تأمّلات قرآنيّة
المجتمعات البشرية ومواضعاتها الأخلاقية
فراس حج محمد/ فلسطين
لا يتوقع من بشر أيا كان مستواه الأخلاقي أن ينحط إلى ما دون الحد الأدنى من الإنسانية، فقد فُطِر الإنسان بوصفه إنسانا على جملة من الأخلاقيات توجد فيه كجزء من طبيعته، فإذا تخلى عنها فَقَدَ مقومات إنسانيته، وما سمي الإنسان إنسانا إلا لأجلها، وكثيرة هي الحالات الفردية التي وصل إليها أفراد تخلوْا عن ذلك الحد الأدنى من أخلاقيات البشر، والحمد لله أنها تصرفات فردية، ولم تصل لتعم مجتمعا بأكمله، وإن وجدت جمعيات تنادي بها إلا أنها جمعيات استغل أفرادها المنحرفون عن الفطرة السليمة القانون ليشكلوا تلك الرابطة التي لا ينظر إليها المشرّعون والجماعة إلا أنها نبت شيطاني، لن يدوم طويلا، وإن دام سيظل محصورا بمن تحققت فيهم صفة الشذوذ ليس غير، وسيظل المجتمع البشري بمجموع أفراده وأفكاره الناظمة ناقما ورافضا لكل أولئك المنحرفين.
يحدثنا القرآن الكريم عن مجتمعات قديمة بأكملها تخلت عن ذلك الحد الأدنى من التوافق الأخلاقي الذي يجعلها ضمن دائرة البشر، وما الأقوام التي بادت بعذاب مهلكها عن بكرة أبيها إلا لأنها تخلت عن ذلك، كقوم عاد وثمود، فلم يبق من أثرهم وآثارهم شيءٌ يستحق الذكر سوى اليسير ليكون عظة وموعظة لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد.
لقد شكّل قوم لوط، عليه السلام، مثالاً صارخاً لتخلي بعض المجتمعات عن صفتها الإنسانية، وهم قومٌ اشتهروا بفاحشة لم تكن في أسلافهم من قبل، فقد تواضع مجتمعهم على تلك الفعلة الشنيعة المنكرة، التي ترفضها الطبيعة البشرية، فمارسوها ودعوا إليها، وكانت لديهم قانونا ومتعارف عليها أنها من "المعروف" عندهم وفي سلوكيّاتهم اليوميّة، فاستحقوا من الله ما يستحقون، ونالوا جزاءهم العادل جراء ذلك.
وعلى الرغم من استمرار هذا الفعل الفظيع عند من جاء بعدهم من الأقوام، ولكنه جاء سلوكا فرديا يستكرهه المجتمع ويرفضه، ويرى فيه سلوكا حيوانيا بل أدنى، ولذلك لم يفقد المجتمع ذلك المستوى الذي يجعله مجتمعاً إنسانياً يستحق البقاء والاستمرار، ويجنبه الدمار واهلاك الكامل، فمهما بلغت النسبة عند هؤلاء الشاذين إلا أنها تبقى فردية مرفوضة في المواضعات الاجتماعية والأخلاقية.
وفي قصة إهلاك فرعون وجنوده عبرة عظيمة، فلم يكن الإهلاك لمجتمع كامل، كما حدث مع قوم لوط وقوم عاد وثمود، بل كان لعنصر القوة والجبروت، وما ذلك إلا لأن المجتمع الذي كانوا يحكمونه كان مجتمعا تحقق فيه المستوى المطلوب من استحقاق صفة الإنسانية، فكان ذلك درسا لكل طاغية، ودرسا لكل صاحب بصيرة.
ولو نظرنا من زاوية أخرى لمجتمع قريش قبل الإسلام، فقد كان مجتمعا إنسانيا على الرغم من معتقداته الباطلة من وجهة نظر الإسلام، إلا أن العربي كان يعيش ضمن منظومة أخلاقية إنسانية، لا تفقده بشريته وإنسانيته، فقد وجد في ذلك المجتمع كثير من القيم الأخلاقية الإنسانية من قبيل فك العاني وإغاثة الملهوف والعفة والشجاعة والكرم، ورحمة الضعيف ونصرة المظلوم، وأكد رسولنا الكريم ذلك في قوله: "إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، ولذلك لم يصل ذلك المجتمع بمواضعاته المستقرة فيه إلى ذلك الحد الذي يجعلهم في قائمة المهلكين، حتى أهل الطائف الذين فعلوا بالرسول ما فعلوا لم يكونوا دون الحد الأدنى من المستوى الأخلاقي، لذلك فإنك تقرأ قول الرسول عنهم "لعل الله يبعث من أصلابهم من يوحد الله"، فبذرة الخير موجودة عند أعتى الناس وشرهم، فمهما بلغوا من شر فلن ينحدروا إلى ما دون السلم الأخلاقي المسموح به.
إن الإنسانية قد نضجت عبر مسيرة طويلة من التلاقح الفكري والنظرة الفلسفية والوحي الديني، ونجحت في تطوير منظومة للتوافق الأخلاقي والفكري، وأصبحت عامة، وشبهَ قانون محترماً أدبيا بين الغالبية العظمى لأفراد تلك المجتمعات، وكان لفكر الساسة والمشرعين نصيب في فكرها السياسي والاجتماعي، فتجلت في أشعارهم ورواياتهم ومؤلفاتهم الفكرية.
وعلى ذلك استمرت البشرية في مسيرتها في المحافظة على تلك المواضعات، فمهما بلغ بعض الناس من همجية وعنف وقتل وتدمير، إلا أن القتل والتدمير يظل غير شرعي، وغير قانوني، ويرفضه المجتمع وقوانينه، فتتراجع تلك المواضعات الأخلاقية قليلا ليبرز العنف والقتل، ولكن يبقى القتل فعلا مجرما ولا شك في ذلك، فجاء مثلا قانون حماية المدنيين في ظل الحرب (القانون الدولي الإنساني) ليحفظ لهؤلاء الضعفاء في نظر القانون حقهم، وإن تم انتهاك ذلك القانون، لكن يبقى الصوت صارخا بضرورة وقف القتل والعنف، بل إن القاتل حريص على أن يبرر ما فعل لتخفيف النقمة عليه، لأنه يشعر في قرارة نفسه أنه قد أجرم.
هكذا تطورت البشرية في أفكارها لترفض التخلي عن دورها المسند إليها بفطرتها في ضرورة الانتماء للفعل الإنساني، لتساهم في عمارة الأرض، ولتحقق فيها البشرية إنجازاتها التي هي عنوانها ومآل أفعالها، وتبرز الحاجة إلى الحوار والحلول السياسية، ولم يعد القتل، ومعه الجرائم الأخرى بشتى أشكالها، هدفا في حد ذاته، فكان مؤقتا ومجرَّما في آن معا.
من منشورات مجلة الإسراء (ص64-67)