دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

اختلال 
كان ذاك الصّباح مشرقا ، رائعا ، مذهلا... كلّ تفاصيله تعلن لسنابل القمح الذهبيّة موعدا إستثنائيّا للحصاد ولزرقة السّماء شغفا بالطّيور العائدة لأوكارها في لهفة وشوق ...كانت أنيقة جدّا بفستانها النّاصع البياض ورائحة عطرها الزّكية تملأ المكان وابتسامتها المرسومة بإتقان تبعثر ملامحها الحزينة وتشدّ من عضد الإصرار على وضع نقطة بحجم صرخة في قعر بئر ... بدا الزّمان والمكان محتفيين بشيء ما.... عادة ما ينبئنا الجمال بالفرح و لم أتصوّر أن يفترقا في موعد لا يليق إلّا بالحبّ....هل يا ترى للفراق بهجة وغبطة كالتّشوّق للّقاء ؟ ....أجل...بل و له أيضا آخر قبلة بطعم الملح وعناق للفناء بعمق الخراب ....وافترقا بعد فطور شديد الفتور في صمت مرهق للبشر وبكاء موجع للحجر وتمزيق آخر خيط ببيت العنكبوت وإعلان الضّجر على خاصرة الأحلام الموبوءة برماد الأوهام ....لم ينبس أحدهما بحرف.... لم يعد هناك ما يقال....ولا فائدة لخطوة ضيّقة لا تكفي لإعلان النّدم على كبوة أو انهيار حياة بأسرها بقبو مظلم يقبر فيه عشّاق الظّلام الفجر ويشنق على أعتابه منتحلو صفة الإنسانية دون وجه حقّ، الفرح ، ولا جدوى من النّصح لمن يحتفي بسقوط الأوراق في فصل الرّبيع .....الفاجعة مفزعة ولن يخفّف من وطأتها تفنّننا في مسح الأثر .... 
أدركت في تلك اللّحظة أنّ كلّ شيء كان منتبها لهذا الموعد وتهيأ له أكثر منّي ...إذ لم ألحظ وجعا في وجه الشّمس الّتي تتوسّط الكون رغم تلاشي شعاع الأمل وسيّدتي تعدو كما السّحاب في سماء الأفق البعيد تاركة وراءها فراغا سحيقا ، كشرخ عميق في قلب وطن مهجور ينزف في صمت معنى الإنعتاق من الظّلم نحو المجهول ... ولم أسمع شهقة الجارة الغيورة الّتي لطالما أعجبت به علنا وكم كنت أضحك في سرّي وأنا أغسل الصّحون لأقتل كلّ الجراثيم الّتي تلوّث الوجود بسموم حاقدة.... لم أكن أعلّق على سذاجتها لأنّها تجهل عمق المأساة التي تظمّها في وهن جدران ذاك البيت ...والغريب أنّي لم أسمع أكاذيب تنسج هنا وهناك حول أسباب فراقهما بالرّغم أن قصّتهما تستحقّ الف وشاية .. لم ينتظر أحد عودتهما وكأنّ نهايتهما اعتراف من الجميع بمحض إرادة هذا الزّمن الأرعن بقانون الجحود ..وإلّا لم تقبّل من عرفوهم الخبر هكذا في صمت القبور؟ هل مازالوا تحت تأثير الصّدمة؟!.... وكنت ولازلت أتساءل كلّما ألمحه بالطّريق : أتراه ينتظر عودتها ، أتراه يشتاق إليها، وأهزأ من صخب روحي الّتي مازالت لم تستوعب غياب امرأة لم تلدها سوى تلك الأمّ العظيمة، خالتي زينب رحمها الله .. .. بعض البشر يهبهم الله رحمة في شكل رفيق ولكن يجعل من بين أيديهم سدّا ومن خلفهم سدّا و على أعينهم غشاوة فلا يبصروا إلّا وقد فرّطوا بها ويكون الشّقاء حليفهم لأنّهم لم يشكروه كفاية على رحمته .... والغريب أنّي انتظرت لبعض الوقت ، شيئا ...شيء ما لا أدري ماهو ...ربّما أن يخبروني أنّه ارتكب حماقة المحبّ ..كأن يكتب قصيدة رثاء أو أن يبقى يلاحقها في كلّ مكان لأنّه مزدحم بها ، قتيل بعدها ، تائه في يمّ عميق بلا بوصلة تهديه سواء حضنها من جديد ولكنّ من مثله لا يليق به الإعتراف بأعظم شعور في الكون لأنّه لا يفهم في المعاني الحقيقيّة للإنهزام ... كم كان أخرقا وهو يتباهى بها أمام أهله وأصدقائه و مقيتا في تبريراته الواهية كلّما تعمّد الغياب في مواعيد تعنيها فقط ليحرجها ، وزائفا في لعبه دور العاشق الولهان أمامها والحال أنّه لا يفعل ذلك إلّا لقضاء مصلحة ما ....من مثله ليس مهيّئا لأن يسلك درب العشّاق أمثالها .. ورغم معرفتي العميقة بسيّدتي إلّا أنّني احترت بل تألّمت حين قرأت في عينيها حزنا أسود ...ألهذا الحدّ لا تقبل المرأة أن تفارق حتى ألدّ أعدائها ؟ ألهذا الحدّ يقتلها الكرسيّ الشّاغر مع أنّها تمنّت في سرّها تحطيم ذاك الصّنم أو التّخلّص منه بين النّفايات لأنّه لم يكن جديرا بمجلسها .. 
لم أتعوّد الكذب عليه إذ لم أحتمله يوما وهو يصيح دون سبب وكم كنت أثور أمام صبرها الخرافي وأعجز عن كتمان ذلك وأظنّه كان يقرأ بوضوح ازدرائي له فسيّدتي محشوّة بالمآسي لدرجة أنّك مجبر على التّعامل معها بلين ولكنّه كان بلا قلب ولا عقل أيضا....كم كنت أمقت نبرة السّخرية الّتي يستفزّها بها أمام الجميع وهو مدرك أنّه يحاول عبثا النّيل من محبّة الآخرين لها ..لم ترق لي حياتها معه ، لم أحبّه لأنّه لم يسعدها بالرّغم أنّها تستحقّ السّعادة ... ولم أهتمّ يوما إن هو يكرهني كما أكرهه إذ لم يكن يعنيني في شيء لأنّه سبب تعاسة سيّدتي....تعاستي .. كم كان واضحا بدرجة وقح جدا.. كم كانت عيناه تزدريانها وكأنّها شبح لا يليق بجماله الفاتن ....ألم ينتبه؟ ألم يستوعب الوجع الّذي غرسه في أحداقها ؟!...كم كانت كلماته تضاعف من أكوام الجليد بأعماقها وتحبس أنفاسي ...كنت أتمنّى أن أراه منزعجا لسبب حقيقي سوى الوسادة ، أو قطعة السّكر بفنجان قهوة الصّباح.الّتي لا تكفيه لتحلّي يومه البائس...... كنت أشتاق لأن يخاصمها محبّا ، حتّى يراضيها عاشقا لكنّه كان سخيفا بدرجة لا تليق بامرأة تعلّمت فنون الحبّ قبل أن تولد...كم كنت أحلم أن أراه يبكي فأنا ممّن تخشى ضعفها أمام دموع الرّجال علّي أجد بأعماقي ما يدفعني للدّفاع عنه .... كانا يسبحان في واديين متنافري التّيّار ...كم أشفقت عليه لحظة غادرته ...أدركت وأنا أرمق من بعيد هدوءه المصطنع أنّه لم يتصوّر رحيلها ولم يستوعب أنّ سيّدتي لا تمزح لحظة الوجع العميق ولا تسقط أمام رجل تأكّدت أنّه يهوى أن يراها مكسورة.. لم يع أبدا أنّ لإرادة الأنثى قوّة تتجاوز خيال الرّجل وحين تعزم على شرب السّم لا يستهويها الشّهد في قدحها الأخير ولا تتراجع عن غلق الباب ورمي المفتاح في المحيط كي تقطع السّببل أمام التّراجع ولو قيد أنملة إلى الوراء لأيّ سبب من الأسباب عندما توضع وجها لوجه مع الخذلان.....كم أبكاني رحيلها وكم أتمنّى عودتها لأحضنها بعمق الفراغ الّذي خلّفته فيّ.....إذ كنت سعيدة بحضورها ووهبتني قبل أن تغادر سرّ ابتسامتها المنهمرة بألم شديد من العينين 
بقلمي: نجلاء عطية

المصدر: واحة التجديد
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 92 مشاهدة
نشرت فى 23 مايو 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

558,198