دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

في الشتاءِ، حينما تتراكمُ الثلوجُ (وهي لا تتراكمُ عادًة في كلِّ فصول الشتاء، وإذا تراكمتْ تبيضُّ الجهاتُ الستُّ) في الهضابِ والسّهول، ويغْرَقُ منزلُنا في البياضِ الفسيح،كانتْ الأختُ الوسطى تهتدي إلى ثمارِ المناخِ البيضاءِ ورحيقِ الطبيعةِ القطنيّ- الثلْجِ، معدنٍ آخرَ لصناعةِ نوعٍ آخرَ من أنواعِ الدُّمَى..كانتْ أختي خاضعة لموهبةٍ فذّةٍ يمكنُ أن نعتبرَها فطريّة ـ فهي تنبتُ في البياض والثلجُ يتهافتُ.. ولم تكنْ تكترِثُ إلاّ بأنّي قد أتفطّنُ إلى ما تصنع قبل إتمامِ صنعِها الأبيض.. كانتْ تشكِّلُ عروسا ثلجيّة ضخمةً، لها جذع ورأس، لها عينان وخدود وأحيانا ابتسامة.. دائما كانَ يفوتُني مشهدُ صّنْعِها الدّمَى(لماذا تفوتني صناعة الأشياءِ العظيمة؟).كنتُ أفاجأ باكتمالِ المخلوقِ، فألفي الدميةَ واقفةً جاهزةً للنظرِ وإبداءِ الإعجابِ.. كنتُ أخْلَبُ بالمشهدِ فأتساءلُ:"كيف أمكنها أنْ تَبلُغَ هذه المراحلَ الختاميّةَ الجميلة في تسويةٍ مادّةٍ قابلةٍ للذوبِ السّريع؟" كنتُ – لا شكّ - أغارُ مِنْ قدرةٍ أنوثيّةٍ على صياغةِ هيئةٍ جميلة، لا تستطيعُ قدرةٌ ذكوريّةٌ على الإتيانِ بمثلِها.. تباغتني رغبةٌ في الهَدْمِ.. ويصعدٌ صوتٌ من أعماقي شرّيرًا: "عليّ أنْ أخرّبَ هذا الكيانَ الجميلَ المصنوعَ من ثلْجٍ جميل نقيٍّ".. ولاتفتأ تلد الرغبة الشرّيرة أنْ تنطفئَ حالما تحضرُني توسلاتُ شقيقتيَّ: " إنّك تستطيعُ أنْ تخلقَ لعبتَكَ..حاولْ أنْ تصنعَ أنت ما تريدُ".. 
تلك جملة رنّانةٌ رنّامةٌ ،أكتشفُ اليومَ ،حين تعلّمتُ نـُتْـفةً مِنْ فنّ التّأويل، معناها، وأقبِسُ شيئاً مِن دلالتِها الغائرة والتي لم تكنْ أختي حسب اعتقادي، تعنيها آنذاك.. 
لقد انصرفتُ إلى صناعةِ لعبتي آنذاك دون أنْ أفهمَ المعنى، دون أنْ أتأوّل وجها من وجوه دلالتِها.. كانتْ مسألة انصرافي تلك إنسانيّة صِرْفًا، وشيئًا ما أخلاقيّة (اصبِرْ على زمنٍ تُرَبّى لك فيه موهبةُ خَلْقٍ ما.. اصبِرْ على مسافةِ هَضْمِ المتعةِ التي تأتيك من خارجِكَ، على كفاءةِ نَحْتِ اللّعَبِ وإنْ كانتْ بأيادٍ أنثويّة، فقد سُوِّيتْ بتفنّنٍ يُلامِسُ العبقريّة ويُبشِّرُ بهبوبِ عطورِها الجارفةِ نحو الجمالِ...) إذنْ، يُمكنُ أنْ يكون لي لعبةٌ خاصّةٌ تنتظرُ أنْ أصمِّمَها..
لم أكنْ آنذاك أحبّ الموسيقى..لم أكنْ أفهمُها. لا أجيد الاستماعَ إلى لغةِ الوحْيِ فيها..لم نكنْ نملكُ ما يدفعني إلى حُبِّها، إجادة سمعِها وفَهمِها.. وبالرغم من ذلكِ النقصِ الفادح، انسقتُ وراءَ شهوةِ صُنْعِ عود،آلةِ عَزْفٍ.. إنّ حجمًا خشبيًّا مثقوبًا، تُشَدُّ إليه أوتارٌ أحصي عدَدها، ولم يكنْ يهمّني منها سوى أنّها تُخَرْبَشُ بالأناملِ أو بأداةٍ، علمتُ بعدئذٍ أنّهم يُسمّونَها ريشة نَقْرٍ. وأنّ تلك الخرْبشاتِ النّاقرةَ تُنْتِجُ صوتًا، إنّ ذلك الحجمَ، الكتلةَ الخشبيّة الجامدة الصّامتة الصّائتة في آن، تملؤني بروحٍ عبقريّةٍ ناعمة، حتّى أنّ خريرًا مِنْ حُلمٍ مزروعٍ بالأشواقِ ينسابُ.. وكنتُ أسمعُ صوتَ شقيقتي"اصنعْ لُعبتَكَ" يَزْحَمُ ذلك الحلمَ الشيّقَ في مجْرى الخريرِ الواحد...
عبَثًا حاولتُ صنْعَ عودٍ جيّد الصّنْعِ.. لم أكنْ أحصلُ على الخشبِ الصّالحِ ولا على الوترِ النّاغمِ أو حتّى على مثقابٍ ثاقبٍ.. وهبْ أنّني عثرتُ، فإنّ آلتي ستكونُ خرقاءَ بلا شكٍّ، وإنّ عزفي سيكونُ نشازًا، سيكونُ لا شيءَ في قانونِ الموسيقى الآسرة..(إنّني أحبُّ الموسيقى، وأريدُ أنْ تحذقَ ابنتي عزْفَها على نحو عِلميٍّ بارع.. لأنّني أحياناً أصبِح إزاءَ موسيقى فاتنةِ، ليّن العريكةِ، مِطواعًا، مُنصاعًا إلى شجنٍ مريعِ المتعةِ.. إنّني أستسلِمُ للرهافةِ والانخطافِ .. وتتمازجُ حالاتُ الرّوحِ وتزدحمُ الحواسُّ فأرهِفُ للسرِّ الكونيِّ، وأستحيلُ ضبابًا مِنْ فِضّةٍ مضمحِلّةٍ ).. هكذا تدخلُ الفِضّةُ / الضبابُ في حفلةِ الذّوْبِ، فيُنعِشُها مَهرجانُ اضمحلالِها..
_________ 
سيف الدّين العلوي

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 85 مشاهدة
نشرت فى 15 أكتوبر 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

579,336