دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

كلّ أطوار حياتي و معظم الأحداث و تفاصيلها خلالها، كانت مدعاة للبكاء، ومع ذلك فأنا لا أذكرُ أنّني منحتُ تلك الأطوار و الأحداثَ ما تستحقّ من التّفاعل الباكي.. أذكرُ أنّ لأبي ،قبل موته، دورا في جعلي أمقتُ البكاء و أعلو فوقه.. كان يقول لي: أنتِ فتاة جميلة طالما ظللتِ قويّة. و القوّة هي أن تَعْلي فوق البكاء. هذا يعني أنّك حين تبكين تصبحين دميمة. وهو ما يعكس أنّ البكاء ضعفٌ ،هشاشة و سقوط. أتودّين أن تفقدي شرط أنوثتك و جمالك؟ إذا أردت ذلك فتعلّمي البكاءَ"..
منذ ذلك الحين و أنا أتمثّلُ نصيحة والدي. و لذلك حين قضى نحبَه، كنتُ أحتقرُ الباكين و النّائحات.. كنت أشفقُ على أمّي لأنّها فقدت تماسكها و صارت نهْبًا لألم لا يتردّد في استدرار كلّ مخزون بكائها.. رأيتُ أمّي ضعيفة، و دميمة، وهي تبكي. و رأيتها تنزل من عليائها إلى ما تحت البُكاء. و تلك كانت درجة لاإنسانيّة.. فإذا كانت الاستجابة إلى البكاء في الحالات الشّبيهة بالموتِ، تعبيرا عن يقظة البعد الإنسانيّ لدى بعض النّاس، فإنّها في اعتقادي، حالة انحدار نحو اللاإنسانيّ.. بعد موت والدي رسخت لديّ معادلة قيّمة _سأعملُ على تطويرها لاحقا_ : البكاء=ضعف=قبح . اللاّبكاء = جمال = قوّة.. هكذا يكون الجمال و القوّة شارطَ صراعٍ، كفيلا بضمان صمودٍ أطولَ.. في مراهقتي تعرّف عليّ شابّ وسيم. و بمرور ردح من الوقت، توطّدت بيننا العلاقة حتّى لم يكنْ بُدّ من فقْد صبره،و لم يستطع مقاومة نزوعه الغرائزيّ البِكْر، فافتكّ منّي قبلة سريعة، في ساعة لم أكن جاهزة فيها للتّقبيل المستعجل التّافه، لذلك كان عليّ أن أصفعه بعنف. فعلتُ بلا تردّد.. و أوشكتُ بعدها على أن أقدّم اعتذاري.. أردتُ أن أقول له: لو أنّك اخترتَ إطارا مناسبا لتلك اللّقطة النّبيلة، لكان أجدى. لو أنّك امتثلتَ لقانون اللّحظة الجميلة، ولمعيار أداءِ الحُبّ بنعومة، لكنتَ الآن قويّا صامدا.. أردتُ أن أعتذر حقّا، غير أنّني، حين لاحظتُ دمعة ترقرقتْ في عينيْه حيث وقعت صفعتي بجوارها، و حين بادر إلى الاعتذار قائلا: "لم أستطع الصّبرَ عليها، لستُ أدري ما الذي دفعني إلى ارتكاب ما ارتكبتُ". شعرتُ أنّه ضعيف، و أنّه بدمعته تلك اللاإراديّة و باعتذاره المجانيّ الرّديء، انحدر تحت خطّ الرّجولة.. و في هنيْهة سريعة وجدتُه دميما، وإلاّ لماذا ترقرقتْ منه دمعة وحيدة؟ لماذا صنّف فعلتَه النّبيلة ضمن باب الخطأ والإثم، وسمّى فعلَه الجماليّ ارتكاباً،وهو اللّفظ المقترن بدلالة آثمة؟
عرفت فيما بعد أنّني مارستُ ضدّه قسوة بالغة.، وأنّه كائن إنسانيّ مسالم نبيل إذْ لم يرتكب أيّ إثمٍ حقيقيّ. وإنّما كان أداؤه يتّسمُ بالعفويّة.. عرفت كذلك أنّ ما سمّيتُه نزوعا غرائزيّا لم يكن نزوةً طائشة فجّة بقدر ما كان استجابة لولع جماليّ خفيّ بجمال جسديّ متجلّ.. 
_________ 
سيف الدّين العلوي
من رواية بصدد الكتابة

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 103 مشاهدة
نشرت فى 18 ديسمبر 2017 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

580,298