دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

نهرٌمن الدمعِ في دمعتيْن
تمُدُّ النّهاياتُ قبضتَها نحو جيدي
تسنُّ حديدَ الأظافر، تصقلها كالبراغي
لتنشبَ معدنَها في وريدي
ولا وقتَ كيْ أستغيثَ
ولا وقتَ لي لأموتَ على عجلٍ مثلما أشتهي
أرى مسلكا سالكا نحو تيهي
وعمّا قليل سيشهدُ دهري انفجارَ العناصرِ
في كلِّ شيء
وتشهدُ أوقاتُكمْ كيف تزَّحْزَحُ الكائناتُ
بيُسْرٍ لكيْ تنتهي
إذنْ هكذا قدْ تحلُّ النهاياتُ،
تنسلُ من كلِّ شيءٍ سريعا
وعمّا قليلٍ ستمتزجُ الأزمنةْ
سيأخذُ حاضرُنا من خزائنِ تاريخنا
فرسا مشرئبَّ الشّموخْ
وحمحمة ً حفظتْها الظِّباءُ الشريدةُ
واختبأتْ في عيون النّسورْ
متى رنّقتْ في الهجيرْ ..
ويأخذُ أيضا ـ إذا فتّشَ في ركام الحضارة ـ
ما شاءَ مِنْ نشواتِ اللآلئ أو نخواتِ الغنيمةْ
ولكنّه سوفَ يُبْقي على كبوةٍ في الحروبْ
وعلى مارجٍ والجٍ في صميمِ الهزيمةْ..
سيأخذُ حاضرُنا من عتيقِ الزّمانِ العتاقة َ،
فجرَ البداياتِ،ومْضَ الحسامِ، تألّقَ روح الكلامِ
المُحوّمِ فوق بلاطِ الرّخامِ على مجلس للمديحْ ..
وعمّا قليلٍ كذلكَ يأخذُ حاضرُنا منْ غدٍ
احتمالَ المَجيءْ، غموضَ المسافةِ ،
لون الحَرابي فوقَ النّـباتْ
وفاءَ الصّبايا الخَؤوناتْ
وعدَ السّحابِ الشّحيح بماءٍ لنهْرِ الجفافْ
ويأخذ ما لَذَّ مِن حلُمٍ أبرصَ يتّقي أنْ يلوح لنا
أو يلوّحَ من شجرٍ لائذٍ بالضّفافْ ..
تغنّي النهاياتُ شامتة ً من بداياتِنا:
لقدْ كان نهرٌ لنا ، جامحٌ ماؤهُ من أكفِّ الإلهْ
يجيحُ ـ إذا أطلقتْه الفراديسُ فوق الخرابِ ـ
جذورَ التّرابِ ولُبَّ الحياةْ
تقودُه عصفورةٌ من لهاثِ الصّدى ومن لهفاتِ الحنينِ
إلى لمْعةٍ في الحضارةِ قد سجدتْ للصّليلْ
تغنّي النّهاياتُ هازئة ً بالزّمانِ الثقيلْ
وبالفعلِ منقضيا في زوالٍ سريعِ الحلولْ:
لقدْ كان سِفرٌ لنا لوْ قرأنا القليلْ
نمتْ غزوةٌ من ضلوعِ الكتابةِ،
ثارتْ سحابة ُ خيْلٍ ونقْعٍ
سمعنا حفيفَ القصيدِ الجريحِ،
أطلّتْ علي سمْعِنا قهقهاتُ الجواري
وهُنّ يُسِلْن بقايا اغتباقٍ ويسْكُبْنَ
آخرَ قطْرِ الجِرار
ولو أنّنا قدْ قرأنا القليلْ
للاحتْ لنا فارسٌ في كؤوسِ النّبيذِ
وفي نمنماتِ الأواني
وفي زخرفاتِ الخشبْ
لكنّا رأينا الغلامَ البيزنطيَّ يهْدي لسيّدِهِ
آخرَ إنتاجِ روما من القمح والتمر والتّين،
مستخلصاتِ الزّيوتِ وترسانةٍ من عتادٍ جديدٍ
وكمْ سلة ً من عنبْ
ويعرضُ للنبلاءِ الغواني، وآلاتِ عزْفٍ
وأثوابَ قزٍّ تناسبُ أذواقهم في تعاطي الطّربْ
ولو أنّنا قدْ فَتَشْنا معاجمَ أرشيفِنا
لكنّا رأينا العروبة َ
في بصماتِ العربْ…
أنذرفُ دمعا على ما انتفى بغتة ً
من رقيِّ عصور الذّهبْ ..
أنذرفُ أسئلة ً تعطبُ الرّوحَ تمضي صديدا
إلى الجرحِ والذّاكرةْ؟
لماذا حذفتم رحيقَ البلادِ بزهـر الحضارة
حين سففتُمُ مِنْ شهدِ تاريخنا سكّرهْ؟
لماذا قشرْتُمْ نقوشَ العمارةِ، اسمنت مئذنةٍ
بها قد علا ذكرُ أسمائه النيّرةْ؟
وأحجارَ قصرِ الخليفةِ ، دارَ العساكرِ
والمكتباتِ المطرّزة َ بالفنونْ؟
لماذا نبشتمْ بساتينَ نهضتنا حيثما تظهرونْ؟
لماذا يظلُّ التوحّشُ ميْسمَكمْ والدّمُ منشودَكمْ
وانتصارُ الجنونْ
ذرى عبقريّاتِكمْ وفذاذتَها المطلقةْ؟
أيا أيّها ” الأقوياءْ”،
ألا تشعرون لحينٍ بطعْمِ الهزالِ وأنتم تدكّونَ
نيْلوفرا أخضر الانفجارِ يُخبّئُ داخلَ
عبْقِ الغضاضةِ أسرارَ ولاّدة َ العاشقةْ؟
ألا تشرَقونَ لوقتٍ قصيرٍ وأنتمْ تمُصّونَ آثارَنا
ودواوينَ أشعارِنا وذاكرة ً مشرقةْ؟
أيا أيّها ” النّبلاءْ ”
ألا تعرفونَ شعورَ الوهاءْ؟
لماذا شربتمْ بلا غصّةٍ نخبَ أندلسٍ تتداعى؟
وكيفَ فطنتمْ سريعا لتحويل خيْلِ دمشق يراعَا؟
تطل النّهايات مزهوّة بارتعاش الزّمان الجديد
بماذا يبشّرنا يا ترى عصركم
هل بما فاتنا من رقيّ يغيّر شكل الخرائط؟
يقول الغزاة :
سنجعلكم قطعة من غيار لمركبة قد ترود النّجوم
وتحتلّ ثمّ الفضاء ْ
ونجعلكم في القرون الحديثة لعبة أطفالنا الأغبياءْ
ألا فاطمئنّوا ،وغنّوا،
فسوف يكون لكم “موقع في الوجود”
تُـقيمون في غيمة تمّحي ،
في شروخ المرايا
سنستنسخ البعضَ منكمْ
على شكل “دلّي”
ونبقي على بعضكم للتّلهّي
ونفقأ للآخرين البصرْ..
سنحشدكم كلّكم في مضيق الممرّ ْ
ونطلق قطعان ثيراننا كي يمرّ العجاج كثيفا
ويخْــفى الأثرْ..
هكذا حدثت فلسفات يبشّرنا أهلها بالجنون..
بإمكاننا أن نرى مُبـْهما سائحا في بياض الوضوح
وأن نستشفّ شفا الانحدار إلى ذروة الاندحار المكينْ
بإمكاننا أن نرى مثلما قد رأينا جليّا حصونَ المدينةِ
أسوارها والمسالك قد أتلفتْ
نرى جيّدا صبحنا شاحبا في العيونِ
ونبـْتَ الحقول مَـدوُسا ذليلَ النّماءْ
نرى شجرا خارجا من تراب عريق الخصوبة
منـْتـفـيا في العراءْ
نرى مدنا تستحيل ترابْ
وذاكرة تمّحي في الغيابْ ..
على أيّ باب ندقّ إذنْ ؟
وأجراسـُنا، هل بعد هذا ترن ْ ؟
بأيِّ جدارٍ سميكٍ نلوذُ ؟
سيذرفنا الدمعُ ـ دمعٌ حميمُ النّزولِ
لفرْطِ الأسى والتداعي
سنشربُ خمرا كريها ليضْمُرَ فينا الضّميرُ
ولكنَّ منْ صحوة الحزن فينا يـدوخُ النّبيــذُ..
على أيّ شبرٍ نُمدّدُ أجسادنا تستريحُ لتستوْعِبَ الكارثةْ؟
إلى أيِّ جذعٍ نبوحُ بما يصطلي من حرائقنا المورَثَةْ؟
دخلْنا عصورَ الحداثةِ
ما عندنا غيرُ وَشْمٍ يُوشّي بقايا انتسابٍ لإحدى الصّحارِى
تلفُّ ملامِحنا دهشة ٌ مُحّضتْ للدّوار ِ
يغطّي الشّغافَ سوادٌ عميقٌ ،
وفي لونْ طلعتنا غربة ٌ وسهومْ..
دخلْنا عُصورَ الحداثةِ بدوا
يُحيطونَ ب”النّبلاءِ” إلى طاولاتِ القمارِ
وكانَ الرّهانُ الشّعوبَ الفقيرة َ،
مسْتوْطناتٍ،
نساءً بِـِــلوْنٍ جديدٍ يُــزِحْنَ المللْ
موادّ من النفْــطِ خامّا يجُـرُّ الحضارة َ
نحو زُحلْ
كثيرا من الشعراءِ، دنانًـا من الخمْـرِ
للبحثِ في الأمر ـ أمرِ الدّولْ
وبعضَ الذّخيرةِ للعسكرِ القادمين إلى الأرضِ للاتّجار..
ولجْنا عصورَ الحداثةِ مُطّـَرحينَ الفتى الجاهلَيً،
قصيدة َ عمرو بن كلثوم في الافتخارِ
ولاميّة َ الشنفـرَى..
آه لــوْ نبدأ السّيرَ في القهـْقـرَى
لأمكننا أن نؤرّخَ تاريخَـنا بفعلِ الشّروع ” طفِقْنا”…
لعُدنا إلى الركضِ والأرضِ والعِرْضِ
والخيلِ والليلِ والظّعْنِ والطّعْنِ
عُدنا إلى شجرٍ قدْ يُشابِهُ فرساننا في اشتدادِ الجذوعِ
وعُدنا إلى خيْمةٍ رحبةٍ في فضاءٍ وسيعِ
لنختلسَ العِشْقَ والشوْقَ والنظراتِ
لأنثى تمرُّ عميقا على الصّدرِ
تقبضُ منه الذي ينبضُ
سنُحْرَمُ من قُبْلةٍ ربّما، ومِن لمسةٍ ربّما
غيرَ أنّ الهوى والحنينَ يظلاّن
وعدَ الوِصالِ ولوْنَ الهيامِ..
سيحلو انتظارُ الحبيبة، خلف الخيامِ لنا موْعِدُ
سنفتقدُ الكهرباء ونحن نسير إليْهِ
نُجازِفُ بالرّوحِ في كلِّ حينٍ
وقدْ نُفْقَــدُ
ولكنّنا نستمدُّ الضّياءَ من الشّوقِ
بلْ من حريقِ اللّقاءِ الذي قد يكونُ
وقدْ يبْعُـد
وقدْ نستضيءُ بوجهِ التي نقصدُ
ونعشقُ حرماننا إنْ تَخُنْ وعدها،
لحِرمانِنا حرمة ٌ تُشْتَهىُ، له لذّةٌ لا يذلُّ بها العاشقونْ ..
لقدْ كانَ للعشقِ معنَى،
إذا امتنعتْ صَبوةٌ طالَ خيطُ الحنين ِ
وجاسَ الفؤادُ الفيافي،
وقدْ تومِضُ الكبرياءُ وتسمو الحبيبةُ والعاشقونْ
وتدنو بذاك قُطوفُ القوافي
لقدْ كان للعشقِ معنى، وللشعرِ معنى،
وللحلمِ معنى ،وللموتِ معنى
إذنْ كيفَ ضِعْنا؟؟؟
إذنْ كيفَ نلتمسُ الدربَ للصّحراءِ البكارة؟
كيْفَ نفتّشُ في السّافياتِ العنيفةِ عن عنفوانِ البدايةِ،
عنْ ضحكةٍ للحبيبةِ خجْلى،
وعنْ جرسٍ في القصيد البعيدْ؟
لقدْ حلَّ قرْنٌ جديدْ
ولكنّه مثلَ كلِّ القرونِ القديمةِ يَمضي حثيثا
وينحلُّ في الدّهرِ مِلْحا
يضيءُ كبرْقٍ عجولٍ على الجفْنِ لَـمْـحا
أجلْ ما تبقّى من الكونِ غيرُ الحثالةِ
لا بُدَّ من وقفةٍ بيْن أطلالِ هذا الزّمانِ الجديدْ
ولا بُدَّ منْ فسحةٍ للشموس قُبيْـلَ اكتساحِ الجليدْ
ولابُدَّ مِنْ جلسةٍ للتأمّلِ في عامِ عشرٍ وألفيْنْ
لنطلقَ نهرا من الدّمعِ في دمعتيْنْ…
______________ 
سيف الدّين العلوي 
من قصائدي القديمة

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 85 مشاهدة
نشرت فى 6 فبراير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

563,638