مرارة الأسئلة في دوامة البحث عن الإجابة المقنعة.
فراس حج محمد
هل خرجتَ من الإحساسات والمشاعر الفادحة إلى التسليم بالهزيمة؟
سؤال مفتوح على مطلق الحالة النفسية التي يعاني منها كل شخص تعرض للقهر النفسي والسيطرة والتحكم، ومنع من ممارسة حقه الطبيعي الذي منحته إياه قوانين الحياة، لترى أن الخروج عن هذا النسق القانوني هو مخالفة فادحة لذلك القانون الاجتماعي الطبيعي، وتجد ذلك في العلاقات السياسية والاجتماعية، كما تجده في علاقتك مع ذاتك وإحساساتك الداخلية.
هل التسليم بالهزيمة شعور فادح؟
لعل من أكثر المشاعر إيلاما للنفس البشرية هو التسليم بالهزيمة في أي مجال من المجالات، ولذلك ترى أن الكبار في همتهم يرفضون رفضا قاطعا التسليم بالهزيمة، سواء أكانت نفسية معنوية أو مادية، لأن التسليم بالهزيمة معناه الموت والخسران، وهذا شعور قاتل بحد ذاته.
فكيف يكون التوازن إذن؟
لقد برع الإنسان هذا المخلوق العبقري على الرغم من ضعفه الواضح في اختراق كل حواجز الضعف والتلاشي والعدمية، من خلال اختراع التعويض النفسي الذي تمنحه إياه أفكاره ومشاعره الزائفة، ليعيش أوهاما جديدة، يريد أن يقنع نفسه أنه يعيش إحساسا حقيقيا، فيداري في كهف مكنوناته أسرارا كانت تشكل أجمل تجليات اليقين، ليحل محلها ترددات قصيرة ومتوسطة بذبذبات مؤلمة، تتسرب من خلالها تلك المشاعر المدفونة في عمق الروح، فيحدث صراع بين الحقيقي والزائف، ومن خلال ذلك الصراع تبحثُ عن التوازن، لتجد أن التوازن تحول إلى طيف من الحقيقة وأشلاء من الزيف.
فهل يكفي ذلك لشعورك الشخصي بأنك أصبحتَ إنسانا متوازناً؟
الإنسان بطبيعته وبتركيبته المعجونة بالفكر والروح، يبحث دائما عما يريحه، ويزيل أوجاعه الوجودية، ويسعى في حياته من أجل هذا الهدف، حتى تعلقه بالمصير الأخروي هو نوع من إراحة النفس، وإعطائها أملا للتعويض عما فقدته في هذه الدنيا الفانية، هكذا هو شعور من تعلق بالعالم الآخر، تخلصا أو هروبا من واقع سقيم تافه، تحيط به العدمية من كل حدب وصوب، فليس بمقدور أحد عاقل أن يظل كالريشة في مهب الريح تتقاذفه أقداره، وتلعب بمصيره أفعال الآخرين العبثية، وليس بمطمح إنسان عاقل أن يعذب نفسه عذابا طويل الأمد يشقي روحه ويشقي الآخرين، فلا بد له من صيغة تصالحية مع هذا المحيط الفارغ من المنطق، وليكن بالتعلق بالوهم، ولكن..
هل يستطيع الإنسان التخلي عن ماضيه؟
تتشكل حياة الإنسان من مجموعة تجارب حلوة أو مرة، وتلكم التجارب هي العامل الاجتماعي والتاريخي المؤهل بكل جدارة أن تبني شخصا بخبرات متعددة بوجهات نظر مغايرة، تختلف يوما بعد يوما، فتتوسع الخبرات وتتعدد وجهات النظر، وتتعقد التفسيرات، فتلجأ إلى التأويل، وليكن التفسير شاعريا إنشائيا فلسفيا، مقنعا بشكل زائف أن الماضي مضى وانتهى ولم يبق منه غير ظلال باهته، ولم يدر في خلدك أن الماضي يتحول رغما عنك إلى إشعاع خفي تسري رعدته في كل جنبات نفسك وتسكن دماءك كالروح تماما، وتحتل موقعها الأثير في كل ما حولك، فترى انعكاسات ذلك الماضي في دقات ساعتك الشخصية، فتتذكر ما شاء لك أن تتذكر كلما مرت عيناك لتبحث عن فسحة وقت لعلها لم تضع بعدُ وأنه بالإمكان أن يظل النور حاضرا وساكبا أشعته في نبض وجدانك وفيض تمددات الوقت المذبوح في تلك الساعة التي لا تفتأ تذكرك بأنك ما زلت تتذكر وما زال الألم والذكرى حاضرة.
يحاصرك ذلك الماضي فتراه شبحا مخيفا في العلاقات الاجتماعية اليومية، وفي ممارساتك الحياتية في طعامك وشرابك وأنة جهازك المصلوب على أمل التصدي لانقطاع نبض الأمل، يحاصرك في صرير القلم، وضغط الأصابع على حروف ذلك الجهاز الميت، فلا تجرأ أن تكتب جملة، لأن كل الكلام فادح في إشعاع الذكرى واستحضار الماضي، تبتعد عن اللغة، فتهجم عليك المعاني، تبتعد عن الحروف، فتهجم عليك الطيوف، تهرب من نفسك فيحاربك الموت ويجرك نحو هاوية بلا نهاية، فتظل تهوي بك إلى أبعد وأبعدَ، لتؤول متأرجحا بلا قرار، ولا شيء يعزيك غير الوقت المسكون في إحساسك بأهمية أن تفتح جرحك ليظل أخضر، ولترش عليه ما شئت من أملاح الماضي الحاضر بكل قوته ليستولي على الحاضر بكل ضعفه، لتكون المعادلة القاسية: الماضي هو حاضرك، ولا حاضر أو مستقبل بغير حضوره.
وبعد، هل تطلبُ تعاطفا من أحد؟
من يطلب العطف هو من كان ضعيفا ومستكينا ومنكسرا ومتلاشيا، فهل أنت كذلك؟ إن من يستطيع أن يفتح جرحه الناغر، ويحرص على أن يظل مشعا جميلا على الرغم من الألم، هو شخص عبقري في فلسفته في مغازلة جراحه، ومن كان فيلسوفا، ليس بضعيف ألبتة، بل هو بلا شك أقوى من كل الأقوياء، ويقترب من إحساس الطغاة بدكتاتورية المنتصر المنتشي بنصره على كل أعداء أرادوا له الموت المجاني، وعليه فإنك لا تطلب ولن تطلب ولم تطلب تعاطفا من أحد، فمن يستطيع الكتابة في بؤرة الألم هو الأقوى دائما وأصلب ممن يلوذ بصمت قاتل، يؤرجح الروح في مسافات غامضة، ودروب قاحلة بلا إشارات أو محطات ترده إلى الصواب.