جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
قطرة مطر
رفع محمد علي رأسه إلى السقف ، غطى وجهه بكلتا يديه ، سقطت في فمه قطرة ماء ، نفرت من شق صغير في السطح ،الأمس تقدم في خطوة إلى الأمام ، تبدد للزمن ، لم يكن طعم الماء كما يبدو ، وليس الإنسان من تراب ليعود إلى تراب ، إنه روح .
سألته زوجته :
- لماذا تغطي وجهك
- لا بأس ..حقا لاشيء ..لا بأس
شيء طالما أخفاه ، ارتسم على محياه إحساس أن النبوءة تقترب ، من قبل لم يحدث له أي سوء من تذكر الواقعة ، اضطرابات عادية ، في هذه المرة هناك خطر أن الشاهد بدأ يدور ويدور من حوله .
عاد وأغمض عينيه عاقدا كلتا يديه اللتين تعرقتا ، مركزا عينيه بقوة إلى الأعلى ،كان عليه أن يؤكد أنه قادر على السيطرة في موقف لا أحد يعرف عنه شيئا ،والوصول إلى سلام داخلي مع نفسه ، بحث عن راحة أو رفيق في خوفه ، نظر إلى زوجته الجالسة قربه ،وعندما لحظت ارتباكه ،غام به شعور أنه لم يجد فيها عونا له ، وارتسم على محياه الجهد في إخفاء الألم الذي تحدثه ذكرى طال دفنها ، فالتفت بعيدا ،ومضى ينظر إلى الخارج .
تناهى إليه صوت زوجته جافاً ، وبدت كلماتها ملغزة ، فشعر بعدم الارتياح :
- ثمة شيء يضايقك أليس كذلك ؟؟!!!
- كلا ..ولكن أشعر بألم في رأسي .
في غضون تلك الأيام كانت الغيوم السوداء الخريفية تطأ درب الهضبة الشديدة الانحدار ، توقف رجلان يستطلعان الأفق ، أمامهما جبل عال جدا ، تطلعا جنوبا وشمالا يتفحصان المكان ، في ممر ضيق تدرجات مرصوفة بالحجارة،تضفي إلى مغارة حفرت في صخرة ضخمة ،عند الباب توقف محمد علي، فيما جاره انزلق إلى الداخل ، إنها باردة ومظلمة ، شعر برعشة توقف تأرجح الصرة على عموده الفقري ، أخرج من صندوق صغير شمعة، أشعلها بابتهاج شديد ، على انبعاث الضوء الخافت ،قرر أن يتمدد واضعا الصرة تحت رأسه ، ولم يدري أنه سيقوم بدور القتيل .
لين محمد علي ملامح وجهه بشكل خطير، وتكلم بصوت أنعم من الحرير جاهدا في إخفاء رجفة صوته ، لبث الاطمئنان في قلب صديقه :
- سنوقد النار ..ونغلي إبريق شاي .
- لماذا عينيك واسعتين ...
-خائف
-ممن ؟؟؟؟
هبت عاصفة سوداء خريفية ،وعندما هدأت عوت الذئاب :
-أخاف من الذئاب أذا شمت رائحتنا قضي علينا .
- لا تخف سنجلب حطب ونشعله على باب المغارة .
أقترب صوت الذئاب النابحة أكثر ، لكنها مازالت بعيدة ،أومأ محمد علي برأسه ، ثم نزلا إلى الأسفل لجلب الحطب ،قال :
- هذا يكفي إلى الصبح
أوقد النار على باب المغارة ، توجهت عيناه صوب الصرة جزء من الثانية ، فيما جاره يجلس القرفصاء فوفها ، قال له :
- لا نستطيع أن ننام نحن الاثنين معا ....سأنام أنا أولا وعندما يغلبك النعاس أيقظني .
تمدد فوق حصى ناعمة مرصوفة بعناية ،ونام ، ثمة نداءات في داخل جاره تتوسل إليه " عليك الهروب من هذا المكان " ، لكن الذئاب زمجرت وأصبحت أقرب ، والعاصفة اشتدت ، مما جعله يتراجع ، شعر بالألم في رأسه جراء تدفق الدم المتصاعد إلى صدغيه ،أحس بأنه خذل ،وأنه غبي، فهو لم يغترب كل هذه السنوات كي يعود خالي الوفاض ، نظر إلى محمد علي بفضول ،إنه يبدو أقوى مما يوحي إليه جسده ، عاد الصوت يناديه " ارحل من دونه " إنه مثل عجوز ضعيف يعرف ما هو مخبأ له ،لكنه لا يستطيع مواجهته .
أستيقظ محمد علي مع أول خيوط بزوغ الفجر ، ورأى جاره يتهيأ للرحيل وحده ، ثبت عينين لبدَتيْن إلى الصرة التي يحملها جاره بيده ،أومأ إليه ، سائلا بصوت خافت مكتوم :
- لو قتلتك من سيشهد علي
نظر إليه بسرعة متوقعا رؤية ملامح الدعابة على محياه ، لكن بدت أكثر عزما على العدوانية ،ارتاب، قد يكون لديه نوايا لقتله ، التفت برأسه عدة مرات أخذ ينظر بكلتا عينيه واحدة إلى سقف المغارة ،واحدة إلى محمد علي ، رفع أصبعه وأشار إلى قطرة مطر توكف من مسامات السقف ، قال متوددا بارتباك:
- قطرة المطر هذه ستشهد عليك
زم محمد علي شفتيه ، وحتى الآن وإلى هذه اللحظة استمرت قطرات المطر تسقط واحدة تلو أخرى ، بدأت يداه ترتعشان ،واتسعت حدقتا عينيه كحلقتن ، خرج من فمه شخير مخيف وهو ينهض :
- أيها الحقير ...تريد أن تتركني وتذهب .
فتح كفه اليمنى وسحب باليسرى طرف قميصه إلى الأعلى ، ضم أصابعه على قبضة خنجر ،الذي لمع كالفضة تحت ضوء القمر ،نظر إليه نظرة مخيفة ، تراجع جاره خطوة إلى الوراء ، زمجرت الذئاب داخل محمد علي وسال لعابها ، بدا وكأنه بعد انكشاف الحقيقة أنه راضيا ، تردد جاره متمنيا أن لا يفعلها ، اقترب منه حابيا ، ولف ساقي محمد علي بكلتا يديه ، وقال متوسلا :
- من أجل الله لا تقتلني
ركلة بقوة ، كان مقبض الخنجر مطوقا بمخالب حادة ، مسك جاره بأذنه وأنهضه :
- كيف تجرؤ على الذهاب من دوني
دفعه بقوة إلى جدار المغارة ،أحس بألم في رأسه ،قفز نحوه بقوة وهو يهوي بالخنجر على قلبه ،دفق الدم من فمه المفتوح خوفا ،وتدحرج صوت شخيب الدم يصرخ :
- قطرة المطر ستشهد عليك .
تخيل أن النداء ينتشر الآن في كل القرية،نداء تلو الأخر ،تحتشد في قطرات المطر التي توكف من السطح ،وتملأ دهليز أذنيه ببقع ضجيج،متجهة بثبات إلى لسانه ، فرك عينيه ،وفغر فمه مذهولا ،وتحدث بصوت عال :
- أنا الذي قتلته
راقبته زوجته بعينيها الصغيرتين ، وقد تحسست الثقة تتداعى في نفس زوجها .
- أنا زوجتك ..وأم أولادك ..وسرك وراء سيعة أبواب ...قل لي من قتلت .
أخفى يديه المرتجفتين وراء ظهره ، أخذ نفسا عميقا ،امتلأت أذنيه بآلاف الأصوات الهجومية، ورغم تلعثمه كانت كلماته واضحة:
- أبدا ...مستحيل لن تقولي لأحد ..لقد فعلت ذلك من أجل حياتنا ...حياة أولادنا
وفيما يتكلم واليأس ملأ قلبه ، جلست زوجته القرفصاء تهدهد روعه :
- قل لي من قتلت
- جارنا منذ عشرون عام
- أهدأ أنت في أمان مادام لا أحد يعلم بالحادثة .
أحس بارتياح يلف كيانه ، و نظر إلى الأعلى ، فشاهد ظلمة باستثناء صيحات حلزونية تنزل عليه من قطرة مطر " سأشهد عليك ".
أحس أن رجلاه تقفان ، مد ذراعيه إلى الأعلى ورفع ذقنه ،وسلم نفسه لدوامة صراخ هستيري :
- أنا قتلته أنا قتلته .
أمسك شيء بلسانه فأبكمه ، وبعينيه فساد الظلام ، ثم فقد حواسه واحدة تلو الأخرة.
فؤاد حسن محمد -جبلة- سوريا
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية