جارى التحميل
استخدم زر ESC أو رجوع للعودة
في المساءِ ، هجعَ العالم.. فتزيّنتْ تلك المرأةُ. انكشفَ مِنْ جمالِها ليلاً ما كان متواريًا في النّهارِ(لا يجتمعُ ضوءان في ظلمة رجل واحد).. ها أنا ألاحظُ التّناسُقَ بين أبيضِ الفخذيْن وأسود "الجونيلاّ".. ها إنّي لذلك أستحضِرُ الآن قولَ رولان بارت في "لذّة النصِّ": " أليس الموضِعُ الأكثرُ إيروسيّةً في جسدٍ ما هو حيثُ ينفرِجُ اللّباسُ؟...إنّ ما هو شبقيٌّ كما بيّن التحليلُ النفسيُّ ذلك جيّدا، هو التقطّعُ: تقطّع لمعانِ البشرةِ بيْن قطعتيْن من اللّباسِ [السروال، القميص] بين حافّتيْن[القميص الموارَبُ، القفّازُ والكُمُّ]،هذا اللّمعان ُ الذي يفْتِنُ." .. ها حضرتْ أنثايَ بأنوثةٍ كاملةٍ .. حتما تـَنْوِي بحضورِها الشّبِقِ إيقاظَ كلِّ عصافيرِ اللذّة الغافية.. حين تحضرُ الأنثى بأبّهةِ بهائها تلك، فإنّها تكونُ قد تغذّتْ بروحٍ استعماريّةٍ قاهرةٍ.. كانتْ أنثاي آنذاك تقترِفُ شكلا مِن أشكالِ الغزوِ الإمبريالي عسكريًا و ثقافيًّا.. إنّ شبْهَ العُريِ الذي تجلّى في زيٍّ كان يُبْديه على نحْوٍ اجتياحيّ، يحْمِلُ مشروعَ صَدْمٍ حضاريٍّ..
يبدأ الصّدمُ الحضاريُّ لِبُهْـرةٍ نورٍ مكتسِحَةٍ، تُثيرُ شيئًا من انبهارٍ آسِرٍ(كلّ بُهْرةٍ هي بالضّرورةِ مُبْهِرةٌ).. حين يتلألأ الجسدُ بضوْءِ بياضِ لَحْمِهِ، تنكسِرُ الأضواءُ الأخرى، و يرْتعِشُ المصدومُ خوْفًا على هويّةِ وجودٍ مُهدَّدٍ..حين يترقْرَقُ ضوءُ الفخذيْن أو ما شابهَ، تلتطِمُ ظلماتُ الكيانِ في الكيانِ،و تصطرِعُ خفافيش الدّواخلِ المعزولة بحثًا عن منافذِ للخلاصِ مِن نورٍ مُعْشٍ.. إنّ هويّةَ الذّكورة حين يترقرقَ بياضُ جسدِ ما تحت "الجونيلاّ" تختلِجُ.. للجسدِ الذّكوريِّ، قبلَ غزوِ الجسدِ الأنثويّ، هويّتُهُ الشّامخة.. إنّه جسدٌ ثابتٌ راسخُ الإيمانِ بقوّةِ سلطتِه وسلطةِ قوّتِه. وفيه مِن الاعتقادِ بأنّه غيرُ قابلٍ للقهْرِ ثـِقة مطلقة أو تكاد.. كان جسدي قبل أنْ يُهرَعَ إليّ عُريُها، آهِلاً بالامتلاءِ، واثِقًا، منصرِفًا إلى خيالاتِ متعةٍ أخرى يَصْنعُها كتابٌ عظيمٌ تتصفّحُه يدايَ.. كان ثمّة في الكيانِ زوايا مظلمةٌ تجولُ في أرجائها خفافيش مطمئنّةٌ مستسلمةٌ للسوادِ الغامقِ المتخثِّرِ، وقد ارتختِ النّفسُ في طمأنينتِها الوجسةِ .. حين أومضَ في الجسدِ بَرْقُ حضورِه العاري، فزِعَ الظّلامُ وارتطمتْ كائناتُه التي تحتفِلُ في ظلمتِها بِبعضِها البعضِ. فتأهّبَ للضّوءِ .. حين تقدّمت تلك الأنثى نِصْفَ مستورةٍ، نسيتُ مسألة الهويّة.. إنّ لكلا جسديْنا هويّتَه المخصوصة.. ومِنْ لقاءِ النّور والظلمة (ربّما النور بالنّور) ومِمّا يكونُ بينهما مِن صِدامٍ تاريخيّ ستكونُ للجسدِ الجديد(إنّ الجسديْن آنئذٍ واحِـدٌ) هويّة مولّدة.. أليس حوارُ الحضاراتِ تناغماً جدليًّا بيْن الذاتِ والآخرِ.. كان جسدي وهو يَهُمُّ بالصّدامِ، و يُحاورُ، يُقدِّمُ أنموذجَ خصوصيّةٍ فريدة مستعدّةٍ للتفاعلِ مع أنموذج خصوصيّة أخرى..
سيتيحُ لنا لقاءُ اليومِ أنْ نختبِر مدى فَهْمِ كليْنا للرومنسيّةِ.. لن نختبِرَ فهمَنا لها فحسب، بل نختبر أداءَنا الرومنسيَّ .. لن تكون المناسبة مناسبة َ كشفِ تمكّنٍ بطوليٍّ(كما حدّث صديقي الذي حدّثتكمْ عنه في موضوع فتوحِه) ولا امتحان طاقاتِ الفعلِ البشريّ الفـَذّ.. تلك المسألة تحدثُ تلقائيًّا في تضاعيفِ النّزهةِ التي تنجِزُها الأجسادُ،إذنْ لا محيد لنا عنها.. علينا حينئذٍ أنْ نستعدَّ للنزهةِ المثيرةِ ذاتِ النّزوعِ الرّومنسيِّ.. ونحن حينئذٍ، مُجبرون على أنْ نتساءلَ حول الاختلافِ الجذريّ:
ما الفرْقُ بيننا وبين أيّ حيوانٍ يُمارِسُ تلك السياحةِ أيْ في خروج الجسدِ مِنْ دائرةٍ قطبيّة إلى دائرةٍ قطبيّة أخرى؟
أمّا لحظة الفعلِ حيث يشهَدُ الجسدانِ نخوةَ الهويّةِ الخاصّة الخالصة، و يندمجانْ في الحوارِ اللاّهبِ،فنحنُ فيها نُضارِعُ أيّ حيوانٍ آخرَ، تُوحِّدُنا حركاتٌ متشابهةٌ.. نتقاطعُ في ازدحامِ الشهوةِ و تصاعدِ وتيرةِ الصَّبْوةِ. وقد نسكرُ بتوحّشِنا ونَطْرَبُ للّهاثِ المُطرَّزِ بالعرقِ المُقدّسِ.. و أمّا ما يسبِقُ ذلك الفعلَ و ما يليه مِن طقوسِ النّزهةِ النّزيهة فتلك هي حدود الرومنسيّةِ الفارقة:
الجسدُ الذي يُقبِلُ عليْك،إليْك، متردِّدًا بيْن لونيْن،متردِّدا بيْن حاليْن ـ احتجابٍ و تجلٍّ، و قيمتيْن ـ عُرْيٍ وسِتْرٍ.. ما تمنحكَ اللوحةُ مِن انفعالٍ عُذريٍّ عمّا قريبٍ يستحيلُ إلى تفاعلٍ "عذباحيٍّ" .. إنّ الانفعالَ العذريّ الانطباعيّ الأوّل الذي يُداهِمُ روحكَ ويجعلك ترتدُّ مزدرِدًا ريقَكَ منتِجًا حواراتِكَ الباطنة َ:"أهذا الجسدُ الكلّيّ لي !؟ أهذا المَدُّ المَوْجِيُّ الدّافقُ نحوي يطلبُ ساحلي أم غياهبَ العُمقِ !؟"..إنّ ذلك الانفعالَ هو الفارِقُ الرّومنسيّ بينكَ وبيْن دُبٍّ مثلاً أو كلبٍ أو ديكٍ.. إنّ الإجابةَ عنْ سؤالِ: لماذا لمْ تأتِكَ الأنثى عارية تمامًا أو مستترة تمامًا منذ البدايةِ، تحدِثُ الاختلافَ بينك و بيْن كائنٍ حيوانيٍّ.. إنّ الاستتارَ التامَّ في مثلِ هذه الحالاتِ لا يمنحكَ الإحساس بأنّكَ معنيٌّ بالاستدراجِ و الإغواء و بأنّكَ الرّجولة المطلوبةُ المُسْتَنْفَرَةُ المعمولُ على إرْباكِها.. كما أنّ التعرّي التّامَّ إجهازٌ فوْريّ على التخيّلِ الفنّيّ الذي يُهيّءُ لك تصاميمَ إنجازِ قصيدةٍ أو نصٍّ فاتنِ العظمةِ ذلك أنّ التعرّي الكلّيّ جهوزيّة غير مُثيرةٍ لاحتمالاتِ التّشكيلِ الذّهنيّ المُجرّد.. و هي بذلك إجهازٌ.. في حين أنّ التعرّي النِّصْفيّ أو الثلثيّ هو إحالاتٌ خاطفةٌ على حضورٍ شاملٍ بارعٍ.. ما مِنْ حضورٍ عظيمٍ إلا تسبقُه إشاراتٌ لطيفةٌ دالّة.. انظرْ مثلاً حضور الوجودِ الكونيِّ وخلقِ الدّنيا كيف تمّ الإيماءُ بحدوثِهِما وحلولِهما(.الصّدمة الكونيّة العُظمى).. انظرْ مثلاً تبجّسَ الأنهارِ الكبْرى أو انفجارَ تسونامي أو انفلاتاتِ حِممٍ بركانيّةٍ هائلة.. أو تصدّعَ هويّةِ أمّةٍ أو بدايةِ أفولِ حضارةٍ أو لمعانِ بريقِ أخْرَى.. انظرْ مثلاً كيف تولَدُ الصاعقة... هكذا يكونُ نِصْفُ العُرْيِ الذي هو نِصْفُ السّتْرِ و اللّذانِ هما معًا إحالةٌ على الشّيْءِ وضديدِهِ في آنٍ، إيماءً بليغًا على حدوثِ أمْرٍ جلَلٍ: انصهارِ الهُويّتيْن المتنافرتيْن في بوتقةِ المعدنِ الواحدِ.. لا غَرْوَ أنّ الأنثى التي تأتيكَ بالأمرِ العظيمِ تكونُ على وعْيٍ أو حَدْسٍ بِفَنِّ استنفارِ المعاني الضّامرةِ، و تكونُ على دربةٍ رفيعةٍ مِنْ خوضِ صراعٍ رومنسيٍّ جارحٍ.. كما لا غرْوَ أنّ الأنْثَى التي تحلُّ في حضرتِكَ مستورةً تمامًا أو عاريةً تماما تكونُ على فهاهةٍ تامّةٍ و عَيٍّ أصمَّ يسْتغْلِقُ بِهِما فهمُها عن خافياتِ أسرارِ تلك الحضرةِ الذكوريّةِ (قدْ يَحدثُ ذلك في المباغي حيثُ يكثُرُ الاحترافُ و لا ينتظرُ المرءُ حضورًا رومنسيًّا منطويًا على الجمالِ)..
لقد أوحى لي حضورُ تلك الأنثى المراوغُ بأنوثتها الكاملة الكامنة و بِعرْيِها النّصْفيِّ بتلك الخواطِرِ السريعةِ و بذلك الشِّعـْـرِ النَّقِيّ.. تهيّأتُ للنّزهةِ.. حثثْتُ رومنسيّتي المُبَعْثَرَةَ في الدّواخِلِ على أنْ تتجمّعَ.. قلتُ:" إنّ الأمرَ الذي سوف يحدُثُ عظيمٌ.. لا بُدَّ أنْ يكونَ الاحتفالُ بعيدِ ميلادِها " فارقًا رومنسيًّا.. عدّلتُ جِلْستي.. كنتُ، حين أتتْ نِصْفَ مُسْتلْقٍ. و حالما حلّتْ أنوثتُها الاستعماريّةُ، أخذتْ هويّتي في الانحناءِ، فاعتدلتْ جلستي.. وضعتُ الكتابَ:"بيت الأرواح" على كومة الكتبِ التي تتكدّسُ حذو سريري.. (إنّني حين أتخلّى عن كتابٍ فلا ينبغي أن يكون ذلك إلاّ لـشأنٍ يُضاهي شاْنَهُ أو يفوقُه، ولا يكونُ ذلك إلاّ لمتعةٍ لها حَجمُ متعةِ كتابٍ جميلٍ أو ترْبو عنها.)..تعثّرَ الكتابُ في مزدحَمِ كدس الكتبِ ، فسقط.. ذلك أنّ لهفةً خفيّة خلتْ مِن الاتّزانِ، كانتْ قد قادتْ يَدَيَّ إلى وَضعِهِ بيْن الكتبِ وضعًا عشوائيًّا (إنّ سقوطَ كتابٍ أحِبُّهُ ولم أنْهِ بعدُ قراْتَه، يؤلِمني كثيرًا و لا يُمكنُ أنْ يُخفِّفَ هذا الألمَ إلاّ حدثٌ يرتقي في المنزلةِ إلى مرتبةِ ذلك الكتابِ، أو يمكنُهُ أنْ يُلملِمَ هذا الذّعْرَ و يكْنِسَ صوتَ التهشّمِ الذي لا يسمعُه سوايَ حين يسقط شيءٌ نادرُ المتعةِ مثلُ كتابٍ).. هكذا إذنْ أغلقْتُ الكتابَ(يعني قطعتُ لحظة َ انهماكٍ في بُرْهةٍ عاليةٍ من اللذّةِ والجمالِ).. وعدّلتُ جلستي(يعني خرجتُ مِن حالةِ استسلامٍ لِـهيئةٍ جديدة أخرى آملُ أنْ تكونَ أوْسعَ ارتخاءً).. وضعتُ الكتابَ جانِبًا فسقط(يعني أنّي تصرّفتُ بِفجاجةٍ لا تليقُ بكائنٍ ناعمٍ مُسالِمٍ مثل كتابٍ يحْوِي بين نعومتِهِ الظّاهرةِ دنًّا مِن نبيذٍ أصيلٍ مُعتّقٍ)..
أعتقِدُ أنّ تعديلَ الجلسةِ بالخروجِ مِن الاستلقاء إلى الأهِبةِ و مِن الأهِبةِ إلى غَلْقِ الكتابِ و وضْعِهِ على كُدْسِ الكتبِ ثمّ سقوطِه العشوائيّ المؤْذي الذي حسّسني بالإثْمِ، كلَّ تلك الأشياء التي أنْجـِـزَتْ في سريعِ الزّمنِ، كانتْ تعبيرًا أصيلاً عن عُنْفٍ احتفاليٍّ شديدٍ و عنْ إمضاءِ ميثاقِ التّخلّي عنْ هويّتي الأصيلة التي أنطوي عليها أمام هذا المَدِّ الاستعماريّ الامبرياليّ الزّاحفِ: أنْثَى نِصفُ مستورةٍ تجرؤُ على اقتحامِ العزلةِ وترْبِكُ الثّوابتَ ـ أعتقِدُ أنّني بتلكَ الخطوات التي خطوْتُ، أخرجْـتُ الأمنياتِ مِنْ طوْرِ الاحتمالِ أو الاستحالةِ إلى طوْرِ الإمكانِ و التّحقّقِ.. لقدْ فجّرتُ شماريخَ الضّوءِ الملوّنةَ ..رمّمتُ أضوائي الدّاخليّةَ المنسوفة..
حين هَمَمْنا بالمتعةِ نُعاقِرُها وبالغنائمِ نتشاطرُها لمعتْ ذكرى خصومةٍ قديمةٍ في ذاكرةِ تلك المرأة التي أستلبُ معها هويّتيْنا. و تِباعًا، ترادفتْ الذّكرياتُ البذيئةُ على الحضورِ الرّومنسيِّ الذي تنكسِرُ فيه الهُويّاتُ.. وحين أوشكت الهُويّةُ أنْ تفقِدَ نَخوتَها، كان لابُدَّ أنْ يجْـفلَ الجسدُ و أنْ ينفجِرَ اللغمُ.. بصقْنا معًا على الرّومنسيّةِ الرّخوةِ..
_______________
سيف الدّين العلوي/ من روايتي القادمة
المصدر: مجلة عشتار الالكترونية