التحور.. فى العلم وفى القانون بقلم د. رفعت السعيد ١/ ١٠/ ٢٠١١ |
والتحور فى العلم أى Mutation هو حدوث تغير فى البنية الوظيفية للكائن بحيث تتغير طبيعة تأثيره سواء على الكائن ذاته أو على الآخر. وهذا «التحور» يؤدى إلى أحد سبيلين فقد يتواءم مع البيئة فيعيش ويتعايش فينتج من ذاته كائناً جديداً.. وقد لا يتواءم مع البيئة فلا تتحقق له الاستمرارية بما قد يؤدى إلى إبادته. وعبر المسار التاريخى للكائنات التى تتحور أبيدت ملايين من هذه الكائنات وتبدلت طبيعة ملايين أخرى. ومن ثم بدأنا نسمع صيحات تحذر من تحور يطرأ على أنفلونزا الطيور فيزيدها شراسة وكذلك أنفلونزا الخنازير وحتى الأنفلونزا العادية التى تتغير قدراتها ومجالات تأثيرها. ولأن القانون ليس مجرد نص مكون من كلمات منمقة مرصوصة فى صفحات كتاب، وإنما هو كائن حى يتعامل به ويتفاعل معه مجموع المعنيين بمحتواه. يتفاعلون معه فيتفاعل معهم، ويتحاكمون به وعن طريقه فيتحكم فى تصرفاتهم سلباً أو إيجاباً، ويحكم عليها سلبياً أو إيجاباً. فإن هذا الكائن الحى لا يلبث أن «يتحور» هو أيضاً، والتحور هنا قد يأتى عبر عدة سبل.. إما عبرالتجاهل والتناسى خضوعا لما هو سائد. تماماً كما يحدث بالنسبة لمواد قانون العقوبات التى تعاقب بالحبس كل من يهين ديانة سماوية أخرى [أى المسيحية واليهودية] أو لمن يستخدم دور العبادة للحط من شأن ديانة أخرى. أو لمن يستخدم دور العبادة والتعليم والأندية الرياضية فى الدعاية الانتخابية، أو حتى كل من استخدم المال فى تقديم رشاوى انتخابية أو استخدم الشعارات الدينية فى الدعايات الانتخابية. والتجاهل هنا يكون بالترك الدائم إلى حد الوصول للنسيان الذى يبدأ معتمداً ثم يتسيد فيصبح النسيان أمراً معتاداً. وقد يتحور النص القانونى ليتحول فيحدث له ما يحدث مع الدواء الذى لا يحتوى على أى مواد فعالة، ويبقى قائماً وموجوداً ويفقأ العين ولا يجرؤ أحد على إلغائه لكنه أيضاً لا يجرؤ أحد على تنفيذه. مثل النصوص الخاصة بعدم استخدام الشعارات الدينية فى الانتخابات والاستفتاء. والنموذج النموذجى لذلك ما جرى فى الاستفتاء الأخير على التعديلات الدستورية عندما صرح المسؤولون الكبار، أقصد الكبار جداً بأنه لن يسمح على الإطلاق وبتاتاً وحتماً ومن كل بد باستخدام الشعارات الدينية فى الاستفتاء، وبرغم الحزم المعروف والمعترف به عن قرارات هؤلاء الكبار فقد جرى الاستفتاء فى إطار شعارات دينية ليست سافرة وإنما كانت تكفر كل من يقول لا للتعديلات. وتسيدت الشعارات الدينية دون أن تواجه بأية أنياب مفترضة أو حتى أظافر أو غضب أو حتى امتعاض أو عتاب ولو من قبيل عتاب المحبين. وهنا يستقر فى أذهان الجميع أن هذا القرار ثم ما تلاه من قرارات قد تحورت لتصبح غير ذات مفعول ولهذا فإنه لا يكون غريباً ألا يصدق أحد من الناس ما يؤكده اللواء ممدوح شاهين والمستشار رئيس لجنة الانتخابات عن منع استخدام الشعارات الدينية فى الانتخابات القادمة. وكذلك الأمر بالنسبة للقوانين والتصريحات المتعلقة بالإنفاق المجنون فى العملية الانتخابية. خلاصة الأمر أن الانتخابات المقبلة سوف تجرى فى ظل قوانين موجودة لكنها تحورت لتفقد قدرتها على الفعل. لكن للتحور أكثر من سبيل فقد يكمن القانون ثم يتحور كالفيروس ليصبح أكثر شراسة بحيث لا يستطيع منطوق النص أن يتحكم فيه، فهو إذ يتحور شرساً يأتى تحوله عبر شراسة أساليب الحكم التى تتحور هى أيضاً لتجهض أى قدرة دستورية أو قانونية تفرض الالتزام بالنص، أقصد النص بمضمونه الذى ابتغاه أو كما يقول الفقهاء القانونيون «تغياه» المشرع. والنموذج النموذجى لذلك هو قانون «الغدر» والذى صاغه وبتشدد شديد المستشار سليمان حافظ تقرباً مع «الثورة» ولحساب الجماعة التى أرادت به إفساح المجال أمامها فى الفعل السياسى القادم بعد أن تتم عملية استبعاد الرموز الحزبية القديمة وأساساً الرموز الوفدية. ثم إذا به يهاجمه بتشدد شديد أيضاً لصالح الجماعة التى وجدته فيما بعد، وبعد أن تحور الموقف السياسى، قيداً عليها، فمع تداعيات الفعل السياسى واستقواء الحكام بمناخ خلقته قوانين سليمان حافظ، تتحور «محكمة الغدر» لتصبح أكثر شراسة وفتكاً وتتخذ أسماء تليق بتحورها المتشدد «محكمة الثورة» و«محكمة الشعب» وتقف طوابير الإخوان بعد جلدهم بسياط حليف الأمس أمام قضاة من قيادات الثورة يصل استخفافهم بالدنيا والدين معاً إلى حد أن يطلب واحد منهم من أحد المتهمين أن يقرأ «الفاتحة» بالمقلوب. ويتمدد التحور ليشمل الدساتير ذاتها. فإذا راجعنا مواد دستور ١٩٧١ نجد أن المادة ٨٤ والتى عدلت عبر استفتاء مارس ٢٠٠٧ تنص على أنه فى حالة خلو منصب رئيس الجمهورية أو عجزه الدائم عن العمل يتولى الرئاسة مؤقتاً رئيس مجلس الشعب وإذا كان المجلس منحلا حل محله رئيس المحكمة الدستورية. فتحور النص وفق مقتضى الحال وألغى. وجاء فى الإعلان الدستورى الجديد «لا يجوز مباشرة أى نشاط سياسى أو قيام أحزاب سياسية على أساس دينى أو بناء على التفرقة بين الجنس أو الأصل» فهل أعمل هذا النص مع الأحزاب السلفية أم تحور؟ والمثير للدهشة أن التحور السلبى قد يأتى عبر نص جديد أو عبر إسقاط نص سابق. فعندما أصدر المجلس العسكرى مرسوماً بإعلان دستورى جديد واستند فى كل مواده تقريباً إلى دستور ١٩٧١ سقطت سهواً أو عمداً- الله وحده أعلم- عدة مواد فلم ترد فى الإعلان الدستورى ومن ثم سقطت من الأجندة الدستورية المصرية ونتأمل بعضاً مما سقط سهواً أو أسقط عمداً المادة «٤٩» من دستور ١٩٧١، وتقول «تكفل الدولة للمواطنين حرية البحث العلمى والإبداع الأدبى والفنى والثقافى وتوفر وسائل التشجيع اللازمة لتحقيق ذلك». كما أسقطت المادة ٦٠، والتى تنص على أن «الحفاظ على الوحدة الوطنية وصيانة أسرار الدولة واجب على كل مواطن». ولا يحتاج الأمر إلى ذكاء كى نعرف من الذى يستفيد من استبعاد حرية الإبداع والبحث العلمى ومن استبعاد الحفاظ على الوحدة الوطنية. خلاصة الأمر.. أنا ما أردت أن أنبش عن مواجع قديمة وأخرى جديدة، فقط أردت أن أقول إن القوانين هى كائن يمكنه أن يتحور إيجاباً أو سلباً، وجوداً أو حذفاً وفق توازنات القوى فى المجتمع، خاصة فى مجتمعات العالم الثالث، ولا أمل لنا كقوى وطنية وديمقراطية وليبرالية تستهدف إقامة دولة مدنية حقاً، تكفل حقوق مواطنيها على قدم المساواة حقاً، وتندفع بمصر إلى آفاق التقدم والحرية والعدل الاجتماعى حقاً.. إلا بأن نتوحد ونتضافر ونستقوى بوحدتنا سعياً بمصر نحو ما نريد نحن، وليس، كما يريد الآخرون. |
ساحة النقاش