دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

محمود حسونة كائنٌ طبيعيّ محض.. كان ملقّحا جسديّا ضدّ الأمراضِ التي تطال أترابه من غيرِ الرّعاة. وهو إلى ذلك ملقّح معنويّا ضدّ الأحزان المبيدة، و الانفعالات العمياء التي تتوغّل صمتا إلى خلايا الجهاز العصبيّ، أو تتسرّبُ خُفيةً إلى النفوس ذات الطّاقة الدفاعيّة الهشّة والجهاز المناعيّ المتآكل.. بالرّغم من ذلك، فإنّ محمود حسونة كان قد نفقَ باكرا، بمعدّل زمانيّ عمريّ يجاوز العقد الخامس بنيّفٍ من السنوات) يجدر الإشارة إلى أنّه لم يكن في وسع أمثالنا تحديدُ عمرِ أمثالِه من المخلوقات) .. فسنة ميلاده مثلا لم تُدوّن في أيّ وثيقة رسميّة .. و ما من حدثٍ استوجبَ تسجيل اسمه على أيّ دفتر من دفاتر الحالة المدنيّة ـ لا دفتر مدرسيّ ولا صحيّ، ولا غير ذلك.. لذلك كان من العسير تحديد سني عمره بمقدار رياضيّ دقيق.. 
لم تكن إذن سنّ محمود حسونة قابلة للتصنيف.. إذ لا وجود في وجهه أو قدّه لــدليل علاميّ مائز له.. رأيته أكثر من مرّة عن كثبٍ، في الأيّام التي كنتُ قادرا خلالها على الصّعود إلى الجبل للنّزهة، ولكن من المجازفة أن أزعم أنّي قادرٌ على استحضار ملامحه.. كانت ملامحه مستورة.. كان وجهه متواريا خلف لثامٍ يلفّ به أعلى الرأسِ حتّى أسفلِ الرقبة.. وتتدلّى حواشيه على الوجه فتحجبُ ثلثه من جهة اليمين و ثلثه الآخر من جهة الشمال.. و كان اللثامُ حوليّا، ليس مخصوصا بفصل دون فصلٍ أو موسم دون موسم.. و هو نفس اللثام الذي يلفّ ملامحه منذ الخريف إلى الخريف الذي يليه.. 
يبدو أنّ محمود حسونة كان قبيح التقاسيم دميم الملامح.. يبدو من خلال اللّثام أنّ في وجهه طولا يوحي بهيئة ميّت وهو ما يزال حينها في الحياة حيّا(على شاكلة ما).. لكم تصورتُ و أنا أرى لثامه و بعضا من وجهه وقدّه المتداخل أنّه لم يكن ينتسبُ إلى الأحْـياءِ قَطّ.. 
قيل في قُبْحه رواياتٌ غريبة.. قيل إنّه لم يكن قطّ إنسيّا.. بل تأنْـسنَ بطول العشرة مع الرعاة، ومع بعض القوم الذين كانوا يلتقون به أثناء منطلق الرّعي أو العودة منه، فيستوقفونه ليمازحوه.. و كانوا يقتنصون من مزاحه البذيءِ وسَـبابه الفاحش متعة الضحك و الهُـزءِ المختلسة.. 
ألّا يكون إنسيّا، فذلك يعني، وفق تصوّر موروث، أنّه مُسْتبْدَلٌ.. في زماننا القديم نسبيّا في القرية، يؤمن بعض النّاس بمثل هذه الخرافة.. روت بعض نساء القرية أنّ ساعة مخاض أمّ محمود حسونة به، و ملابسات ولادتها له، كانت ساعة من العتمة المطبقة، في ليلة ريح صرصر.. وأنّ قنديل الأسرة آنذاك كان أطْفئ(وقالوا بفعل فاعل، وكذّبوا أنْ يكون نتيجة لتسرّب زفير الريح من شقوق المنزل الترابيّ).. و أنّهم حين أرادوا تجديد إشعال القنديل،كان زيتُه قد جفّ وفتيلُه قد تآكل، و استحال رمادا أبيض في ليلةٍ سوداء.. في تلك الآونة أجاءها المخاضُ إلى جذع السّرير.. فـنترتْه بعد ألمٍ كما تسْتلتُ عروسٌ هجرها عريـسُها حِنّاءها.. لكنّها اكتشفتْ حين استعيرت لها شمعةٌ لإضاءة ساعة الميلاد، أنّ وليدها كان قبيحا.. كان قبيحا إلى درجةِ أنّه لا يُشبهُ أيّا من أخوته طبيعيــيّ الخلْقِ و متوسّطي الجمال.. ذلك ما دفع بها إلى الاعتقاد بأنه قد وقع أثناءَ الوضْعِ عمليّةُ استبدالٍ سريعة خاطفة، أخِذَ على إثرِها المولود الإنسيّ الجميلُ، وأبْـقِيَ المولود الدّميمُ من الجانّ .. وعبثا ظلّت أمّه لسنوات تنتظرُ عودة نسختها الأصل،حتّى ملّت و أيستْ.. حتّى استقرّ لديها أنّ ذلك اختيارٌ إلهيّ لابُدّ من الرضاءِ به، وأنّه أمرٌ مقضيّ، عليها التسليم به و الامتثال له..
هكذا كبرُ محمود حسونة في كنفِ أسرته محظيّا برعايةٍ شاملة و مودّة عطوف، وإحاطة عليا هيّأته لأنْ يصبِح راعيًا ماهرا حتّى وفاتِه و نسيانهِ..
________ 
سيف الدّين العلوي

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 69 مشاهدة
نشرت فى 28 فبراير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

558,027