دار الرسيس للنشر والتوثيق الإلكتروني

مجلة أدبية ؛شعر قصة رواية مقال

authentication required

نغمات معدنيّة صدئة
لم أكنْ آنذاك أحبّ الموسيقى..لم أكنْ أفهمُها. لا أجيد الاستماعَ إلى لغةِ الوحْيِ فيها..لم نكنْ نملكُ ما يدفعني إلى حُبِّها، إجادة سمعِها وفَهمِها.. وبالرغم من ذلكِ النقصِ الفادح، انسقتُ وراءَ شهوةِ صُنْعِ عود،آلةِ عَزْفٍ.. إنّ حجمًا خشبيًّا مثقوبًا، تُشَدُّ إليه أوتارٌ أحصي عدَدها، ولم يكنْ يهمّني منها سوى أنّها تُخَرْبَشُ بالأناملِ أو بأداةٍ، علمتُ بعدئذٍ أنّهم يُسمّونَها ريشة نَقْرٍ. وأنّ تلك الخرْبشاتِ النّاقرةَ تُنْتِجُ صوتًا، إنّ ذلك الحجمَ، الكتلةَ الخشبيّة الجامدة الصّامتة الصّائتة في آن، تملؤني بروحٍ عبقريّةٍ ناعمة، حتّى أنّ خريرًا مِنْ حُلمٍ مزروعٍ بالأشواقِ ينسابُ.. وكنتُ أسمعُ صوتَ شقيقتي"اصنعْ لُعبتَكَ" يَزْحَمُ ذلك الحلمَ الشيّقَ في مجْرى الخريرِ الواحد...
عبَثًا حاولتُ صنْعَ عودٍ جيّد الصّنْعِ.. لم أكنْ أحصلُ على الخشبِ الصّالحِ ولا على الوترِ النّاغمِ أو حتّى على مثقابٍ ثاقبٍ.. وهبْ أنّني عثرتُ، فإنّ آلتي ستكونُ خرقاءَ بلا شكٍّ، وإنّ عزفي سيكونُ نشازًا، سيكونُ لا شيءَ في قانونِ الموسيقى الآسرة..(إنّني أحبُّ الموسيقى، وأريدُ أنْ تحذقَ ابنتي عزْفَها على نحو عِلميٍّ بارع.. لأنّني أحياناً أصبِح إزاءَ موسيقى فاتنةِ، ليّن العريكةِ، مِطواعًا، مُنصاعًا إلى شجنٍ مريعِ المتعةِ.. إنّني أستسلِمُ للرهافةِ والانخطافِ .. وتتمازجُ حالاتُ الرّوحِ وتزدحمُ الحواسُّ فأرهِفُ للسرِّ الكونيِّ، وأستحيلُ ضبابًا مِنْ فِضّةٍ مضمحِلّةٍ ).. هكذا تدخلُ الفِضّةُ / الضبابُ في حفلةِ الذّوْبِ، فيُنعِشُها مَهرجانُ اضمحلالِها.. 
لنقلْ إنّي صنعتُ لعبتي.. توصّلتُ إلى ابتكار تلك الآلة الموسيقية التي يمنحني تحريكُ أوتارِها بلوغَ متعةٍ من نشازٍ بلا معنى، تمزّقاتٍ نغميّـة ليس بينها أدنى تناغمٍ.. غير أنّ ذلك النّشازَ الذي كانتْ تُدندِنُ به أناملي وكنتُ أعرِفُ أنّه غيرُ طرَبيٍّ،كانَ يُطْرِبني على نحوٍ مختلِفٍ: إنّه يُطرِبُ الدّاخلَ البعيدَ القصيَّ حين كان يطلُعُ بمعزوفتيْن معًا: معزوفةُ أنّي أقلعتُ عن تحطيمِ لعبةِ شقيقتيّ. ومعزوفةُ أنّي تمكّنتُ مِن جعلِ صندوقٍ حديديٍّ عتيقٍ،له صدأ أسودُ مُـتَحاتٌّ، يُصدِرُ حشرجاتٍ غيرَ دالّةٍ أسمّيها نغماتٍ معدنيّةً صدئةً، جعلتْني أخلُدُ إلى صدى موسيقى خالدةٍ يمكنُ أنْ تأتيَ. (إنّني أجتهدُ في الخلودِ إلى ذلك الصّدى منذ نشازي الأوّلِ وحتّى نشازي الأخيرِ، عُبورًا بنشازاتي العديدةِ الأخرى التي يعزفُها لي، برفقتي، سِـوايَ .. وكان ضوءُ تلك الموسيقَى ما يزالُ يهديني إلى انسجامٍ فِضّيٍّ ناءٍ.. وكان عليّ أنْ أنتظرَ حتّى يكتمِلَ حَفْلُ الذّوْبِ .. و كان عليّ أنْ أرهِفَ فأسمعَ مهرجانَ اضمحلالِ الأشياءِ... )
----------- 
سيف.د.ع

المصدر: مجلة عشتار الالكترونية
magaltastar

رئيسة مجلس الادارة

  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 32 مشاهدة
نشرت فى 30 يوليو 2017 بواسطة magaltastar

مجلة عشتار الإلكترونية

magaltastar
lموقع الكتروني لنشر الادب العربي من القصة والشعر والرواية والمقال »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

564,955