دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

**الرجل الجالس أمامي**
كان يوما عاصفا شديد البرودة ... الطرقات صحراء ممتدة مقفرة لا أثر للناس فيها إلا من بعض السيارات التي تشق المستنقعات المتراكمة في الطرقات فتنثر امواجا من الوحل فيستقر على الأرصفة في اشكال مختلفة فيستحيل المرور ...
كنت المترجل الوحيد ... قطعت الطريق بصعوبة أجر خيالا منكسرا غارقا في الطين. لم يكن خروجي لضرورة و لكن الأرق دفعني إلى الإنعتاق من سجن البيوت و ضغط الجدران لم احدد وجهتي غير أن الجو الممطر حملني على جناح اللاوعي إلى المقهى ....
دفعت الباب البلوري و ولجت و أنا أنتفض كديك مذبوح. الجزء العلوي من جسدي كورقة عنب اغتالتها امطار الصيف و مزقت اليافها و الجزء السفلي لوحة تجريدية بلا الوان ...
كنت اول مرة أدخل إلى هذا المقهى غير ان المكان احتواني و كأني قطعة منه .اخترت طاولة عشوائيا و انخت مرهقا و قد زاد وزني الضعفين ... ردهة المقهى واسعة تضم الكثير من الطاولات كلها خالية إلا طاولة واحدة قبالتي يقبع فيها رجل خمنت انه في العقد الرابع من عمره ... التفت ابحث عن النادل حتى يسعفني بفنجان قهوة ساخنة تعيد توازني و تمنحني شيئا من الدفء فالتقطه و قد مد رأسه من وراء القُصَّةِ يبحث عني .اشرت إليه بيدي فجاء ممتقع الوجه .اكيد اني كنت زائرا غير مرغوب فيه في هذا الوقت ...طلبت منه فنجان قهوة و سرحت بفكر مبلول أظفر شَعْرَ الحياة جدائل لولبية و انتشي بعشوائيتي ... 
لدغني سحر القهوة و أنا اترشفها فسرت في عقلي قشعريرة الهبتها بجرعات من سيجارتي زادتني خدرا و نشوة و انغمست في المجهول ابحث عن مستقر لراحلتي ...لم اتفطن إلا ذلك الرجل يراقبني منذ أن دخلت إلا بعد ان كررت استراق النظر إليه. كانت نظراته متشابهة و كانها نقرات الطبل المسترسل إيذانا بالحرب. حاولت ان اطرد هواجس المكان و ان استلقي على اريكة الطمأنينة فتجافى جنبي و وخزني شوك الخوف. 
لم يُحرك ساكنا و بقي متسمرا ينظر إلي. زمجر الرعد و اهتزت نوافذ المقهى و شعرت بزلزال تحت قدمي فانتابني الخوف و زادت نظرات ذلك الرجل الامور تعقيدا. ترى ماذا يريد مني ؟ هل ينظر إلي تحديدا ام ان زاوية رؤيته احتوتني ؟ هل يعرفني ؟ هاجمتني الأسئلة و تكسرت سيوفها في عقلي و احتلني شيطان الخوف اللعين و كمم فمي .أشعلت سيجارة ثانية بيد مرتعشة ووجه ذابل و احتسيت ثورتي و ههمت بالخروج لكن المطر اقعدني دفعني الشك إلى الجزم بأنه مخبر يترصدني و لكني لم افعل شيئا و لم اكن معارضا سياسيا حتى اكون هدفا للسلطة و لو كنت معارضا فنحن في بلد ديمقراطي لا مكان فيه للإستبداد و لكننا عرب حُقِنَّا بمصل ضد الديمقراطية. احرقني عقب السيجارة و افقت من هلوستي و ضحكت على نفسي ملء سذاجتي و طردت الأشباح شاهرا في وجهها سيفي و لكن النظرات مازالت تلاحقني. فكرت في لحظة ما ان اثور في وجهه لككني خفت من المجهول لملمت تشتتي و اقتنعت بنفسي لكن الهواجس ارقتني أيكون مجرما و ينتظر الفرصة لقتلي ؟ و لكن ليس لي عداوة مع احد و لم اشاجر شخصا في حياتي و لكن القتل هذه الايام اصبح بدون سبب و لأتفه الأسباب. ماذا سأفعل إن هجم علي ؟ و ليس لي ما ادافع به عن نفسي ... لم اجد حلا لقتل الأشباح الراقصة أمامي استدرت مبتعدا عن نظراته لكنه الفضول ارجعني إلى الزاوية التي كنت فيها فوجدته كما تركته ينظر إلي .أيعقل أن يكون شخصا يعرفني و أنا لا اعرفه؟ و لكني معدم مجهول و من سيعرف عشوائيا مثلي فلست ثريا لأكون محط الأنظار و لا أنا سياسي لا يشق له غبار و لست فنانا تلتهمني اعين المعجبين و لست رياضيا تعشقه الجماهير .فكرت في اسأل النادل عنه لكني تراجعت .نظرت إلى قهوتي فوجدت عينيه على سطحها. ارتعدت و ابعدتها عني مرتعشا و كظمت خوفي خشية الفضيحة و استرقت النظر فوجدته مازال ينظر إلي فرجعت الأشباح تزمجر امامي .أعتقد أن حدسي هذه المرة لن يخيب إنه سارق يتحين الفرصة ليسرقني و لكن ماذا سيسرق مني و انا الفقير الذي لا املك من الدنيا شيئا تحسست حافظة نقودي فوجدتها في مكانها و لكنها خاوية إلا من بعض الملاليم التي لا تسمن و لا تغني من جوع ...جننت و كدت ان اصرخ في وجهه و لكني رايت النادل يقترب منه شيئا فشيئا و هو يمسح الطاولات بقيت أراقب ما سيحدث حتى دنا من طاولته فانحنى و مسحها فاختفى ذلك الرجل وراءه .انتظرت ان يكمل مسح الطاولة و ان ارى وجهه و هل مازال ينظر إلي .اكمل النادل مسح الطاولة و سوى الكراسي الاربعة بما فيها كرسي الرجل و لكن أيعقل ان يسوي النادل الكرسي و هو جالس عليه .تلعثمت و مسحت عيني و اعدت النظر فرايت الرجل مرة اخرى بعد إن ابتعد النادل 
لم يكن ذلك الرجل الجالس امامي إلا جزءا من لوحة حائطية لإعلان كتب عليه "معنا مستقبلكم مضمون "
قهقهت حتى شرقت و انتابني سعال ارهقني و احسست بانقطاع الهواء فجرى النادل إلي يسعفني بشربة ماء تعيد لي الحياة .شربت جرعات متتالية إلا أن استعدت توازني فبادرني النادل بالسؤال: "مابك يا سيدي؟ "
مسحت فمي من قطرات الماء و أجبته و انا اشير إلى الجملة المكتوبة في الأعلان :"اضحكتني الجملة المكتوبة في اللوحة الإشهارية (معنا مستقبلكم مضمون) ".لم يعلق النادل على ما قلت و اكتفى بابتسامة مجاراة و انسحب و بقيت أفكر في المستقبل المضمون و من هم الذين سيضمنون لنا مستقبلا و نحن نتخبط في حاضر غير مضمون و من هذا الذي اختار ذلك الرجل واجهة للإعلان نظراته وحدها كفيلة بان تجعلك لا تضمن إن كنت موجودا اصلا او غير موجود ...
دفعت ثمن القهوة و انصرفت تاركا ذلك الرجل وحده ليواجه مستقبله و الشخص الذي سيجلس مكاني أيكون مثلي ام أنني الغبي الوحيد الذي يخاف من نظرات العيون ....
انتهى 
سفيان مرزوقي

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 116 مشاهدة
نشرت فى 21 يناير 2018 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

563,868