فراس حج محمد

موقع يختص بمنشورات صاحبه: مقالات، قصائد، أخبار

 

معالم الشخصية الإنسانية في القرآن الكريم (1)

معالم الشخصية المتوازنة في وصايا لقمان الحكيم لابنه

فراس حج محمد

20-6-2012

 

يمثل القرآن الكريم معينا لا ينضب من الأفكار والرؤى الواقعية الإنسانية في تجلياتها الفردية والاجتماعية المجتمعية التي تهدف إلى تعديل السلوك الإنساني على المستويين الفردي والجماعي ضمن منظومة من القيم والأخلاقيات التي تسعى إلى ترسيخها في الشخصية الإنسانية لجعلها أكثر توازنا نفسيا وعقليا، وقد حفلت القصص القرآنية بالعديد من الأمثلة الحية لتقديمها للإنسان في كل زمان ومكان، وهي في مجملها تركز على القيم الثلاث الإنسانية الخالدة: الحق والخير والجمال.

وقد بين القرآن الكريم في سورة لقمان وفي وصايا لقمان الحكيم لابنه جانبا مهما من صقل الشخصية الإنسانية لجعلها أكثر خدمة لمجتمعها، لأن الفرد في النهاية هو لبنة هذا المجتمع، والمواطن الصالح بأفكاره ومعتقداته وسلوكياته ومفاهيمه هو العنوان الأول في أي مجتمع من المجتمعات؛ إذ إن كل التشريعات والمعتقدات لا بد أن تتجسد في الأشخاص، فتتحول إلى مفاهيم تربط بين أفراد ذلك المجتمع.

ويؤسس القرآن الكريم للأرضية المنطقية التي تؤهل الشخص لأن يقدم وصاياه للآخرين، وتستند هذه الأرضية أولا على الحكمة، التي تبع أولا من الاعتراف بحمد الله وشكره على نعمائه، فهو اتصال عقائدي وخلقي منهجي قائم في نفسية الشخص الحكيم وعقليته، وينبثق عن ذلك شكر الخلق، ولذلك جاء في الحكمة العربية "من لا يشكر الناس لا يشكر الله" على اعتبار أن الله هو المتفضل والمنعم الجدير بالشكر، والاعتراف بمعروف الناس وجميلهم هو اعتراف تلقائي بنعم الله سبحانه، وعليه سبق افتتاح الوصايا بهذه الآية: "وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ".

يبدأ الحكيم لقمان وصاياه مع ابنه بأهم الوصايا التي تجعل الوصايا الأخرى تابعة لها ومتصلة فيها، فيوجهه إلى العقيدة الصحيحة والسليمة، فينهاه عن الشرك، ففي الشرك ظلم عظيم للنفس البشرية، لأنه يحمل كفران نعمة الخالق العظيم، فإذن لا بد من الاتصال بالله روحيا وعقليا حتى تظل الأجواء الإيمانية متصلة بالإنسان وتشع حياة في جوانب نفسه الراضية المرضية المطمئنة، فيتلو لقمان على ابنه الوصية الأولى قائلا: "وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ".

وأما ثاني تلكم الوصايا التي ربطها القرآن الكريم بالخالق مباشرة، وجاءت بين وصايا لقمان، ولم تكن من كلامه، وإنما كانت مباشرة من الله متوجهة بالإنسان إلى محيطه الاجتماعي، ولهذا النسق دلالة عظيمة في أهمية هذه الوصية. فأول ما يلزم في هذا المحيط الاجتماعي أن يعترف له بالجميل والحق بعد الله تبارك وتعالى، إنهما الوالدان، فلا بد من أن يحسن الإنسان التعامل مع والديه تعاملا قائما على الاحترام والطاعة، ويرد القرآن الكريم السبب المنطقي في الطاعة للوالدين أنهما هما السبب المباشر الحياتي الواقعي في وجودك أيها الابن حملا ورضاعة ورعاية وتربية وتقويما، ولذلك تجده يقول "وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ"، وجعل شكرهما بعد شكر الله جلت قدره، ولتعظيم شأن الوالدين وضرورة الطاعة والاحترام، فقد جعل القرآن الكريم ذلك قائما على أساس تلك القرابة في الدم والنسب بغض النظر عن العقيدة، فشرك الوالدين لا يمنع من ودهما وطاعتهما، ولكن دون أن يردا الإنسان إلى الشرك والكفر، لأن ذلك يتناقض مع الأساس التي وضعه القرآن للسلوك البشري الفردي، وهو معرفة حق الخالق وشكره وتوحيده، وكل ما يتعارض مع ذلك لا وزن له، ولذلك قال القرآن "وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا"، وحصر الاتباع والطاعة في ذلك إلى من أناب إليه وحده.

وتتابع الوصايا على لسان لقمان لتخرج من نطاق التعامل الفردي إلى التعاملات المجتمعية، فيوجه لقمان الحكيم ابنه إلى أهمية صنع المعروف مع الناس وتقديم الخير لهم، فلا يحقرن من المعروف شيئا، وإن كان مثقال حبة من خردل، فإن الله سيأتي بها ويجزي بها إن خيرا فخير، وإن شرا فشر، ويلفت الحكيم الانتباه إلى أن التعامل مع الناس في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد له من الصبر، وكيف لك أن تصبر على الناس وأنت تعظهم تأمرهم بالمعروف وتنهاهم عن المنكر؟ فلا بد لك من أن تستعين على ذلك بالصلاة وطلب العون من الله، فإن هذين الأمرين هما ما يجعل الإنسان صاحب همة وعزم شديدين، الصبر والصلاة، ولذلك اقترنا في آيات أخر في القرآن الكريم؛ لما لهما من عظيم الأثر في ترويض النفس البشرية على المواجهة وصناعة التغيير.

وأما آخر الوصايا فقد كانت توجيه السلوك البشري في التعامل مع الناس بالتواضع وعدم التكبر على خلق الله، فهم ليسوا بأدنى منك مرتبة، فالخلق كلهم عيال الله، وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله، كما جاء في الحديث الشريف، ومن أهم مظاهر تواضع الشخص، والتي تبدو واضحة في السلوكيات المشية باعتدال والابتعاد عن الخيلاء وضرورة خفض الصوت عند الحديث، وعدم التبجح فيه، ولذلك قرن القرآن رفع الصوت في الحديث بأنكر الأصوات "واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير".

هذه هي معالم الشخصية الإنسانية في الحياة التي تعيشها، استقامة ذاتية وارتباط مع الخالق رباطا صحيحا عقائديا، ثم التعامل الصحيح بسلوكيات إنسانية لا يختلف على صحتها شرقي أو غربي، في ضرورة احترام الوالدين وطاعتهما، والتعامل الإنساني في المجتمع، والتحلي بالقيم التي تجعلك إنسانا بلا تكبر ولا خيلاء أو رفع صوت في الحديث ما يعني الابتعاد عن كل مظهر من مظاهر الغضب والعصبية، وعلى ذلك تكون معالم الشخصية الإنسانية المتوازنة بهذه السلوكيات الفردية التي يظهر أثرها نافعا جليا في المجتمع لنصل إلى مجتمع مبني على القيم الإنسانية الرفيعة، والمتجسدة في القيم الثلاث: الحق والخير والجمال، فالقيمتان الأوليان هما اللتان تصنعان الجمال الإنساني سلوكا راقيا حضاريا.

 

المصدر: خاص بالكاتب
  • Currently 0/5 Stars.
  • 1 2 3 4 5
0 تصويتات / 601 مشاهدة

فراس عمر حج محمد

ferasomar
الموقع الخاص بــ "فراس حج محمد" »

ابحث

تسجيل الدخول

عدد زيارات الموقع

721,311

فراس حج محمد

نتيجة بحث الصور عن فراس حج محمد كنانة أون لاين

من مواليد مدينة نابلس في فــلسطين عــام 1973م، حاصل على درجة الماجستير في الأدب الفلسطيني الحديث من جامعة النجاح الوطنية. عمل معلما ومشرفا تربويا ومحاضرا غير متفرغ في جامعة القدس المفتوحة. 

عمل محررا لغويا في مجلتي الزيزفونة للأطفال/ رام الله، وشارك في إعداد مواد تدريبية في وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، وكان عضوا في هيئة تحرير مجلة القانون الدولي الإنساني/ الإصدار الثاني الصادرة عن وزارة التربية والتعليم في فلسطين.

نشر العديد من المـقالات والقـصائد في مـجالات النشر المختلفة الإلـكترونية والصحف والمجلات في فلسطين والوطن العربي وبريطانيا وأمريكا وكندا والمكسيك. وشارك في ندوات وأمسيات شعرية ومؤتمرات في فلسطين.

الكتب المطبوعة: 

رسائــل إلى شهرزاد، ومــن طقوس القهوة المرة، صادران عن دار غُراب للنشر والتوزيع في القاهرة/ 2013، ومجموعة أناشيد وقصائد/ 2013، وكتاب ديوان أميرة الوجد/ 2014، الصادران عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل/ رام الله، وكتاب "دوائر العطش" عن دار غراب للنشر والتوزيع. وديوان "مزاج غزة العاصف، 2014، وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في القصة القصيرة جدا- دار موزييك/ الأردن وديوان "وأنت وحدك أغنية" عن دار ليبرتي/ القدس وبالتعاون مع بيت الشعر في فلسطين، وكتاب "يوميات كاتب يدعى X"، وكتاب "كأنها نصف الحقيقية" /الرقمية/ فلسطين، وكتاب "في ذكرى محمود درويش"، الزيزفونة 2016، وكتاب "شهرزاد ما زالت تروي- مقالات في المرأة والإبداع النسائي"، الرقمية، 2017، وديوان "الحب أن"، دار الأمل، الأردن، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في الرواية"، مكتبة كل شي، حيفا، 2017. وكتاب "ملامح من السرد المعاصر- قراءات في متنوع السرد"، مؤسسة أنصار الضاد، أم الفحم، 2018، وديوان "ما يشبه الرثاء"، دار طباق للنشر والتوزيع، رام الله، 2019، وكتاب "بلاغة الصنعة الشعرية"، دار روافد للنشر والتوزيع، القاهرة، 2020. وكتاب "نِسوة في المدينة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2020. وكتاب "الإصحاح الأوّل لحرف الفاء- أسعدتِ صباحاً يا سيدتي"، دار الفاروق للنشر والتوزيع، نابلس، 2021. وكتاب "استعادة غسان كنفاني"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله، وعمّان، 2021، وكتيّب "من قتل مدرّس التاريخ؟"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2021. وديوان "وشيء من سردٍ قليل"، وزارة الثقافة الفلسطينية، رام الله، 2021. وديوان "على حافّة الشعر: ثمّة عشق وثمّة موت"، دار البدوي، ألمانيا، 2022. وكتاب "الكتابة في الوجه والمواجهة"، الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمان، 2023. وكتاب "متلازمة ديسمبر"، دار بدوي، ألمانيا، 2023. وكتاب "في رحاب اللغة العربية"، دار بدوي، ألمانيا، 2023، وكتاب "سرّ الجملة الاسميّة"، دار الرقمية، فلسطين، 2023. وكتاب "تصدّع الجدران- عن دور الأدب في مقاومة العتمة"، دار الرعاة وجسور ثقافية، رام الله وعمّان، 2023، وديوان "في أعالي المعركة"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2023، وكتاب "مساحة شخصية- من يوميات الحروب على فلسطين"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "الثرثرات المحببة- الرسائل"، دار الفاروق للثقافة والنشر، نابلس، 2024، وكتاب "فتنة الحاسة السادسة- تأملات حول الصور"، دار الفاروق للثقافة، نابلس، 2025. 

حررت العديد من الكتب، بالإضافة إلى مجموعة من الكتب والدواوين المخطوطة. 

كتب عن هذه التجربة الإبداعية العديد من الكتاب الفلسطينيين والعرب، وأجريت معي عدة حوارات ولقاءات تلفزيونية.