دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

"السَّرَّاجُ"
في أزقة حارتنا الضيقة تختفي الحدود و تنعدم كل مظاهر الحضارة الزائفة .بيوت انتصبت كبيوت النحل الجبلي الذي يستطيع أن يدخل من أيِّها شاء.رائحة الجدان تتسلل في فرح تعانق الهواء تضفي على الجو أصالة تصيبك بالنشوة الدائمة. ورغم ضيق المكان فإن صدرك ينشرح عند الولوج إليه .أبواب خشبية عتيقة بين أعوادها حكايات و قصص السكان الذين كان لهم هنا أثر و أطلال و في آخر الجدار و أنت تنظر إلى الأعلى نوافذ تقوس حديدها إلى الخارج زخرفت بأشكال من الرموز لا يعلم سرها إلا صانعها .في آخر الحارة انتصبت مجموعة من الحوانيت تشبه في شكلها البيوت غير أن مساحتها بالكاد تحوي صاحبها .اختلفت هذه الدكاكين في نوع بضاعتها فمنها الإسكافي و منها العطار و منها الشيخ ابراهيم المنصور السراج ذلك الرجل الذي كلما كبر في العمر ازداد توهجا و رجولة يحسده عليها الكثير .ورث هذه المهنة عن أجداده حتى أصبح الناس يلقبون عائلته بعائلة السراج و لعل الكثير من الذين يعرفون هذه المهنة يجزمون بأنه آخر سراج في كل البلاد 
الشيخ ابراهيم رجل تجاوز عمره السبعين أحمر الوجه مضيء كقمر توهج في كبد السماء عيناه كعيني صقر مغوار تهابه كل الفرائس شاربه المفتول ذو الشعر الغزير كبدر أضاء في ليلة ظلماء.رأسه الذي لا تظهر منه غير بعض السوالف السوداء تكور في عمامة نادرا ما تراه بدونها. قوي البنية رغم تقدم السن و رغم ما تترك فيه مهنته من تعب لا يلقي له بالا دائم الإبتسامة جهوري الصوت إذا تكلم أطرب و إذا قص أنساك الدنيا بما احتوت .كان يجلس دائما أمام دكانه يفترش جلد خروف أبيض ثانيا ركبتيه إلى الخلف وواضعا أدواته العجيبة أمامه ،كل من ترميه ساقه إليه إلا و انحنى يسلم بحرارة سارقا من الوقت بعض الدقائق كي ينعم بحلاوة حديثه و رغم كل ما فيه من سحر و أصالة أفحمت كل مظهر من الحضارة أراد أن يتسلل إليه و رغم أنه جزء لا يتجزأ من الحاره فإن صنعته لا تدر عليه الكثير من المال و كثيرا ما كان يتذمر ليس من شظف الحياةو إنما من دنو اندثار هذه المهنة و دائما ما كان يردد و بأعلى صوت " لم يعد لنا فوارس تركب هذه السروج" كلام عادي من شيخ سبعيني لكنه ذو مغزى لا يفقهه الكثيرون انتهى زمن الفوارس في نظره لكنه يواصل عمله و كله أمل أن الزمن سيعيد الأمجاد و الأبطال. لم يكن لديه الكثير من الزبائن إلا بعض من القرويين كانوا يترددون عليه لإقناء بعض السروح لأحمرتهم و كان هذا الشيء يضحكه ضحكا متواصلا و يقول و هو يحدث نفسه " أصبحت سروج الخيل للحمير "
و في يوم من الأيام كان الشيخ ابراهيم كعادته أمام دكانه إذ وقف قبالته رجل يمتطي جوادا لم ير في جماله أبدا استقبله الشيخ استقبال الملوك و السلاطين بل استقبال المحاربين الأبطال حتى أنه وقف و سلم عليه بحرارة .جلس الزائر على كرسي خشبي بجانب بعض السروج و انهال عليه الشيخ بالأسئلة لا يمل و لا يكل بينما ربض الجواد غير بعيد عنهما حتى أنه سد الطريق رغم ضيقه و لكن الشيخ ابراهيم لم يعر المسألة اهتماما فليذهب كل شىء إلى الجحيم أمام هذا المنظر الذي فقده منذ سنوات .
استهل الشيخ كلامه مع الضيف بسؤاله عن اسمه فأجابه الرجل بأن اسمه اسماعيل .وقع هذا الإسم في نفس السراج موقعا أخذ كل لبه لشيء هو يعلمه عن الإسم أو ربما لذكرى كاد أن ينساها و بعد طول حديث بينهما فهم الشيخ ابراهيم أن اسماعيل أتى إليه من مكان بعيد جدا يطلب سرجا لجواده و كم كانت فرحته و سروره لسماع هذا الخبر نهض الشيخ ابراهيم كطفل غض يقفز و وضع أمامه سروجا مختلفة و بدأ يعرض عليه مميزات كل سرج منها و وجهه كاد ينفلق من شدة الفرح الذي غمره. قلب اسماعيل السروج و سأل و جادل و أدلى بدلوه و عينا الشيخ ترقب المشهد بغبطة أنسته كل الوجود و أخيرا وقع اختياره على واحد منهامع تأكيد الشيخ على حسن اختياره أتبعه وابلا من المدح و الثناء لقيمة و نوعية السرج الذي اختاره تم البيع و كلاهما يشكر و يمدح صاحبه. تناول الشيخ النقود و سرعان ما خبأها بين طيات عباءته ثم مد يده مصافحا الرجل بعد أن أتم تركيب السرج على الجواد. ركب اسماعيل جواده و اعتلى فوق السرج و قد زاد طولا و وقارا يراقبه الشيخ و لسان حاله يقول هذا هو الفارس الذي أحلم به هذا هو الفارس الذي سيعيد الأمجاد. دار الجواد دورتين أمام الدكان و طقطقت حوافره أرضية الزقاق رقص الشيخ على أنغامه و طار طربا أشار إليه الفارس بيده أنه قد أعجب بالسرج و أثنى عليه و صافحه ثم تقدم حتى ابتعد عن الدكان و عين السراج تودعه بدموع رقرقت و انحدرت على خده عالجها قبل أن تفضحه .
اختفى الفارس عن أنظار الشيخ و هو مازال واقفا حافي القدمين و بعد برهة من الزمن طأطأ رأسه و استدار راجعا إلى مكانه و جبل من الأحلام يثقل كاهله تحقق منها حلم سرعان ما انتهى 
جلس و عاد لسرجه يخيط و يعدل و يرقع دون أن يهز رأسه حتى وقف أمامه الإسكافي .فطن لقدومه استقبله مرحبا رغم الكمد الساكن فيه بيد أنه لم يمهله اكمال الترحيب و ألقى عليه سؤالا هز كيانه و بعثره "مالي أراك تحدث نفسك و تقف و ترحب و تبتسم و كأن شخصا ما قد كان معك "
لم يفهم السراج سؤال جاره أو ربما لم يستسغه فنفى ذلك و أخبره أن فارسا قد أتى و شرى منه سرجا ركبه بنفسه على ظهر الجواد .ضرب الإسكافي كفا بكف و ربت على كتفه و أعلمه أنه لم يكن من أحد معه و لم ير ذلك و أكد له ذلك العطار اغتاظ الشيخ غضبا و ظن أنهما يمازحانه مزحة أفسدت ما كان عليه و بعد جدال و أخذ و رد سقط الشيخ ابراهيم مغشيا عليه من هول ما سمع. 
مرت أيام و دكان الشيخ ابراهيم مغلق فقد ركن للراحة بعد الحادثة حتى استعاد عافيته و عاد لفتح الدكان ليس كما كان بل بانكسار واضح أحزن كل الحارة و واصل عمله الدؤوب رغم ما يحمله صدره من مرارة .غير أن جملته التي كان يرددها لم ينسها و لم يتغافل عنها فقد كان يقول "لم تعد لنا فوارس تركب هذه السروج"
انتهى 
سفيان مرزوقي

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 207 مشاهدة
نشرت فى 22 يناير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

557,720