جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
(امرأة تعاف الحياة)
يتحدّث جسد أنثويّ في لغة اعتراف نادرة عن هزيمة الجسد و لحظات تهاويه المثيرة للبكاء و الشّفقة والمتداعية لحزن فوريّ:
إنّ متعلّقاتي و سائر مكوّنات هذا القوام من أعلاه إلى أدناه ترفض هذا الرّجلَ، لا لذاته ،و إنّما ترفض أداءه الفجّ لطقوس الجسد المقدّسة.. لقد بلغ وجهي،مثلا، شوط ملله من نظراتِ تحديقه في تقاسيمه (وجهي) و تفاصيله.. ضجرتْ عيناي أن تلتقيا بعلامات استفهامه العطشة التي تتقرّى لوحة روحي من خلل مُحيّايَ.. لم أعد أحبّذ عيونا استفهاميّة تطيل التّحديق في نصّ وجهي مرورا إلى مداليله العميقة (هذا متى ما كان التّحديق عميقا. و الأصحّ أنّه لن يكون كذلك طالما أنّه محكوم بنظرة جائعة)..
عنقي كذلك صار يلفظ بخار أنفاسه: "إنّها أنفاس حارّة على مقدار من سخونة مزعجة، أفضّل أحيانا أنفاسا فاترة أو باردة".. إنّ مسامّات جلدي لم تعد تستجيبُ بلهفة لتلك الأنفاس.. عليه أن يجدّد أساليب ضخّ اللّهيب الذي أصبح يُخيّل إليّ أنّه أشبه بفتحة شاليمو(تلك الفتحة النّاريّة المُعدّة للحام حديد إلى حديد). يُعدّها للحْم جسدي المفتوق، بالطّول و العرْض.. فإمّا عليه تجديد بثّ بُخارِه فوق جلدي النّاعم الحسّاس المفرط الرقّة.. وإمّا عليه أن يُقلعَ تماما عن عادة التنفّس الحارّ- أن يكتم أنفاسه وهو يُجري عمليّاته الميدانيّة تلك، في مساحات النّعناع الأطرى ..
لم يعد ناهداي يقشعرّان لأولى حركات أصابعه ، لذلك الدّبيب النّاغل ،ذلك الذي كان سحريّا في ما مضى، ثمّ فقد بالتّدريج نكهة الملمس و نعومة المرور،و موسيقى العزف المنفرد بأنملين منفرديْن أو بتناغم شامل لفرقة الأصابع الخمسة.. لم تعُد ذرى ناهديّ تشهقُ و تتشنّج لدبيب لسانه مضمّخا بالرّضاب الذي كان ذات يوم، سحريّا.. لقد أصبحت تلك الذّرى تتغضّن و تنكمش، و في أفضل الحالات كانت تظلّ على حالتها من الخمول و الخدر.. لم تعد في حاجة إلى رذاذ لزِج، له رائحة كريهة.. إنّها مكتفية بعطشها و شحوبها، و بما تتغذّى عليه من نبْضٍ يأتيها من باطن الربوة، و من موائدها المائيّة العميقة التي هي بدورها آخذة في النّشوف و التّجفّف..
كان شعري يتيقّظ لأوّل حركة تفكّ دبّوس خصلاته أو ترفع ذؤابة ما ضالّة.. كنت أشعرُ أنّه ينخرط في النّعومة و الملاسة ما إن تتوغّل أنفاسهُ في منابت شعر العنُق.. الآن صار الشعر مقصوفا، أصبحت الخصلاتُ متيبّسة.
إنّني أتحدّث ههنا عن طور هزيمة الجسد و سقوطه.. إنّ الهزيمة تبدأ بمشاعر الاستسلام.. و ليس الاستسلام ههنا تجاوبا تحت نداءات المتعة المنتظرة المرجوّة، مع مطالب الشّاهي النّاشد للمتعة.. إنّ هذا النّوع من الاستسلام هو تمرّد خفيّ بارد، يُقلع فيه الجسد عن الانفعال، عن الاستجابة الفوريّة العفويّة لشرارات المتعة.. يجوز لي أن أسمّيه حينئذ الاستسلام المتمرّد أو التمرّد المستسلم".. و يجدر بنا التّوضيح في هذا السّياق: الاستسلام القديم إنّما هو تمرّد انفعالي تفاعليّ مع مقتضيات الشهوة و تصاعد وتيرة المتعة.. وهو استسلام جنونيّ.. الاستسلام الرّاهن هو تمرّد سكونيّ جُوانيّ غير متفاعل تماما مع مقتضيات تفخيخ مناطق الشهوة، و غير متناغم مع معزوفات تصعيد المتعة إلى منسوبٍ مدهش، يضمن دفْقَ مقادير عالية من اللذّة..
إنّني إزاء خطر حقيقيّ:
أفقد براعة التقبّل، ذلك ما يسمّيه علماءُ الجنس برودا جنسيّا.. و هو ما أسمّيه : بدايات نزْع الكائن حسّيّا باتّجاه مرحلة لفْظ المتعة، بدايات العدول عن كلّ المسالك المؤدّية للنّشوة.. هو موت سريريّ للأعماق.. لم يعُد جسدي يتفاعل مع محاولات جَلْبِ المتعة لمساحاته.. إنّ مناخ جسدي في منخفض جوّي إزاء موجات الحرارة المقابلة..
إنّ ذلك سيّء للغاية و مُشين. ولكنّه الأمر واقع مفروض، ليس لي فيه أدنى خيار أو مسؤوليّة.. إنّ جسدي بمحض إرادته يرفضُ أن يبتهج حسّا فيستسلم متعةً لمشاكسات جسد آخر.. لا أجرؤ أن أقول إنّ لي حالة باردة، في ذلك شيء من الكذب.. فأحيانا تتلهّب محطّات الجسد و تكتظّ بشرارات شبه مشتعلة في مناطق يصعب تحديدها أو يُخجلُ من عرْضها..
ليس هذا هو المهمّ.. المهمّ أنّ مهمّة فسحة الجسد صارت منتهية.. وأنّ كلّ محاولات الجسد الآخر هي في اعتقادي مدعاة للسخرية و مثار شفقة ما.. أشعرُ أنّه يرتكب أقصى مهاراته بحثا عن نقطة ضئيلة ممّحية من متعة تتلاشى في جسد النّظير.. هذا ضرب من المحنة الكارثيّة.. لا يمكن لطوريْن متناقضيْن أن يكونا: لا يمكن للمدّ أن يحدث أثناء الجزر.. هي حركة غير قابلة للتّجسيد عمليّا.. قد تحدث قولا،لغة، تخييلا، أو تصويرا سينمائيّا، ربّما، أمّا عمليّا فذلك مستحيل، إذ هما حركتان متقابلتان عند حدود التضادّ التّامّ.. ذلك أنّ حالة المدّ حالة مسكونة بالتمرّد و الثّورة الإقبال و العلوّ.. أمّا الجزر فحالة محكومة بعكس ذلك، بالخمول و الاستكانة و الإدبار و الانخفاض.. يترجم جسد النّظير الحالة الأولى و يُعبّر عنها بكلّ بلاغة حركاته و أفانين إبداعه، ولا بدّ أن يكون حينها مسكونا بهاجس خلق سحريّ أو يرومُ أن يكون سحريّا.. و يعبّر جسدي عن الحالة الثّانية، بكلّ فهاهة و عَيّ ،و لا يروم من وراء ذلك أيّ جهد يعكس البراعة و السّحرَ..
_______
سيف الدّين العلوي
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية