنان رتوشها. لم يحرك الرسام ساكنا غير أنه أحس بخيط ساخن ينساب تحته بهدوء" ص14، هناك فعل التمرد "قفز" لكنه ليس فعل تمرد عقلي، بل فعل مجنون/أعلى وأبعد من العقل، النمر يقفز من اللوحة.
في قصة "رفض" يقدم:
"المرأة التي أكتبها لم يعجبها حال النص المائل، تمردت، صرخت، وقفت محملقة بعيون تنفث غضبا، سمعت الكثير من تقريعها قبل أن تنسل من بين الحروف وتمسك بالقلم وتكتب نهاية تليق بها" ص21، اعتقد عندما تتمرد اللوحة على الفنان وعندما تتمرد الشخصية على كاتبها فهذا يشير إلى ذروة وقع الحال على الكاتب، لهذا نجده يؤنسن الصورة والمكتوبة، بحيث يعطيها افعال إنسانية، وكأنها بها يقدمنا من ضرورة أن نتجاوز (المتخيلات) التي تتمرد على صانعها/موجدها، فالأولى أن نتمرد نحن الذي نشعر ونحس، لا تلك التي لا تشعر ولا تحس، والجميل في هذه القصة أن أفعال التمرد جاءت كثيرة: "لم يعجبها، تمردت، صرخت، وقفت، تنفث غضبا، تنسل، تكتب" وهذا ما يجعلنا نتأكد انحياز الكاتب للمرأة، لهذا نجد افعال التمرد كثيرة، وكأنه بها يعكس حجم الظلم الواقع عليها، فكان لا بد من وجود أفعال تتناسب وحجم الظلم الواقع.
في قصة "هوس" يقول:
"جن الكاتب الذي أضاع فكرته، ارتبك، عبس في وجوه من حوله، وما درى أنها هربت حتى لا يسجنها في نصه الجديد" ص38، أيضا نجد فعل التمرد/الرفض في هذه القصة، فهناك افعال: "أرتبك، عبس، هربت" والفكرة المطروحة أيضا جاءت متجاوزة العقل، فهنا الحديث يدور عن فكرة وليس عن إنسان، ومع هذا نجده تتمرد على صاحبها، على من أوجدها، أليس الأحرى أن نتمرد نحن أيضا على من يظلمنا ويضطهدنا؟.
في قصة "تمثال":
"التمثال الذي دبت فيه الحياة، كان مختلفا، صرخ/ مد أصابعه مقتلعا شعر رأسه، محتجا على الفيتو الأخير" ص66، فعال التمرد: "دبت، مقتلعا، محتجا" وأيضا القاص يجعل من (المتخيل/المصنوع/الموجود إنسانيا) يقدم على فعل التمرد، وكأنه بهذا المتمردات يستحثنا على أن نقدم نحن أيضا على فعل التمرد/الثورة.
في قصة "بُقع":
"المانيكان التي سئمت نظرات الرجال والوقوف أمام الواجهة الزجاجية وتجذر فيها إحساس أن قطار الزواج غادر محطتها، هجمت على عامل النظافة بقوة ولم يستطيع الزبون ولا صاحب المحل تخليصه إلا بعد أت تكرت على جسده بقعا زرقاء وعويل صراخ يملأ المكان" ص83، "مجسم العرض يتمرد على واقعه، أليس أولى أن يتمرد الأحياء على واقعهم؟، فهي "سئمت، وهجمت" وفعل ما لا يفعله الأحياء، فإلى متى يبقى الأحياء ساكنين؟.
الرمز
الرمز له وقعه على القارئ كما هو الحال بالنسبة للأشكال الأدبية الأخرى، وهو شكل أدبي يحاول فيه الكاتب أن يُبعد القارئ قليلا عن المباشرة حتى يعطيه مساحة للتفكير والوقوف عند النص الأدبي، جاء في قصة "تحذير":
"لعقت البقرة وجه وليدها بحنو هامسة...
: لا تنخدع بعنايتهم الزائدة فحليبي ولحمك هدفهم المنظور" ص 25، العقل العربي متعلق بقصص الحيوان فهناك كتاب "كلية ودمنة" الذي يعد جزءا من التراث الثقافي العربي، "سمير الشريف" في هذه القصة حاول أن يقدمنا من جديد إلى ما في ذلك الكتاب من حكم.
يقول في قصة "ارتباط":
"لا تبتعدي عزيزتي إحساس جارف بالفراغ يحتويني بعيدا عنك..
همس فنجان القهوة وهو يزحف نحو الدلة التي تعبق برائحة الهيل" ص45، من الجميل أن يقدم لنا علاقة حب بهذا الشكل الجديد والبعيد عن المباشرة، وما يحسب للقاص أنه استخدم المذكر "فنجان" والمؤنث "دلة" والتألق جاء عندما جعل "الفنجان" يأخذ قيمته هو ملآن من الدلة المؤنثة، والتي هي تعطيه القيمة والأهمية. فبدون الأنثى" لا قيمة له للذكر، هذا ما أراد أن يوصلنا إليه "سمير الشريف".
قصة "تطور":
"الطريق الزراعي الذي ظل محطة للعاشقين. أصابه الاكتئاب عندما توسعت حدود البلدية وصار نفقا لا يتوقف عنده حتى العابرون" ص65، يركز القاص على استخدام الرمز عندما يريد أن يتحدث عن العشق والحب، وكأنه يريدنا أن نتوقف عند هذا الفعل الإنساني الذي نفتقده في هذا الزمن، في هذا العصر، فعل عصر السرعة والنت حد وقلل من أهمية فعل الحب ودوره في الحياة الإنسانية؟ فأراد القاص أن يقدمنا من أهمية هذا الفعل من خلال استخدام الرمز؟.
الواقع
هناك بعض القصص جاءت بصورة واقعية، لكن الاختزال والتكثيف اعطاها سلاسة وانسيابية، بحيث جاء خفيفة الظل على القارئ، من هذا القصص قصة "لعب":
"زحف بكرسيه داخل المقهى المعتم يكركر ماء شيشته متهيئا للعبة جديدة...
ـ رتب جنودك يا صديقي. لكنا أحجارا على رقعة شطرنج" ص46، الفعل والكلام والحدث كلها واقعية لكن الطريق والفكرة التي جاء بها جعلتها جميلة وذات أثر على القارئ.
قصة "مكافأة":
أنهت اللجنة تقريرها بعد ضبط مخالفات المصنع. تنهد الجميع ارتياحا لإنجاز المهمة، انتظروا كتاب الشكر، صباح اليوم التالي جحظت عيونهم وهم يتسلمون أوراق الاستغناء عن خدماتهن" ص47، تناول واقع الفساد بطريقة مختزلة ومكثفة وبعيدا عن السرد والحشو يجلعا قصة خفيفة الظل رغم السواد الذي تحمله.
قصة "قهر":
"ندت من فم الطفل صرخة مكتومة، ووالده يضغط بكفة الكبير على يده الطرية، يجره من أمام المحل الذي تتزين واجهته بالألعاب دون أن ينتبه الطفل للدمعة التي انطلقت من عيني الأب محاولا إخفاءها" ص64، يتعمد "سمير الشريف" ظان يتحدث عن الواقع بطريقة واقعية، بمعنى أنه يستخدم الهموم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للمواطن بواقعية، لكنه الطريقة الذي قدمت بها سلسة وخفيفة، وهذا ما يجعل القارئ يتناولها دون ان يمتعض أو يتأذى نفسيا بسبب السواد الذي تحمله.
قصة "مرايا"
"المعارض الذي ظل يحتل صف المنتديات الأول معقبا، والمرتزقة يمضغون لحمه ويزورون عنه محاولين ألا يمكنوه من الحديث، انبرى عند موته مؤبنين، محاولين بشتى الاسباب إثبات صداقته الحميمة" ص 73، بلا ادنى شك أن صورة النفاق الاجتماعي مزعجة ومؤلمة، لكن الطريقة التي استخدمها القاص جعلت فكرة الحدث الأسود تصل إلى القارئ بأقل ألم وقسوة.
قصة "لقاء":
"سأل الصحفي المتحمس الرئيس الذي يقف لأمام الكاميرا بشموخ:
ـ ماذا عن مذكراتك التي نزلت السوق حديثا؟
ـ سمعت أنه كتاب رائع." ص79، القاص يركز على مواقعه ككتاب، فهو ينتقد واقع البعض الذين ينسلخون عن موقفهم ككتاب من المفترض أن يكونوا في مصاف الأنبياء، إلى هذا السلوك الهابط، وكأنه بهذه المفارقة بين الدور الذي من المفترض أن يقوم/يسلكه الكاتب وبين ما يحدث فعليا يريدنا أن نستعيد ذاتنا النبيلة لنستطيع أن نتقدم إلى الأمام.
قصة "فرصة":
"بينما كان المحاضرون منشغلين بالتهنئة لإلقاء كلمتهم، كان يتفرس وجوه نساء الصف الأول باشتهاء" ص90، تركيز لقاص على النخب المثقفة وما تفعله من انتقاص لذاتها أراد به أن يعري الفئة التي ينتمي إليها وأن يشير إلى أن البعض من زملائه لا يستحقون ـ بسلوكهم ـ أن يكونوا كتابا من المفترض يمثلون روح الأمة وتطلعها إلى الحياة الكريمة.
الصور
من جمالية النص الأدبي ان يكون هناك صور أدبية تخفف من وطأة الألم على القارئ، وتمنحه شيء من الفرح من خلال الجمال الذي تحمله الصور الأدبية، "سمير الشريف" من الذين يهتمون بالقارئ لهذا نجده تعمد أن يكون هذا التعدد والتنوع الأدبي في مجموعته القصصية، وأن يزيدنا من خلال الصور الأدبية التي جاءت في القصص، من هذا الصور قصة "لعاب":
"أمام عربة الحلوى، مضغ المتسول أمنياته المهاجرة" ص20، ففي هذه القصة التي جاءت تحمل أكثر من شكل أدبي، ففيها الرمز والواقع والصورة الجميلة والتكثيف والاختزال واللغة السلسة والسهلة، ونجد ابتعاد اقاص عن استخدام ألفاظ قاسية قدر المستطاع، فإذا ما استثنينا لفظ "المتسول" نكون أم الفاظ عادية رغم قسوة القصة وما تحمله من فكرة الحرمان.
في قصة "حلم":
"أمام اللوحة التي يعلو فيها الموج ضاربا أسوار المدينة، تمنى أن يسحبه الماء إلى الأعماق التي احتوت حبيبته" ص23، صورة العلاقة الحميمة التي تجمع الحبيب بالحبيبة، وكأن القاص من خلال هذه الصورة أرادنا أن نتقدم من جديد من فكرة الانتماء للحبيب، فهو يريدنا أن نتخلص من مفاهيم العصر الجديدة وما فيه من ماديات.
في قصة "محاولة":
"ظل المخبر الغصنان يحاولان أن يتصافحا في الأعالي، غير أن مخبرا أمعن في قصهما شكا في ذاك اللقاء المريب" ص24، قصة جاءت تحمل الرمز والصورة الأدبية معا، مما اعطاها أثر جميل على القارئ، رغم وقع الحدث القاسي عليه.
قصة "عسس":
"تحسس كاتم الصوت بيد باردة، أصاخ السمع عله يصل لهمهمات النائمين في أحلامهم" ص43، نجد القاص يستخدم الصور الأدبية عندما يريد أن يتحدث عن النظام الرسمي العربي، وكأنه يتعمد أن يخفف من وطأة الحدث والمشهد من خلال استخدام الرمز الصور الأدبية، فهو يعتني بمزاج ونفسه القارئ لهذا هو حريص على عدم ازعاجنا ـ قدر المستطاع ـ بالأحداث والمشاهد المؤلمة، لكنه في الوقت نفسه يريد أن يوصل فكرته لنا.
في قصة "محاكمة":
"صرخ الفتى بوجه والده المعلق في إطار
ـ صدئت بنادقنا التي اشتريت، ولم يُبقى الذئب على أحد من خرافنا" ص49، أيضا نجد الفانتازيا والرمز والصورة الأدبية في هذه القصة، وهذه الأشكال الثلاث تتناسب وحجم المأساة/السواد في القصة، فهناك ألفاظ: "صرخ، المعلق، صدئت، بنادقنا، الذئب" وهي بشكلها المجرد تعطي مدلول على القسوة والسواد، لهذا اراد القاص أن يوازي بين فكرة السواد والشكل/الطريقة الأدبية بحيث لا يتعب أو يؤذي القارئ بالفكرة السوداء.
قصة "جدوى":
"ذات وجع انطلقت الجثة تبحث عن قبر"ص53، ما يحسب لهذه القصة أن القارئ يشعر أن القاص يحاول أن يهرب من الخوض في تفاصيل قسوة الأفكار والألفاظ في القصة، لهذا نجده أنهاها بأقل عدد من الكلمات، فالفانتازيا والصورة الأدبية التي جاءت فيها ساهمت في حدة وقع الحدث والألفاظ على القارئ.
قصة "سقوط":
"شد العازف أوتار العود فتساقطت مفردات السلم الموسيقي" ص68، بهذا الشكل يمكننا القول أن "سمير الشريف" فعلا استطاع أن يقدم ما هو جديد، فتعدد الأشكال الأدبية تنوعها كان يخدم فكرة تنوع وتعدد الأحداث والأفكار السوداء التي تحملها المجموعة، وكأنه من خلال التعدد والتنوع اراد أن يزيل ـ قدر المستطاع ـ الأحداث المؤلمة ويجعل القارئ يستمتع بها رغم قسوة الأفكار والألفاظ.
المجموعة من منشورات وزارة الثقافة، عمان الأردن، الطبعة الأولى 2018.
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية