جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
الموضوع واللغة في ديوان
"بانتظار المطر"
ماجد أبو غوش
هناك علاقة بين موضوع المادة الأدبية واللغة المستخدمة فيه، وهذا التناسق بين الموضوع واللغة يشير إلى أن الكاتب/الشاعر يتوحد مع نصه، بحيث يكون النص الأدبي هو من (يقرر) الخروج إلى الحياة، وما الكاتب/الشاعر إلا حامل لهذه النص، لكن هناك طريقة معينة لهذا الخروج، وهنا يأتي دور الكاتب/الشاعر، الذي عليه أن يستثمر حالة النضوج الفكرة/الحالة المخاض ليُخرج النص بطريقة وأسلوب يعطيه خصوصية وتميز عن غيره من النصوص، وعن غيره من الكتاب/الشعراء.
اعقد أن "ماجد أبو غوش" استطاع أن يقنعنا بهذا الديوان وأن يقدم قصائد لها خصوصية، تتمثل في التناسق والتناغم بين الموضوع من جهة وبين اللغة المستخدمة من جهة أخرى، فالشاعر يتناول في غالبية القصائد الأطفال والطفولة، وليس أي أطفال بل أولئك الذين تم قتلهم على يد المحتل، من هنا نجد الحدث مؤلم ، ولا يتحمل (تزويق) اللغة أو تجميلها، وبما أن الحديث يتمحور حول الأطفال فإن هؤلاء الأطفال قد جعلوا الشاعر يتجاوز/ينسى /يتجاهل دوره كشاعر، عليه أن يستخدم لغة استثنائية في شعره، فتوحد معهم ومع منطقهم فاستخدم لغة تتناسب وطبيعة تفكيرهم، فالديوان يمكن لأي فتى أو فتاة أن يصل إلى ما يريده الشاعر، وهذا ما يجعلنا نقول أن الديوان يعد حالة استثنائية في الدخول إلى النصوص الأدبية، حيث يمكننا أن نلاحظ العلاقة بين اللغة والفكرة والشاعر/الكاتب، بحيث يتوحدون ويمتزجون معا في خدمة المادة الأدبية.
سنحال إيضاح هذا الأمر من خلال الاستشهاد بشواهد من الديوان، يقول في قصيدة "أسعد":
"أمير صغير
يحلم بالعدل
بعالم أخضر
خال من القتل!" ص11، الفكرة تتمحور حول طفل، واللغة المستخدمة بسيطة وتتناسب تماما ومنطق الأطفال، كما أن الشخصية التي يتحدث عنها الشاعر هي "طفل" ونجد الأسلوب المستخدم اسلوب بسيط وسهل، ويوصل الفكرة التي يريدها الشاعر.
ويقول في قصيدة "تامر عرار":
كان اسمه تامر
....
ولد يركض خلف النحل
وخلف الغيمات السحرية!
ولد تعره النسوة
وبنات الصف السادس
والغزلان البرية!
هو الآن في القلب
أزهار مرة
هو الآن على السفح
يلوح للشمس لآخر مرة!" 13، أذا ما توقفنا عند الفكرة التي يقدمها الشاعر نجدها موجودة خلف: "يلوح للشمس لآخر مرة!" فالشاعر يتعمد أن لا يتحدث عن الدماء أو الموت/القتل، فهو يستخدم منطق الأطفال، ولا يريد أن يخدش مشاعرهم، رغم أنه يريدهم أن يعرفوا ما حدث "لتامر"، وهذا الإيحاء ينم على ذكاء الشاعر من جهة، وعلى توحده من نصه من جهة أخرى، بحيث يجتمع الوعي وألا وعي معا في تشكيل وإخراج القصيدة إلى الحياة.
وإذا ما أخذنا الألفاظ المستخدمة في القصيدة سنجدها بيضاء إذا ما استثنينا ألفاظ "خلف، مرة، لأخر" وبقية الألفاظ جاءت بيضاء، وتعبر عن الفرح وعن الحياة، فمن خلال "الركض، الغيمات، السحرية، تعرفه، الصف السادس، الغولان البرية، في القلب، أزهار، السفح، يلوح، للشمس" كل هذا الفضاء الرحب يؤكد على أن الشاعر يراعي ويهتم ـ إن كان بوعي أو دون وعي ـ بمشاعر الأطفال، بحيث ينتقي ألفاظه بعناية فائقة، ويقدم فكرة (مؤلمة) لكن بلغة وأسلوب أبيض، يدفعهم إلى الحياة بفرح وبهجة.
ونجد في قصيدة "بهيرة" أيضا هذا الاسلوب الناعم والنقي، رغم ألم الحدث/الفكرة التي يريد تقديمها:
"كانت تهيء نفسها
للموعد الأول
كانت تحضن دفترها
وشرائطها الملونة
كأنها تستعجل النهار
كأنها صرخت...
كأنها نادت علينا
.....
الدفاتر والأقلام والطوابع الملونة
الواجب المدرسي ونصائح المعلمة
تجلس وحدها
على مقعد
كان ينتظر بهيرة!" ص82و83، الفاظ بيضاء تماما إذا ما استثنينا لفظ "صرخت" وهنا أيضا نجد الشاعر يتحرر من وقع الأحداث المؤلمة ويقدم نص منسجم وطبيعة الأطفال، فإذا ما أخذنا الألفاظ المستخدمة سنجدها تخدم فكرة البياض/الحياة/افرح، وكأن الشاعر ـ من خلال هذه الألفاظ ـ يدعو إلى التقدم من الحياة والابتعاد عن الموت، فحتى حادث القتل، لم يتناول تفاصيله وكتفى بوجود: "كان ينتظر بهيرة" التي اعطتنا فكرة الغياب الدامي، وهذا ما يوكد على أن "ماجد أبو غوش" استطاع أن يقدم ديوان استثنائي، إن كان على صعيد اللغة أم على صعيد الأسلوب.
لكن ليس دائما يستطع الشاعر أن يضبط لغته ويحررها من وقع الحدث عليه وعلى نصه، فكترة مشاهد الأطفال الموتى/القتلى جعله يتأثر بصورة أعمق بحيث خرج عن اسلوبه السابق، ـ إلى حدا ما ـ واصبح أسير لهذا المشاهد الدامية، يقول في قصيدة "أيمن فارس":
( كان ينتظر بلهفة موعد الذهاب ـ للمرة الأولى ـ إلى المدرسة، كان ينظر بشوق إلى ملابسه الجديدة قميص وبنطال قصير، جراب أبيض وحذاء رمع أسود، كان في كل يوم يتفقد المدرسة والشارع والحوانيت، كان يخاف عليها من الهدم.... بقيت الأشياء في مكانها ... أما هو ...!؟
(من أقوال والده الشهيد)
عندما ننهض جميعا
من الموت
نفتح دفتر الشهداء
ونقرأ بلا صوت
كان طفلا صغيرا
لكن قامته
كانت أعلى من النخيل!
كان يمشي
في ظل جده
عندما قصف الغزاة
هذا الجسد النحيل!
كان يمشي بدلال
وكان حيث مال جده
يميل!
ما زال فراشه دافئا
وما زالت ملابسه
تزين حبال الغسيل!" ص31و32، اعتقد أن الشاعر عندما افتتح القصيدة بما قاله والد "أيمن فارس" تأثر به وتركت كلمات الوالد أثرا فيه، فكان الانفعال ظاهر في هذه القصيدة، "فهناك في غاية السواد "الموت، قصف، الغزاة" ونجد أثر قول الأب على الشاعر من خلال تركيز الشاعر على الفعل الماضي، خاصة عندما يتحدث عن "أيمن فارس" وهذه اشارة إلى أن "أيمن" أصبح من الماضي، لكن الشاعر عندما تحدث عنا نحن المتلقين/الأحياء نجده يستخدم فعل أبيض "ننهض، نفتح" لكن ما يتبع هذا الفعل الأبيض هو شيء/حدث مؤلم "الموت، الشهداء" وهذا ما يعطي دلالة إلى أن الشاعر في كيانه يميل نحو الحياة الطبيعية، الحياة الهانئة، لكن الاحتلال يعكر هذا الطبيعية وهذا الهناء.
الديوان من منشورات أزمنة للنشر والتوزيع، عمان، الأردن، الطبعة الثانية 2004
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية