دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

أرجــوحة عـلى الــهاوية: 
عند الفجر كنت أحمل حبلا..
هناك ، عند التـلّـة المشرفة على الجرف سيكون الموت شهيّا.. سيكون الموت محفوفا بالعذوبة، متعاليا و له حضور فلسفيّ أو بعد صوفيّ.. حين حملت الحبل و جعلت أرتقي الحُزون وأعانق الصخر تشبّـثا . و كانت الشجرة الضخمة بانتظاري.. و لكن كيف نبتت عند أعلى التلة بتلك الضخامة الغامضة الجميلة الفاتنة ؟ لماذا انتصبتْ تُطلّ على الهاوية فوق نهر صخريّ معطل ؟ أوَ كان من أنبتها هناك قد أعدّها لتشهد ميلاد حدث عظيم هائل كالذي أصعدُ من فوري لإنجازه ؟ المهمّ أن الشجرة التي تنبت في أعلى التلّـة و التي تشرف على فضاء من فراغ شاسع، كانت تقبع خضراء يانعة سامقة شهيّة الوحشة نيّرة العرْي بانتظاري ... بلى ! بانتظاري أنا .
في الصعود إلى شجرة الهاوية ، لم أكن أتعثر رغم حدّة المكان و عسر المرقى . و كان الحبل طويلا. ذلك أنني حين خامرتني فكرة الانتحار من شاهق الأمكنة ،فكرت كذلك في احتمال التراجع عن تنفيذ المهمة الجليلة أو تغيير مسار الخطط المرسومة في البال..
" الخطّة أ"- أن اعقد أحبولة المشنقة و أشدها إلى غصن الشجرة الأصلب بإتقان. ثمّ أدع جسدي ينقذف في الفراغ الشاسع دون أن اسمح لمسافة الموت أن تطول. كذلك تكون الميتة ومضة مثل قصائد الهايكو اليابانية .عاجلة جدّا ، خفيفة لكنها تترك شعلة تتلهب كالشماريخ فوق سحيق ظلمة الهاوية . تخيلت لحين أن روحي تنفجر في محض تلك الظلمة زرقة أرجوان و لهب شفق ، يومئ بصفاء يوم لاحق .
الخطة "ب"- أن اشدّ الحبل إلى جذع الشجرة المتين .يبدو انه الجذع وتد الثلة المغروس في رحمها أن تميد بنا في الحياة الآمنة التي ما يزال الكثير ينشدها . ثمّ أدلّي بالحبل فوق فراغ الهوّة و أتدرج في الهويّ، حتّى إذا انتصفت المسافة تركته، و سارعت إلى التهشّم على الصخور الثابتة في طريق الذهاب إلى السفح السحيق . سيكون الموت آنئذ بطيئا يتلمس الدرب إلى النهاية . و لكن ما أخشاه أنّ جسدي آنذاك سيكون عرضة للسخرية. لسوف تسخر روحي منه على طريقة " جيري" حين يوقع "طوم" في فخ ، ثمّ يتخبّط هو مِنْ غبطة، ظهرا لبطن ثمّ بطنا لظهر... حينها يكون جسدي في سقوطه قد تجزّأ تدريجها أو تناقصت أعضاؤه على نحو جالب للضحك . حينها تكون روحي قد قفزت عبر منطاد ملائكيّ، و تكون قد جعلت تخفق كالعطر و تتأرّج في أرجاء الظلمةِ انتصارا بنجاتها..أو توهّم نجاتِها..
الخطّة "ج"- تكونُ حين يصيبني الجبن و أتداعى للندم فأفشل و تذهب ريح العزيمة، لا أترك الحبل الملفوف على ذراعي . حينها أكون قد نظرتُ إلى المسافة الضوئية التي تدليت منها، و لا أسمح لنفسي بالسقوط في الجزء الكبير المتبقي مِن الوحشة و الظلام . حينها لسوف تسكنني روح عنيدة جديدة تنضاف إلى روحي القديمة الساخرة ، تركبُها و تتغلب عليها تمتهنها و تغتال فيها الضحك النذلَ .
إن تلك الروح الجديدة تدفعني إلى العودة إلى أعلى التلّة ، لأسند ظهري إلى جذع الشجرة العملاقة وألتمس أنْ أتوازن...ثمّ أتمثل اللحظة التي كان جسدي سيكونها بعد أن يُـدَقّ عنقي وأتشظّى .. عند جذع الشجرة سأستعيد لحظة ميتتي المظلمة .. و لسوف أضحك بعدها من روحي القديمة " ما كان يحدث مع القطّ الكرطوني جيري ". و أتقلّب من ضحك متشـَـفٍّ صفـيق.. 
راودت ذهني تلك الأفكار اللائطة (لقد استوجب فعل راود صفة لائطة بالضرورة) أثناء صعودي صخور التلّة إلى الشجرة .. كنتُ فكّـرتُ، و أنا عند السفح، و كنت ألهثُ: إذا كنتُ سأعود إلى السفح و أنا ما أزال على مقربة منه، فلماذا أتكبّد عناء الصعود !؟ ولمَ لا أنطحُ رأسي في إحدى الصّخور وتنتهي المسألة بيُسْرٍ؟ (إنّها ميتة غير رومنسيّة).. أعرضت عن سؤالٍ يمنح الإحساس بأنّي جبان. و يؤشر بالتراجع عن قرار شجاع حكيم .
إنّ فكرة الانتحار قرار موسوم بالحكمة ، و المقبل عليه موسوم بشجاعة بارعة .. إنّ الانتحار فعل إرادي و لو لم يكن كذلك لما كنّا نتحمّل تبعات عقابه و نحاسب على أنّه قتل نفس عمدا . هكذا تصبح عظمة هذا الفعل في اقتران إراديّته بمسؤولية من يُقبِلُ على إنجاز تلك الإرادة . 
هذا ضرب في الأفكار اللّائطة التي تراود الذهن أثناء صفائه وهو يهمّ بإنجاز مهمّة نبيلة خالدة.. ولكي أطردها وأحافظ على صفاء ذهني، جعلتُ أدندن بأغنية أعتقد أنّها جميلة:... 
كنت بالغناء أبعثر تكتلات الحيرة في أعشاش حول روحي، وأحاول نسف احتمالات أنّ الخوف يتسرّب إلى كياني.. كنت بالغناء أرسِّخُ الإحساس بالشجاعة. أو أجمع منثورها في دمي.. متى رمتَ مطلوبا في نفسك ـ فاسْعَ إلى أن تُزكّيَ حضوره فيك:
إنّ الحياة قذرة، حقيرة، و ضنينة على المنح .. لذلك ينبغي أن تبترها...لا.. هذه فكرة فاجرة مغالطة. تنهض على الكذب. ولا تمثّل دافعا حقيقيّا للموت أو للانتحار .. إذن ربّما كان الصواب أنّ الحياة جميلة عظيمة و لم تكن قطّ شحيحة على العطاء السابغ .. ألم تخوّلْ لك التنعّمَ بغنائمها ونعمائها.. حسبنا مِنْ آلائها الحبّ.. تلك الطاقة الإيجابيّة المنتجة للكون.. وحسبنا من آلائها الكراهية.. تلك الطاقة الإيجابية التي تنتزع للرفض. رفض البشع في الحياة.. والبشاعة فيها، مهولة الحضور.. وعلى الكراهيّة عندئذٍ، أن تكون كثيفة مرصوصة. ''إنّ الحياة في الحقيقة سخيّة مع من يعيش أسطورته الشخصيّة ''.. كذلك حدّث باولو كويلو.. و كذلك أضاف "إنّـنا نحن من يغذّي روح العالم".
هو ذا مَكمَنُ الداء .. نحن من يـُغذّي روح العالم! و هذا هو دافعي في الانتحار.. لقد توصّلتُ إلى أنّه لم يعد بإمكاني تغذية روح العالم.. إنّ تغذية تلك الروح تحتاج إلى إمدادات من داخلٍ نَـقِيٍّ.. إنّ زيوت روحي المغذّية لجمال روح العالم شحيحة، حتى إنّها تؤول إلى جفاف.. وإنّ الفتيل تيبّس. والنور يتقلّص، فهو يَـضمُـر من بُهرته إلى ذُوِيِّ الأفولِ.. لقد أضحى القنديل صفيحا متّشحا بالقِـدم ويعفِّـرهُ سوادُ انطفائاته المتتالية ..عند الهاوية من أعلى الثلّة تحت الشجرة سأشنق ذلك الصفيح المنطفئ الصدئ الآفِلَ النور .. على نتوءِ صخر الهاوية، في ظلمة الانحدار، سيتحطم قنديلٌ ما عاد قادرا على تغذية روح العالم بنوره وجماله...
----------- 
سيف الدّين العلوي / مقطع روائيّ

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 83 مشاهدة
نشرت فى 6 أغسطس 2017 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

564,849