جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
تقرأ مخطوط القُصاصة بهدوء:
حين يرغبُ الجسد في النّسيان فإنّه يتمرّد على سكونيّته..بالرّقص يكون التمرّد.. ولكن، كيف يجتمع الجوع و الرّقص و التمرّدُ؟ نحن إزاء متفرّقاتٍ لا تجتمع في الظّاهر.. غير أنّها في المشهد الذي نسرده اجتمعتْ.. نحن مطالبون الآن بفهْم تراكب هذا الثّالوث.. علينا لفعل ذلك أن نستدعيَ صورَ الفظاعة التي تستبقيها الذّاكرة ممّا عاشته أو رُوي لها في غابر السّنوات..
الحكاية بسيطة جدّا،وهي مع ذلك في منتهى الشّناعة..لسنا هنا لتأدية وظيفة التّأثير. لسنا هنا لخلْق مناخ تعاطف مع حالةٍما.. فقط،نحن نودّ الحديث عن الجوع، عن الجسد الجائع، عن الجوع الرّاقص.. يبدأ الجسدُ في النّسيان:
الأب واقفا متهيّئٌ لأداء شطحته المعتادة. إنّه بوقوفه ينتظر أن يجتمع كلّ أفراد أسرته، ذلك ما يجعل المشهد على درجة من الحلاوة حيث تكتملُ عناصرُ تشكيله. تجلسُ الزّوجة و قد جلبت معها سطلا من حديد. هذه الليلة لم تفلح الأمّ في الدّفعِ بأبنائها إلى النّوم. في مثل هذه الليلة لا تجتهد أصلا في أن تجعلهم ينامون. لا ينبغي لأيّ فرد من الأسرة أن يستسلم للنّوم. إنّها ليلة الرّقص ليلة الفرح ، مثل كلّ ليالي الفرح الرّاقصة.ليلة صناعة الفرح.. يمكننا أن نصنع مناخا من بهجة مختلسة نضربُ بها كلّ معايير المنطق.. أجلْ إنّ الفرح يُصنعُ كما يُصنع الخبْزُ مثلا أو كما يُطبَخُ حساءٌ سريع أو كما تُقَدّ فطائر خفيفة... دعا الأب أبناءَه. شوْطُ شَطْحِه يستقطبُ الحُضور. سيكون حُضورُهم حافزا لحذق الأداء و تسخين اللّحظة الفريدة. لسوف تجتهد الزّوجة في نقر الدّربكات على ذلك السّطلِ الحديديّ المُخصَّص لمثل تلك الرّقصات و الليالي أحيانا كانت الزّوجة تستبدلُ ذلك السطْلَ بصندوق الدّقيق بعد أن يكون قد فرغ من مادّته كأغلب أيّام الحوْل.. في الحقيقة كان نقرُ هذا ذاك الصّندوق أخفّ ألما من نقْرِ هذا السّطْل. غير أنّ علوَّ أصوات النّقْر على الحديد تشجّعُ على إشاعة جوّ من الأنس الفريد.. ذلك أنّ صوت الحديد يطرد النّوم الذي يَغشى العيون،و يزيح الخمولَ وقد يوحي بالشّبع..
هاهم الأبناء يحضرون تلبيةً لنداءات الأب الذي يتهيّأ للتمرّد على العالم بطريقته..بدا حضورالأبناء موسوما بالترنّح..تُرى لماذا يترنّحون؟ أيكون ذلك بفعل النّوم أم نتج عن انعدام رغبتهم في الانخراط في احتفاليّة الرّقص الجائع؟ إنّ الرّقصَ حين يحتدّ يُصبح جوعا كما هو شأن الجوع حين يحتدّ يستحيلُ رقْصًا..هكذا الجسد حينئذ هو قطبُ الجوع شعورا و الرّقصِ أداءً و التمرّد فعلا والنّسيان مراماً.
الآن بدأ الحفلُ.تثبّتُ الزّوجة السّطلَ بين ركبتيْها جيّدا..تضبط إيقاع الانطلاق. نقرات أولى مشوّشة. بدا الإيقاع ضالاًّ في نقطة بدئه..يخطو الأبُ بعض الخُطى،يحاولُ أن يهتدي لرقصة نضيدة ممتعة بمقدورها أن تعكس التمرّدَ و تترجم الجوعَ، حتّى يندمج فيها الجسدُ راتعا في مسافحة نسيان.. لكنّه يتشوّش بدوره لعدم اهتداء الزّوجة بعدُ إلى نَقْرٍ موقّع منسجم..يتوقّف فجأة عن رقصه الأوّل. يُشيحُ بوجهه إلى زوجته ذات السّطل الحديديّ المغروس بين ركبتيْن عاريتيْن. يقول في احتجاج غاضب:
لا تُفسدي ليلنا و فرَحه،لا تعكّري جوّ احتفالنا.. لمَ لمْ تضبطي إيقاعك هذه اللّيلة كما لو كنت تنقرين للمرّة الأولى؟ هيّا ،عاودي النّقْرَ.. بودّي أن تسمع القرية بأسرِها صخب الليلةِ الماجنة(هذا تهذيب لغويّ تصرّف فيه الكاتب تجويدا للعبارة التي رُويتْ كما اتّفق من الألفاظ العاميّة القاسية الوقْع و تجنّبا للواقعيّة الفجّة).بودّي أن تسمع القرية صوتَ الحديد منقورا صاعدا من بين ركبتيْن عجفاويْن، ليتمثّلِ الجميعُ رقْصي من وراء الجدران..
بعدا يلتفتُ إلى الأبناء و قد ذهب الخمولُ بهم كلّ صوْب و ترنّحوا حتّى كادوا أن يناموا جُلوسًا:
_ و أنتم ،مالكم هذه اللّيلة؟ كأنّكم لم تعيشوا هذا الفضاء الاحتفاليّ من قبلُ؟ كأنّكم تجهلون بعد كيف تحرقون هذه اللّحظة تصفيقا و تصفيرا؟ اسمعوا. لن تناموا، لن يغلبكم نُعاسٌ وأبوكم يرقُص و يُتخم القرية بالغناء، لن ننام حتّى نفقأ وحشة العالم بأنسِنا.. هيّا، صفّقوا، شجّعوا أمّكم على أن تضبط إيقاعها لي.. انظروا كيف أرقصُ، وعمّا قليل سوف تنضمّون إلى حلْبتي.. سنشكّل معا رقصة جماعيّة ساحرة.. هذه اللّيلة نصنع نشوتنا رقصا وطربا و نسيانًا...
انتبه الأبناء. كان لكلام أبيهم قشعريرة ناخزة،ثمّ طفقوا يُصفّقون. جعلتْ درجة التّصفيق تتعالى.. خرجتْ جدّتهم من مخبئها تقفوها ابنتها العانس.. لم تُعِر ترهّلَها أهميّته من الحذر. غلبت للحظةٍ ثِقلَها و أخذتْ ترقُصُ. ضحكتْ ابنتها لرقصها المترهّل. غمزتْ لزوْجة أخيها ناقرةِ السّطْل هامزةً لامزةً. تفاعلتْ مع غمزتها بسرعة لكنّها لم تنفكّ عن معاودة نوْبة ضبطِ الإيقاع في محاولة ثانية وثالثة.. استقرّت أناملها على وضعيّة إيقاعيّة كفيلة ربّما بإيقاد الرّقْص في ساقيْ زوجها و خِصرِه..توقّدت في الزّوج هستيريا راقصة. أخذت أقدامُه تهتزّ و فخذاه يرتعشان. اندفق حوضُه يتمايلُ ، يستديرُ فيُديرُ في الفضاءِ نصفَ دائرة ببركار الخصر و الأرداف. و حين تحوّل الجسدُ بركارا تيقّظ الفرحُ، شاع ضجيج الأنْس. رقص الجوعُ. جاع الرّقصُ. علا النّسيان. انكسرت سلطةُ النّوم و انخذل الخمولُ. ندّ صفير و زفير، و تناسل تصفيقٌ ما بين الأكفّ.. أمعن الزّوجُ في أداء لحظة مجنونة من رقصٍ لم يعُد يفرَّقُ فيه بين النّظام و الفوضى.. أصبح الأبُ يرتعشُ. للأكتاف شوطُها. و للصّدر شوطه، وللإلية مساحة ارتعاشها هي أيضا..و للرّأس ذبذباتُه المرتجّة.. باختصار، أصبح الجسدُ بأسره متمرّدا على وجوده، على حدوده،على صموده على ما خُصِّصَ له من فضاء. صار الجسدُ متخما بالحرّيّة، صار الجسد أسير الرّقْصِ و برهتِه لا غير.. لقد تسنّى له أن يندمج في النّسيان بعنفٍ بلذّة و ثَمْلةٍ..
هكذا يُصنَعُ الفرحُ.. هكذا تقاطع الجوعُ والرّقصُ و التمرّدُ، وانخرطتْ جميعُها في بوتقة النّسيان. هكذا تذوب الأشياء و تتوحّد في ذوْبِها..
__________
سيف الدّين العلوي
مقطع من رواية بصدد الكتابة
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية