ص1 الفهرس 51-60
المراقبة والمعرفة:
قراءة في دليل التفتيش التربوي
أحمد فرشوخ
نسعى، في هذه المقالة، لإعادة قراءة المراقبة التربوية بالمغرب، أي لإعادة بناء الموضوع المتعلق بهذا الحقل وفق معطيات مستجدة في الوصف والتحليل. ومن ثم لزوم تحويل النصوص والوقائع من وضعية المعطى إلى وضعية التشييد، انطلاقا من أن الظاهرة العلمية بناء نسقي يجانب المعرفة العفوية لما يشوبها من أعراض الذاتية والمذهبية والأحكام المسبقة، وانطلاقا أيضا من كون إنجازات التوثيق والوصف والضبط والتصنيف لحظات حاسمة في بناء المعرفة بالموضوع، لأنها معابر نحو طرح الإشكالية التي هي أساس كل معمار علمي. وهذا ما يدعو إلى افتراض أن المراقبة المنبثقة عن التفتيش التربوي بنية معقدة (بالمعنى الإبيستيمولوجي) في تكوينها وتكونها. وبالتالي سيرورة لها وضع دينامي متواصل ومتنام باستمرار.
ضمن هذا الأفق، إذن، يمكن استثمار كتاب دليل التفتيش التربوي(*) للأستاذ إبراهيم الباعمراني، باعتباره مرجعا موثوقا يدعو إلى قراءة مدونة (متن) corpus[1] متنوعة من النصوص التشريعية والمذكرات الوزارية والوثائق القانونية، والأدبيات التربوية، ليحفز من ثمة على تشخيص ومقاربة بنياتها العميقة من خلال علامات التشاكل والتباين، وعبر خطاباتها الضمنية والتقريرية.
إن "الدليل" -بشكل عام- نوع من التآليف المميزة والنادرة في ثقافة الكتاب وتاريخه، ينتمي لصنف المؤلفات المرجعية المستوعبة للفهارس والموسوعات وقواميس الأعلام والبيبليوغرافيات والأنطولوجيات، ومختصرات المهن والعلوم والشعوب. وهي ذات تقاليد متنوعة وقديمة في العمل اليومي والسلوك القرائي والبحث العلمي لدى شعوب الكتاب[2].
بهذا المعنى إذن، يكون "دليل التفتيش التربوي" مؤلفا مرجعيا ومهنيا، يتطلب معالجة أفقية وعمودية. إذ خلف تباين التواريخ واختلافات الإمضاء، وتمايز العبارات والمفاهيم، يلزم البحث عن منظومة ضمنية تشكل الإطار الدلالي لحقل التفتيش التربوي, لذا سيكون من باب الاختزال، التفكير في أن غاية الكتاب تكمن في وضع توثيق مغلق للمهنة، أو الاقتصار على وصف حرفي للنصوص والمذكرات.
وإذا كان هذا المؤلف يسد فراغا من جهة حصر وتصنيف المدونة التشريعية والقانونية، فهو أبعد من ذلك، يحفز على بناء وتدقيق حقل تربوي مازال ينتظر المزيد من البحث لبنينة خصوصيته، واختبار صدقيته الإبستمولوجية. فضلا عن قراءة تكون البنيات وتعاقبها. إذ لربما حان الأوان للتفكير في "تاريخ" التفتيش التربوي بالمغرب، ومقارنته بالتواريخ الأخرى في الأنظمة التربوية العربية والغربية. وهو من التواريخ الصغرى التي لا يكاد النظر يستبين حركتها، مادامت ترتسم خلف التاريخ السياسي الشامل في شكله التقليدي"[3].
ذلك أن التفتيش التربوي سيرورة "خطاب" يلتقي فيه النص بالممارسة، السلطة بالمعرفة، الإرادة بالإكراه، الرغبة بالقانون، الفعل بالمقاومة، النسق بالنسق المضاد، التقليد بالتحديث. كل هذا يجعل الخطاب المعين يرتكز على مجموعة من الفرضيات المتنامية والمتقاطعة والمتقطعة حول الاختيارات والقرارات والقوانين المؤسساتية والتوجهات التعليمية والمنظومات التربوية والعبارات الوصفية والتقييمية.
ولا بد هنا من اكتشاف الانفصالات والعتبات والتقطعات الداخلية للخطاب، فضلا عن تقدير المسافات الفاصلة بين النصوص والممارسات، وتشخيص تطابقاتها وتناقضاتها الخفية.
بهذا يصبح كتاب "الدليل" عقدة داخل شبكة، وبالتالي وحدة خطابية تعوض الوحدة المادية، إذ خلف العنوان، والأسطر الأولى للتقديم، والكلمات الختامية؛ وخلف بنيته الباطنية، وشكله الذي يضفي عليه نوعا من الاستقلالية والتميز، ثمة منظومة من الإحالات إلى نصوص ووثائق ومرجعيات تبحث عن صياغة قانون توزعها، وتحليل أنماط ظهورها وتحولها في انبثاقها المتآني أو المتعاقب. وكذا وصف توحدها وافتراقها، تسلسلها وتراصفها، وتناقضها إن لزم الحال.
ومن ثم فإن متن الكتاب يغطي حقبة تاريخية هامة، تبدأ بمذكرة "تنظيم اختبارات شهادة الكفاءة التربوية، المؤرخة بتاريخ 20/12/1972"، وتنتهي بمذكرة "مسطرة تقويم وإقرار رجال الإدارة التربوية، المؤرخة بتاريخ 04/02/1992". وهذا الفضاء الزمني الدال يضفي ملاءمة مقبولة على النصوص والوثائق الملتقطة لحركية التفتيش التربوي، لبنيته وتبنينه (structure, structuration). فضلا عن الإمكانات والآفاق التي يفتحها بصدد وصف وتصنيف وتقييم المدونة المصطلحة الموظفة: التفتيش، التفتيش التربوي، جهاز التفتيش، هيئة التفتيش التربوي، المراقبة التربوية، الإشراف التربوي، هيئة التأطير والمراقبة التربوية. هذا، إضافة إلى تسميات/مصطلحات أخرى متداولة نسبيا خارج الدليل: الإرشاد التربوي، التفقد التربوي، التعهد التربوي.. وجميعها تشي باختلاف في التصور والممارسة، بحيث تعبر عن توتر دال التسمية وترحله من منظومة لأخرى. وهو ما يتطلب إعمال النقد المعرفي والتاريخي والثقافي للتسميات المتداولة قصد تفكيكها والكشف عن مرجعياتها ومقاصدها، وشروط انبثاقها وتداولها. إذ فضلا عن أنه لا وجود للمفاهيم خارج التعريف المانع، فإن المطلب العلمي يستدعي تشييد أو استحضار النسق النظري الحاضن للتسمية المعتمدة؛ مع إقامة تصنيف يبرز موقع المفهوم ضمن المفاهيم المرتبطة به والمنازعة إياه. ولا شك أن تسمية "التفتيش التربوي" هي التسمية الرسمية والقانونية في حقل ممارستنا، وهي وافدة علينا من الأدبيات التربوية الفرنسية، إضافة إلى أنها في وضع تنازع بين الإدارة والتربية، دون أن ننسى استعمالها الحصري (التفتيش) والوظيفي في قطاعات أخرى تنتمي لتسيير الشأن العام.
ومن البديهي أن يفضي هذا الانتقال والتداول إلى كثير من الالتباس، إن لم يصرف أصلا عن الخصوصية النوعية للمجال المستقبل، بحيث يحدث كسرا في الأنساق الداخلية والتماسك المفهومي لشبكة الممارسة التي ننشدها. وبهذا أصبحنا أمام تسمية لها نسبها التاريخي، وسيرورتها الثقافية، إذ في القرن التاسع عشر كانت هيئة "زوار المدرسة" تراقب وتحرس، وتنجز تقارير سنوية عن كل ما يجري داخل المدرسة للتأكد من مطابقة القوانين ومعاقبة المخالفين، ومن ثم قران المراقبة والمعاقبة بشكل يستجيب لنظام المؤسسة المرتبط بالعالم الصناعي آنذاك. إلا أنه مع نمو وتقوي النزعات الإنسانية في مجالات الفكر والسياسية والتربية، انبثقت آليات جديدة للمراقبة والحراسة مبنية على مؤسسات أكثر مرونة، تقدم نفسها بأشكال جديدة تدعو "للإرشاد" وتفعيل المنظومات التربوية، وتحسين مردوديتها، وتجويد إنتاجيتها.. وهكذا مع السبعينات يتعرض التفتيش، خاصة في فرنسا، لانتقادات عنيفة تمس تمثلاته ووظائفه، وذلك في سياق السعي لتفكيك أجهزة المراقبة العليا والدنيا في البنية السياسية للمجتمع، وبالتالي في سياق تفكيك مفهوم السلطة وتدفقاتها (التدفقات = les flux). ومن ثم مراجعة مفهوم التفتيش ببنياته ووظائفه، لينتقل مع مطالع التسعينات، من مجال المحافظة وإعادة الإنتاج le reproduction، إلى مجال التحديث والملاءمة la pertinence...[4].
وإذا كان "الدليل" قد اعتمد في عنوانه تسمية "التفتيش"، فإنه منح أولوية الاختيار للمفهوم المهني والقانوني، ربما في انتظار تبلور واستقرار مفهوم "الإشراف التربوي" المنتسب للأدبيات التربوية الأنجلوساكسونية[5]، والذي تبناه "الميثاق الوطني للتربية والتكوين"[6]، بعد أن تم تداوله في الملتقيات التربوية والجمعوية، والمجلات المتخصصة (الرسالة التربوية، دراسات نفسية وتربوية، علوم التربية، المجلة التربوية..) ومن الواضع أن إمكانية تبني هذا المصطلح المهاجر، تدعو إلى التفكير في شروط الانتقال من بيئة ثقافية وتربوية إلى أخرى. ذلك أن ظهور تسمية "الإشراف التربوية" يرجع إلى بدايات الثلاثينات بالولايات المتحدة الأمريكية، إذ خرج من معطف الأبحاث الميدانية المشخصة لتناقص إنتاجية العمال، بحيث أبانت النتائج عن الأثر الجيد للإشراف الإنساني على مردودية العمال. وفي ضوء هذا المناخ تخلت الولايات المتحدة عن نظام التفتيش التربوي بعد أن مكنت مديري المدارس من آليات الإشراف لتحسين مردودية التعليم، وتدبير المؤسسة التربوية، وحذت حذوها دول عدة من بينها كندا. وإذن "فالإشراف التربوي طريقة منهجية تسير وفق شروط معينة غايتها القصوى علاقة المساعدة.. على اعتبار أن كل فرد له الكفاءة وإرادة النجاح وأنه بإمكانه تجاوز كل المعيقات والصعوبات.."[7].
هكذا، يبدو مفهوم "الإشراف التربوي" ضمن السياق التربوي المغربي، فتحا جديدا وجذابا. غير أن المقاربات الثقافية، وخاصة منها تلك التي اهتمت بانتقال النظريات، تجعلنا أكثر احتراسا، إذ أن فتحا ما (وهو هنا تربوي) قد يتحول إلى كمين، إذا تناوله المستقبل بشكل تكراري واعتباطي وبدون حدود. وقد ينقلب هذا التصور "الطليعي" في غياب قوانين التمثل والتحيين إلى مجرد خطاب مرن، يخفي الممارسات التقليدية الراسخة والمستقرة. كما أنه قد يصبح معرضا للمغالاة النظرية إن هم لم يستجب للحركية والتغير، ولم يهتم بالتفاصيل والمقاومة والحدود.
ذلك أن كل نسق ينتج نسقا مضادا، والمقاومة هنا دالة مرتبطة بالخطاب "التفتيشي" أو "الإشرافي". إذ لا بد من التمييز بين التصور والوعي النقدي، بحيث يتم تناول التصور في الزمكان الذي نشأت فيه، على أساس أنه جزء منه، يعمل داخله ولأجله، كما يتجاوب معه. وبناء عليه يمكن قياس المكان الأول على الأمكنة اللاحقة التي يظهر التصور فيها ويستعمل. فالوعي النقدي هو الوعي بالفروقات القائمة بين الأوضاع[8].
هكذا نعي بأن الفائدة العلمية "للدليل" تنقلنا من عالم الوثائق والأرشيف إلى عالم السلطة الرمزية وعالم المؤسسة، بشكل يحفز على البحث في العلائق الموجودة بين المعرفة والسلطة. هذا الثنائي المتجاوب والمنتج، الذي تناوله بالدرس والتحليل الباحثون الجدد في نظرية الخطاب: ميشال فوكو، بيير بورديو، إدوارد سعيد، جاك ديريدا، جاك دونزيلو..[9] والذين قدموا بناء نظريا ومنهجيا مفيدا في تحليل الخطابات التداولية (النفعية، الذرائعية) discours pragmatiques، تلك التي تعتمد على تأويل النصوص "السلطوية" باعتبارها فعلا للغة actes de parole، أو باعتبارها متتالية من أفعال اللغة كالأوامر والوعود والتأكيدات والتنبيهات والطلبات والتحريضات والترغيبات.. وجلي أن هذه المقاربة التداولية لمتن الكتاب (أو لمدونته) تغتني بالمعالجة المعرفية المستحضرة للمواقف والمعايير والقيم. وكذا للمعالجة المركزة على السياق الاجتماعي، أي تلك التي تدرس النص والوثيقة في التفاعل وفي المؤسسة، بما هي سياق اجتماعي أكبر، يقتضي التأثير والتموقع ووضع الاستراتيجيات.
كل هذا يتوفر في الانفتاحات المعرفية التي يسمح بها هذا الدليل التوثيقي والتأريخي، الذي يدفع بالفعل إلى قراءة مغايرة "للخطاب التفتيشي" بما هو نسق له بنياته الموضوعية والذاتية. له كليته وتحولاته وتنظيماته الداخلية، وضبطه الذاتي. وعلى هذا النحو تلتزم المقاربة النسقية اعتبار التفاعل الحاصل بين بنيتين مفارقتين ظاهريا:
البنية الموضوعية بما تتضمنه من تشريعات وقوانين منظمة. والبنية الذاتية بما تختزنه من مواقف وسلوكات ومقاومات[10]. وإذا كان الأستاذ الباحث عبد الله الأشقر (وهو متخصص في المجال)، قد تبنى هذا النوع من المقاربة في بحثين أكاديميين[11]، فإننا من جهتنا نضيف الملاحظات التالية:
ـ إن اعتبار التفتيش التربوي نسقا، يعني مراعاة البنية والوظيفة في آن، إذ من شروط النسق أن يظهر بنية داخلية، وأن يحد بحدود ثابتة نسبيا، بحيث يمكن أن يتعرف عليه الفاعلون ويحددون، كما يجب أن يقبل من المجتمع ويؤدي فيه وظيفة لا يؤديها نسق غيره.
فالنسق المدروس يحتوي بهذا المعنى على ثلاثة أنساق صغرى: لسانية وتربوية وقانونية. وكل نسق يتفرع إلى مكونات، تنشطر بدورها إلى عناصر وتجليات. وهكذا يغدو الاستقلال شرطا أساسيا لتشكل النسق بالقياس إلى غيره، إلا أنه ليس مستقلا تماما عن النسق الثقافي (بالمعنى الواسع). وهو ما يحفز على تجريب مقاربة أخرى موازية، هي المقاربة "الثقافية" التي ترى أن الخطاب التربوي، قد يكون أحيانا أقوى من الخطاب السياسي، وأكثر إيديولوجية منه[12]. وهو ما يستدعي اعتبار المحيط الثقافي شرطا لكل تفكير، إذ لا تفكير متحرر من كل إرث. وكل تفكير لا بد أن تتجاذبه سلطة التقليد وتوقعات المستقبل. وبهذا المعنى يصبح "التفتيش التربوي" محمولا لموضوع هو النظام التربوي/الثقافي، خصوصا في المجتمع التقليدي الذي لا يقيم العمل عبر الفائض الرمزي، بل يكاد يعتبره جزءا من اليومي، ونمطا للبداهة.
ومن ثمة فلا مناص من دراسة التمثلات، والعلاقات التواصلية والقيم الإنسانية، إضافة إلى الإرغامات والإيحاءات اللغوي والرمزية.
ويجدر الإلماع، إلى أن نسق التفتيش التربوي الراهن (من منظورنا)، نسق مفرط الانفتاح؛ ومن وجهة نظر احتمالية، يكمن المأزق الذي يتهدد النسق المفتوح بإفراط في امتناع أو تخوف وسطه المباشر من تزويده بالعناصر الضرورة لصيانته وإنمائه. ومن هنا ضرورة الإغلاق العلمي والمشروط لنسق التفيش التربوي، من خلال حصر حقل اشتغاله وتكوينه، وتشييد بنائه النظري عبر بحوث متخصصة ودقيقة، تنتبه للبنيات الداخلية والدالة للسيرورات والوظائف المحددة والملائمة، ولأشكال التوتر والمقاومة. هذا إضافة إلى مقاربة التحول المفاهيمي لحقلي التصور والممارسة تعاقبيا وتزامنيا. إذ لكل بناء مفاهيمي أسلوبه في تقطيع الظواهر وتنظيمها وتصنيفها، ولا يتم ذلك دون اختزال وإقصاء، كما لا يتم دون فهم لما في الممارسة ومحاولة تغييرها في أفق متعدد الأبعاد. ينضاف إلى هذا التجديد في التناول العلمي للخطاب المدروس، الانتباه التيقظ إلى تلازم وتداخل "الجديد" و"القديم" في الممارسة، لأن الأفكار والتصورات لا تنشأ من فراغ، إذ يفترض كل فهم فهما سابقا تولد عنه وتجاوزه. ولهذا فمن المتعذر بيان الحدود التي ينتهي عندها التفتيش التربوي التقليدي، ويبتدئ عندها التفتيش التربوي الجديد (أو التحديثي)، لأنهما يشكلان وحدة متداخلة في هذه الفترة الانتقالية لمهنتنا. ومن ثم فلا مجال للحديث عن ما يمكن تسميته بالقطيعة البيداغوجية بين التصورين: (التفتيش/الإشراف)(؟). وهو ما يدعو إلى اقتراح نعت "الإبدال" بدل "القطيعة" لتأويل وتفسير الإنتاج "الإشرافي" الذي برز لدى فئات من الممارسين في السنوات الأخيرة. فلربما سمح هذا النعت المقترح باستيعاب النقاش الدائر راهنا حول بنيات الممارسة ووظائفها، وهو نقاش تحركه وتؤطره بواعت وسياقات ومقاصد متباينة، تتعذر الإحاطة بها في هذا المقام.
وإذا كان كتاب الدليل قد اختار تسمية "التفتيش التربوي" لاعتبارات مهنية وقانونية (كما أسلفنا)، فإنه قد يكون انتبه أيضا إلى نجاعة ومردودية التركيب بين (التفتيش) من جهة والتربية) من جهة أخرى، بحيث نقل الترابط من مستوى العلاقة العاطفة (التفتيش والتربية) إلى مستوى العلاقة الواصفة (التفتيش التربوي)، مولدا بذلك وحدة موضوع الكتاب ومادته، مضمنا التفاعل بين الحقلين تزامنيا وتعاقبيا باتجاه السيرورة الحاملة للذات والزمان والمكان والموضوع.
ولا يمكن لتصور كهذا، أن يفهم علميا إلا في ضوء الحاجة الراهنة والأكيدة إلى بناء بحوث متخصصة، تجاوز المعرفة العفوية، والتصنيفات والتسميات المتسرعة، والنقاشات غير المحترفة، والإشكالات الزائفة المسندة بتصورات غير نظرية أو غير ملائمة. ذلك أن الإطار النظري لا يكون ملائما أو مقبولا، إلا إذا كانت نتائجه قابلة للتقرير décidable، مفحوصة تجريبيا. فالخوف من النظرية بدعوى الاهتمام بالممارسة فقط يؤدي بالضرورة إلى الاعتباط في مجال الفعل، وكذلك في مجال المعرفة، وكذا إلى الوقوع في كمين البداهة.
فتقدم المعرفة بموضوع "التفتيش التربوي" يستدعي تحديد المفاهيم والطرائق والمعالجة المستمرة، المهتمة في آن بالنتائج التي يتم الوصول إليها، وكذا مراعاة الصعاب والعوائق التي يحصل التغلب عليها وفق رؤية تنسيبية ترى في منهجية البحث تجربة ظرفية، إذ التجربة أيضا تتغير. فالحركة دائمة في عالم ليس فيه راحة، على حد تعبير الفيزيائي ماكس بور Max Born. والمعطيات والوقائع لا تكون لها دلالة إلا بالنسبة لإشكالات محددة ومبنية، ومتطورة. غير أن طرح التجاوز من أجل التجاوز فحسب، قد يكون في بعض الأحيان من أخطر العوائق المعرفية نفسها، بل قد يخرج الأبحاث من الدائرة العلمية كلية. بهذا يكون كتاب (الدليل) دعوة للأفق العلمي المنتج، من حيث إن مؤلفه الأستاذ إبراهيم الباعمراني خبير مهني، وباحث تربوي، يدرك أهمية ومردودية وضع دليل توثيقي وتأريخي وتركيبي، ينتظره الحقل التربوي بالمغرب، إذ من المفروض أن يشكل مدونة للإنشاء بحوث منتجة ومتخصصة تقارب موضوع "التفتيش التربوي" نظريا وتشريعيا وميدانيا. وإذا كان الكتاب يراهن لاعتبارات مهنية وتنظيمية على المطلب التشريعي أساسا، فلأنه يشكل الحقل القانوني المنظم، من جهة تحديد المهام والواجبات والمسؤوليات، والحفز على التفكير في تحيين النصوص، وتطوير التشريع، ووضع البدائل التنظيمية. وجميعها بواعث ومقاصد عبر عنها المؤلف في تقديمه للكتاب، كما عبر عنها في التقديم العام "لندوة الإشراف التربوي بين التنظير والممارسة، البيضاء، 1994"[13].
"دليل التفتيش التربوي" إذن، نصوص تتعدد أشكالها وأنماطها وسياقاتها ومقاصدها. ومن ثم يكون التمهيد لها وتصنيفها وتوثيقها بالمرجعيات والهوامش، إضافة إلى التركيب بينها بما يفيد الوصف والتقييم والتأريخ. كل هذا يكون رهانا على المواقع والعناصر والبناءات. وباختصار يكون عملا منظما ومبنينا ومحولا، يتيح الاستدلال والإقناع والملاحظة، وكذا المزاوجة بين الاستقراء والاستنباط. فلربما كانت هذه الملاحظات وعناصر التفكير وغيرها، ما يجعل من قراءة واستثمار كتاب "الدليل" مشروعا لاشتقاق بحوث مفيدة ومنتجة، ومساءلة كثير من التصورات والنظرات المهتمة بالموضوع.
ــــــــــــــــــــــــ
الخطاب الإصلاحي التربوي بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري:
تأليف: ذ.مصطفى محسن(*)
قراءة: نور الدين الطاهري(**)
تندرج هذه الدراسة القيمة، للأستاذ مصطفى محسن، حول موضوع الخطاب الإصلاحي التربوي...[14] في إطار مشروعه الفكري الهادف إلى المساهمة في تأسيس فكر تربوي وسوسيولوجي قائم على منظور نقدي.
ولهذا المشروع الفكري مقومات معرفية إبستمولوجية تؤطر رؤية الباحث المنهجية التي يقترحها منطلقا للحوار التكاملي والنقد المنفتح، وهو ما يسميه الباحث بالنقد المتعدد الأبعاد: Critique multidimensionnelle.
ومن أهم هذه المقومات المعرفية-الإبستمولوجية للمشروع[15]:
أولا، ضرورة تحديد الإطار التخصصي، الذي ينطلق منه الباحث في النقد والتحليل في كل مقاربة أو قراءة أو تحاور؛
ثانيا، الاعتراف بأن المسافة النقدية التي يفترض أن يتخذها الباحث في مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية تجاه الواقع المبحوث لا تتسم سوى بصلاحية أو مصداقية نسبية،
ثالثا، أهمية الوعي بالخلفية النظرية والمنهجية التي يتم اعتمادها في مقاربة ما، أو في مجال تخصصي معين،
رابعا، الوعي بتعددية وتعقد واختلاف أبعاد الظواخر الاجتماعية -والتربوية منها بشكل خاص- والتي يتم اتخاذها موضوعا للدراسة،
خامسا، العمل على تجنب الطروحات الاختزالية الضيقة، أي أهمية الاحتراس من اختزال الواقع المتعدد والمتحول في أحد أبعاده أو جوانبه.
هذه باختصار وتركيز شديدين أهم المقومات المعرفية-الإبستمولوجية للمشروع الفكري للباحث، رأينا ضرورة تسجيلها في مقدمة هذه القراءة لدراسته الجديدة حول موضوع الخطاب الإصلاحي التربوي... ويبقى أن نشير في هذا الإطار، إلى أن لهذا المشروع الفكري مقومات أخرى ذات طبيعة اجتماعية-تاريخية، منها: نقد الذات في هويتها الخصوصية والكونية، وفي بعدها الزمني-التاريخي، وفي كل أبعادها السوسيولوجية والثقافية والحضارية؛ ونقد الآخر/المغاير الحضاري أيضا في اختلافه وتميزه؛ وثالثا، نقد اللحظة الحضارية بكل أبعادها ودلالاتها محليا وكونيا[16]. وهكذا، فإن تكامل هذه المقومات المعرفية والاجتماعية-التاريخية هو ما يعطي لهذا المشروع شموليته النقدية وأهميته التأسيسية الكبيرة. وخصوصا في هذا المنعطف الحضاري الكوني الجديد، الذي تمر منه مجتمعاتنا، والذي تتقاذفه رياح العولمة الزاحفة.
الإشكالية المحورية في الدراسة وتساؤلاتها الأساسية:
اهتمت الإشكالية المحورية في هذه الدراسة، أساسا، بتحليل مرجعيات الخطابات السائدة حول الأزمة والإصلاح التربوي، وذلك من خلال تقديم قراءة نقدية لمضامين وتصورات وتوجهات الخطاب الإصلاحي التربوي، وبالتالي لمفهومي الأزمة والإصلاح بالذات، وما لهما في هذا الخطاب من أبعاد ودلالات فلسفية وسياسية واجتماعية متعددة.
ويمكن اختزال أهم الأفكار والطروحات والتصورات التي عالجتها هذه الدراسة في مباحثها الستة، في التساؤلات الأساسية التالية:
أولا، ما المقصود، تحديدا، بمفهوم الأزمة؟ وهل هي أزمة قطاع تربوي أم أزمة نظام مجتمعي؟ وكيف تعاملت الخطابات السائدة مع هذا المفهوم "الجدلي"؟
ثانيا، ما هي أهم التجليات أو التمظهرات(*) التي تعبر فيها وبواسطتها هذه الأزمة عن ذاتها؟ وما هي، تبعا لذلك، أهم عواقبها(**) وآثارها التربوية والاجتماعي السلبية؟
ثالثا، ما هي أهم المقترحات التحليلية والتفسيرية التي يقدمها، حول مفهومي الأزمة والإصلاح في المجال التربوي، كل من المرجعية الليبرالية، والمرجعية النقدية الماركسية، والمنظور التكاملي الحواري؟
وإجمالا، تنتهي مجموعة علامات الاستفهام هذه بسؤال أكبر: ما هي أهم العناصر الأولية للتفكير في شروط ومستلزمات الإصلاح التربوي المنشوذ، الكفيل يتجاوز الأزمة القائمة بكل عواملها وحواملها واستتباعاتها السلبية؟
وفي هذه القراءة، سنركز على مجموعة من المحاور التي نراها أساسية، وهي تحديدا محاور ستة:
1 ـ مفهوم "الأزمة" في المجال التربوي بين المنظور النقدي والمنظورات التقنوية والاختزالية
2 ـ أهم تمظهرات الوضع المأزمي التربوي في المجتمع المغربي
3 ـ العواقب والامتدادات التربوية والثقافية والاجتماعية لأزمة النظام التربوي بالمغرب
4 ـ نحو منظور تكاملي شمولي لمفهومي الأزمة والإصلاح.
5 ـ عانصار أولية للتفكير النقدي في شروط ومستلزمات الإصلاح التربوي المنشود
6 ـ الخطاب الإصلاحي التربوي ومسألة الهوية الإسلامية.
I ـ مفهوم الأزمة في المجال التربوي بين المنظور النقدي والمنظورات التقنوية والاختزالية:
لتأسيس رؤيته النقدية للخطابات التي تتعامل مع مفهوم الأزمة ينطلق الباحث من الدلالة العامة للمفهوم: فالأزمة عنده هي: "مجموعة من العوائق والمشكلات والعراقل والتوعكات التي يعاني منها قطاع أو مجال أو شيء ما، والتي تشل حركيته العادية، وتخلخل أو تعوق إيقاع سيره الكبيعي، أو تجعله محدود المردودية والكفاية، غير مستجيب، بشكل فعال، لمجمل الأهداف والغايات والمقاصد، التي من المفترض أن يسير باتجاه تحقيقها"[17].
وانطلاقا من هذا المفهوم في دلالته الأكثر عمومية، تقترح هذه الرؤية النقية تجنب الوقوع في منزلقين: التعامل الذي يجعل من الأزمة مجرد اختلال وظيفي Dysfonctionnement لا يتطلب سوى بعض التعديلات الإصلاحية البسيطة، هذا أولا، ثانيا، الوقوع في منزلق المنظورات التقنوية والاختزالية الضيقة: Technicistes et Réductionistes التي تفسر الكل بالجزء، "فتقلب بذلك منطق الأشياء، وتجعل من هذا الجزء ممتكلا لقدرة تفسيرية عجيبة للكل المجتمعي، وذلك بدل أن يكون هذا الكل هو المتحكم في الجزء، يفسره، ويحدد معالمه، بل ومآله أيضا. وذلك دون إلغاء نهائي لهذا الجزء ولدوره التفسيري أيضا"[18].
وعلى عكس الطروحات التقنوية المغرقة في التبسيطية والميكانيكية يعتقد الباحث أن أزمة النظام التربوي، في المغرب على الخصوص، هي "أزمة مركبة متشابكة العناصر والمكونات. إنها أزمة بنيات وهياكل، وتوجهات تنموية، واختيارات سياسية وثقافية واقتصادية واجتماعية شمولية، وناظمة للكل المجتمعي، بتعدد مجالاته وقطاعاته الإنتاجية والاجتماعية العامة"[19].
II ـ أهم تمظهرات الوضع المأزمي التربزي في المجتمع المغربي:
ومن أهم التمظهرات، من وجهة نظر الباحث، التي تعبر عن بعض جوانب ومؤشرات الواقع المأزمي للنظام التربوي بالمغرب راهنا[20]:
1 ـ عجز النظام التعليمي والسياسة التربوية عموما عن تحقيق الدمقرطة الحقيقية والتكافؤ الشامل للفرص التعليمية والاجتماعية،
2 ـ واقع الانفصام القائم حاليا بين مضامين التربية والتعليم والتكوين وبين الحقل الثقافي والاجتماعي العام،
3 ـ وضعية اللاتطابق بين مخرجات أنظمة التعليم والتكوين وبين قطاعات الشغل والاقتصاد والمجالات الإنتاجية والاجتماعية العامة،
4 ـ ضعف المردودية أو الكفاية الداخلية للأنظمة التعليمية والتكوينية،
5 ـ تمامي شروط ومظاهر التبعية لمراكز القرار الأجنبية (كالهيئات الفرانكوفونية، وصندوق النقد الدولي، واليونسكو... وغيرها من الهيئات والمنظمات الحكومية وغير الحكومية النشطة في المجالات التربوية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية المتعددة)
6 ـ فشل النظام التربوي في المغرب في التوصل إلى تأسيس مدرسة وطنية موحدة ومستجيبة في مقوماتها، ومضامين تعليمها، ولغتها، وأهدافها، وتوجهاتها لمتطلبات وحاجات المجتمع المغربي المعاصر،
7 ـ الواقع المتأزم للمسألة التعليمية في الوسط القروي،
8 ـ أزمة الجامعة والتعليم العالي عموما: (أزمة البنيات والهياكل التنظيمية، إشكالةي مضامين التعليم والتكوين، أزمة البحث العلمي والأطر الجامعية الباحثة، مشكلات التنامي غير المراقب وغير المنظم لقطاع التعليم العالي الخاص، أزمة الثقافة الجامعية).
III ـ العواقب والامتدادات التربوية والثقافية والاجتماعية لأزمة النظام التربوي بالمغرب:
وكما تعبر هذه الأزمة التربوية الاجتماعية نفسها من خلال بعض المظاهر المشار إليها قبلا فإن لها عواقب وامتدادات تربوية وثقافية واجتماعية... من أبرزها[21]:
1 ـ على مستوى تكوين المواطن:
ـ غياب المرجعية الفكرية والاجتماعية المتكاملية التي يفترض أن تكون مؤطرة وموجهة لنظامنا التربوي،
ـ هشاشة الربط المخطط والهادف لأنظمة التعليم والتكوين المختلفة في أنماطها ومستوياتها، بالمحيط الثقافي والاقتصادي والاجتماعي الشامل.
2 ـ على مستوى المكانة الاجتماعية والاقتصادية للمدرسة:
فنتيجة لعلاقة اللاتكامل والانفصال القائمة بين النظام التربوي والنظام الإنتاجي والاجتماعي عامة، فقدت المدرسة المغربية في الشروط الراهنة الكثير من قيمتها أو مكانتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي كانت تحظى بها في مواقف وتصورات المواطن المغربي.
3 ـ على مستوى تحولات النسق القيم والمجتمعي العام:
"إن تدهور القيمة الاجتماعية والاقتصادية للمدرس لا يعمل، في واقعنا الراهن، سوى على تعميق العديد من التصورات التي تساهم في تجدير آليات تبخيس قيم العلم والتعليم والمعرفة والثافة والفن، وكل أشكال الإبداع والابتكار، واستبدلها بقيم مناقضة، منحطة في مجملها، تؤكد على تصدر قيم المال والوجاهة الاجتماعية وامتدادها..."، كما يقول المؤلف نفسه في كتابه (ص: 47).
4 ـ على مستوى بروز أو تفاقم بعض المشكلات والقضايا التربوية والثقافية:
كاستفحال ظاهرة الأمية بكل مفاهيمها ودلالاتها وأنماطها، وانفجار المسألة الشبابية، على حد تعبير الباحث، وهجرة الكفاءات والخبرات العلمية والفنية...
IV ـ نحو منظور تكاملي شمولي لمفهومي الأزمة والإصلاح:
ينطلق الباحث من ملاحظة منهجية أساسية مفادها: أن الإصلاح التربوي يتضمن -في دلالته الشمولية- محمولات ومضامين مجموعة من المفاهيم المجاورة ويتجاوزها في الآن ذاته. ومن هذه المفاهيم: التجديد التربوي Innovation Educative والتطوير والإنماء التربوي: Développement Educatif، والتحديث التربوي: Modernisation Educative، والتغيير التربوي: Changement Educatif...الخ.
وتأسيسا على المنظور السوسيولوجي الذي يعتمده الباحث خلفية منهجية موجهة لهذه المقاربة، يؤكد على أهمية النظر إلى هذا المفهوم "في أبعاده الشمولية، وليس كمجرد إجراء جزئي أو ظرفي يمارس على مكون أو مجال تربوي ما داخل قطاع التربية والتعليم والتكوين، أو حتى على هذا القطاع برمته، وإنما باعتباره إصلاحا شاملا يجب أن يمتد مفعوله ليتداخل ويتفاعل مع كل مكونات ومجالات النظام الاجتماعي الشمولي"[22].
ومن هذا المنظور يخصص الباحث مساحة صفحات المبحث الثالث من دراسته لأهم المقترحات التحليلية والتفسيرية التي يقدمها، حول مفهوم الأزمة والإصلاح التربوي، كل من المرجعية الليبرالية، والمرجعية النقدية الماركسية، ليخلص إلى تبنيه للمنظور السوسيوبنائي التاريخي، فاسحا المجال، في اعتقاده، لمرجعية ثالثة أطلق عليها تسمية: مرجعية حوارية أو تكاملية أرادها أن تكون قائمة على اعتبارات منهجية واجتماعية محددة[23] وهادفة إلى تدعيم التقارب بين النظريتين الكبيرتين: الماركسية والبنيوية الوظيفية.
إن المنظور التكاملي الشمولي لمفهومي الأزمة والإصلاح في المجال التربوي عند الباحث يتطلب "الالتزام برؤية واسعة تتجنب الاختزال، وتقوم على نقد مختلف الرؤى والتصورات الضيقة المحدودة، وتنظر بناء على ذلك، للأزمة التربوية التي تعرفها مجتمعاتنا في مختلف أبعادها ودلالاتها ومكوناتها وامتداداتها... كما تنظر إلى الإصلاح التربوي أيضا في شموليته، أي باعتباره أنه يجب أن يكون ناظما للكل التربوي، وممتدا، ومتداخلا مع المحيط الاقتصادي والسياسي والاجتماعي العام الذي يستهدفه"[24].
V ـ عناصر أولية للتفكير النقدي في شروط ومستلزمات الإصلاح التربوي المنشود:
يزاوج الباحث في تناوله لمسألة الإصلاح التربوي بين نموذجين يتمحوران حول مستويين من التحليل: الأول المستوى الميكرو سوسيولوجي ومجاله التحليل هو النظام التربوي تحديدا، والثاني المستوى الماكرو سوسيولوجي، والذي يربط بين إصلاح القطاع التربوي وبين الإصلاح الشمولي للنظام المجتمعي القائم.
ومن هنا يؤكد الباحث على استخلاص مركزي في دراسته مفاده أن الإصلاح التربوي القادر على تجاوز الأزمة التربوية والاجتماعية القائمة هو ما يسميه الباحث بـ: "الإصلاح المتوازي والمتكاملي المسارات"أي ذلك الإصلاح "الذي تنتظم فيه بشكل جدلي وتكاملي، كل الجوانب والمكونات التي تجعل منه إصلاحا شموليا متجنبا لكل اختزال أو تجزيء تبسيطي للمجال المعني"[25].
وانطلاقا من هذه الرؤية التكاملية، التي استلهمها الباحث خلفية موجهة لمقاربته للخطاب التربوي الإصلاحي في هذه الدراسة، يستنتج أهم العناصر الأولية للتفكير النقدي في شروط ومستلزمات الإصلاح التربوي المنشود، الكفيل، في اعتقاده، بتجاوز الأزمة القائمة بكل عواملها وحواملها واستتباعاتها السلبية، وهي[26]:
1 ـ إن الإصلاح التربوي، الذي يطمح إلى أن يكون عقلانيا وإيجابيا يفرض ضرورة الانطلاق من التحديد الدقيق للأزمة التربوية القائمة، ومن المعرفة العلمية الكافية لأسبابها، ومكوناتها، وتجلياتها، وامتداداتها،
2 ـ يترتب على ما سبق أهمية تدعيم البحث العلمي، لا في الميدان التربوي فقط، بل في مختلف المجالات الاجتماعية،
3 ـ إن التحديد الشمولي للأزمة، لا ينبغي أن يفهم منه أنه يلغي الأهمية النسبية، التي يمكن أن يحتلها بعض عواملها ومكوناتها في إطار تراتبيتها البنيوية، غير أن إقرار هذه الأهمية النسبية لا يتنافى، نظريا ومنهجيا، مع ضرورة الإدراك الشمولي لكافة عوامل وعناصر الأزمة،
4 ـ من أبرز المظاهر السلبية للخطاب التربوي الرائج حاليا، تبنيه لبعض الطروحات والمفاهيم والنظريات بلا وعي نقدي كاف بأسسها وخلفياتها ونتائجها،
5 ـ من أهم أسباب فشل الإصلاحات التربوية والاجتماعية التي توالت على مجتمعنا منذ الاستقلال إلى الآن، أنها لم تكن منبثقة من اختيارات وحاجات وتوجهات وطنية ذاتية وخاصة، بقدر ما كانت نابعة -في إطار أوضاع التبعية- من جهات ومصادر أجنبية غربية، لا تمت، في أهدافها ورهاناتها، بأية صلة إلى هذه المجتمعات.
6 ـ تؤكد التجارب والنماذج الإصلاحية في المجتمعات المتقدمة بالذات أهمية التخطيط التربوي في ترشيد السياسات والمشاريع الإصلاحية.
7 ـ إن الإصلاح يستلزم ألا يعد أنه مجرد إجراء يمكن الانتهاء من تنفيذه في ظرفية تاريخية واجتماعية معطاة، ولمعالجة بعض المشكلات أو الأزمات الظرفية العابرة، وأنه بذلك يتوقف فور تخطيها وتجاوزها، وإنما يجب اعتبار هذا الإصلاح سيرورة أو مواصلة اجتماعية مستمرة ودائمة،
8 ـ يستلزم الإصلاح التربوي تحديد إطار توافقي عام يشارك في بلورته وتأسيس دعائمه ومنطلقاته جميع الأطراف والجهات والفعاليات الوطنية، سواء المنتمية منها إلى المجتمع السياسي أو المجتمع المدني.
VI ـ الخطاب الإصلاحي التربوي ومسألة الهوية الإسلامية:
من بين جوانب القوة في الرؤية النقدية للباحث تخصيصه لحيز هام لعامل اللغة العربية في مجال الإصلاح التربوي، حيث نجده يشدد، غير ما مرة، على أهمية هذا العامل اللغوي، إذ أن "أي إصلاح تربوي، أو أي تحديث، أو إصلاح اجتماعي لا يمكنه أن يستقيم إذا هو أغفل، أو تجاهل لسبب أو لآخر هذا المقوم الحضاري الهام: اللغة العربية"[27].
ومن جوانب القوة، أيضا، في هذا الرؤية النقدية النظرة الشمولية والربط المنهجي بين "المسافة التربوية" و"المسألة السياسية" و"المسألة الاجتماعية". فبعض خطابات الإصلاح التربوي -كما لاحظ بحق الباحث- إذ تفصل بين هذه المسائل، فإنها "تكشف بذلك عن مفارقتها للواقع الملموس، بل وعن مساهمتها في تحريف وتزييف الوعي به"[28].
وإذا كان الباحث قد وفق في أطروحاته التحليلية النقدية لبعض خطابات الإصلاح التربوي في تقديم مقدمات لبدائل ناضجة من خلال ربطه بين "المسألة التربوية" و"المسألة السياسية" و"المسألة اللغوي" فإننا نلاحظ عدم تركيز كبير على مسألة الهوية الإسلامية[29]، وهي في اعتقادنا، أم المسائل ومسألة المسائل في أي مشروع غصلاحي أو تغييري، تربوي أو اجتماعي. إننا لا نجد في المرجعية الحوارية والتكاملية التي يقترحها علينا الباحث، في معالجته لمفهومي الأزمة والإصلاح التربوي، حضورا بارزا لمسألة الهوية الإسلامية. فهذه المرجعية النقدية الحوارية تركز على محاولات التوفيق والمكاملة بين المرجعية الليبرالية والمرجعية المراكسية، بهدف تجاوزهما بمرجعية بديلة. وفي اعتقادنا، فإنه لا يمكن تبني مثل هذه المرجعية التوفيقية بأمان إلا من خلال الحذر من التسليم بالأطروحات التالية، وهي تحديدا أطروحات أربع:
أولا، ضرورة التضحية بالهوية الإسلامية من أجل الوجود، وهي أطروحة مردود عليها، فلا وجود من دون هوية، فالهوية والوجود متلازمان، وبالتالي لا يمكن التضحية بأحدهما دون التضحية بالآخر. فمن يفقد هويته يفقد وجوده، تماما كما يفقد النهر وجوده بمجرد أن يترك هويته ليتلاشى في البحر، عندها يصبح بحرا لا نهرا[30].
ثانيا، إن ما يميز أمة عن أمة هو ماضيها فقط، وهي أطروحة مردود عليها، أيضا، فالهوية الحية هي التي تعرف كيف تلائم بين تاريخها وإمكاناتها ومستقبلهان بين ما كان وما هو كائن وما ينبغي أن يكون. فحركة التاريخ تتميز عن كل الحركات الأخرى بأنها حركة غائية لا سببية فقط. وهذا ما يبدو أن المؤلف يراهن على الوعي به من خلال اهتمامه بالبعد السوسيوتاريخي لمشروعه النقدي.
ثالثا، الصلاحية المطلقة لكل زمان ومكان للمنظومة المعرفية التي شيدها الغرب لنفسه، بهدف إعادة بناء التاريخ البشرية ومحورته حول الذات، من خلال فلسفات التاريخ التي عرفت رواجا واسعا في أوربا، خلال القرنين الثامن والتاسع عشر، ومن خلال "الاستشراق" الذي شيد لأوربا "ثقافة كاملة عن الشرق تجعله الآخر بالنسبة إليها، لا الآخر الند، بل الآخر الأدنى الجامد المنحط المتخلف"[31]. هذا مع التذكير بالموقف النقدي المتحفظ والحواري للمؤلف إزاء هذه المنظومة المعرفية الغربية.
رابعا، أن الغرب قد تحرر من خلفياته الثقافية الدينية، وأنه غرب علماني خالص براغماتي لا غيير. ويرد الدكتور الجابري على هذه الأطروحة بقوله: "وسنكون مخطئين إذا نحن اعتقدنا أن الغرب قد تحرر من تلك الخلفيات الثقافية الدينية التي كانت توجه فلاسفة التاريخ والمستشرقين وأنه الآن غرب علماني خالص، عقلاني براغماتي لا غيير، سنكون مخطئين إذا نحن جردنا الغرب عن ذاكرته الثقافية الدينية، ذلك لأنه إذا كانت هذه الذاكرة تفعل بصورة واعية في الكنسيين والمتطرفين العنصريين في كل من أوربا وأمريكا فهي تفعل بصورة لا واعية في العلمانيين والليبراليين، وهي تميط عن نفسها بين حين وآخر من خلال ردود فعل معينة غير مراقبة"[32]. بهذه الآفاق الحوارية التي تفتحها هذه الدراسة، ننهي هذه القراءة لكتاب الخطاب الإصلاحي التربوي...للأستاذ مصطفى محسن، وهو كتاب جدير بالقراءة والمناقشة والنقد من طرف المهتمين
بمجالات الفكر التربوي والاجتماعي بعامة، وسوسيولوجي التربية بخاصة. وسواء تعلق الأمر بالواقع المغربي أو بسياقنا العربي والثالثي بشكل عام
--------------------------------------------------------------------------------
(*) دليل التفتيش التربوي بالتعليم الأساسي والثانوي، إعداد وتأليف إبراهيم الباعمراني، صدى التضامن، البيضاء، 1999.
[1] - المدونة: مجموعة من النصوص والثائق المكتوبة المستمدة من مصادر مرجعيات حجة مختارة.
[2] - ألكسندر ستيبتشفيتش، تاريخ الكتاب، ترجمة محمد م، الأرناؤوط، عالم المعرفة، عدد 170، 1993، ص222 .
[3] - أنظر: ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، 1986.
[4] - استفدنا في التعرف على بعض علامات التكون التاريخي للتفتيش، من خلال الاطلاع على المقالة المضيئة للأستاذ الباحث محمد الغالي: "ما مصير مهنة التفتيش التربوي بالمغرب"، الملحق التربوي للاتحاد الاشتراكي، 9 مارس 2000.
[5] - تبنت بعض الأبحاث والدراسات تسمية "الإشراف التربوي" بدل "التفتيش التربوي"، من قبيل بحث درفوفي أحمد فريد الموسوم بـ"الإشراف التربوي، مقوماته وتقنياته"، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، 1991.
[6] - الميثاق الوطني للتربية والتكوين، منشور اللجنة الخاصة بالتربية والتكوين، يناير 2000.
[7] - أنظر مقالة الأستاذ محمد الغالي، ما مصير مهنة التفتيش التربوي بالمغرب، مرجع سابق.
[8] - تراجع الدراسة الهامة للباحث الفلسطيني الأصل إدوارد سعيد، عندما تسافر النظرية، ترجمة مصطفى كمال، بيت الحكمة، العدد الثاني، يوليوز 1986، ص139 وما بعدها.
[9] - "المراقبة والمعاقبة" و"حفريات المعرفة" لفوكو، "الرمز والسلطة" لبورديو "الاستشراق" و"الثقافة والإمبريالية" و"الناقد والعالم والنص" لسعيد، "الكتابة والاختلاف" وغيره لديريدا، "شرطة العائلات" لدونزيلو.
[10] - أنظر: عبد الله الأشقر، التفتيش بالتعليم الثانوي، منطلقات إشكالية ومبادئ لتأسيس استراتيجية للإشراف التربوي، أعمال ندوة الإشراف التربوي بين التنظير والممارسة، الدار البيضاء، 22-23 أبريل 1994، ص23 وما بعدها.
[11] - La pratique et les critères d'évaluation utilisés dans l'inspection de l'enseignement secondaire au Maroc, M.A. Université de Montréal, Québec, 1982.
-L'inspectorat de l'enseignement secondaire au Maroc, PHD, Université de Montréal, Québec, 1991.
[12] - Olivier Reboul, Le langage de l'éducation : analyse du discours pédagogique, édition, PUF, Paris, 1984.
[13] - أنظر التقديم العام لندوة الإشراف التربوي، أعمال ندوة الإشراف التربوي بين الممارسة والتنظير، مرجع مذكور، ص20
(*) أستاذ سوسيولوجيا التربية والتنمية والشغل، مركز التوجيه والتخطيط التربوي، الرباط، المغرب.
(**) مفتش في التوجيه التربوي، القنيطرة، المغرب.
[14] ـ مصطفى محسن، الخطاب الإصلاحي التربوي: بين أسئلة الأزمة وتحديات التحول الحضاري...، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،بيروت، الطبعة الأولى، 1999.
[15] ـ مصطفى محسن: في المسألة التربوية: نحو منظور سوسيولوجي منفتح، شركة بابل للطباعة والنشر والتوزيع، الرباط، الطبعة الأولى، 1992، ص5-7.
[16] ـ للمزيد من التفاصيل حول المقومات الاجتماعية-التاريخية للمشروع الفكري للباحث انظر: مصطفى محسن في المسألة التربوية...، نفس المرجع السابق، ص7-8.
(*) المقصود بتمظهرات الأزمة عند الباحث، تلك التجليات التي تبرزها أمام الملاحظة، وتشكل مؤشرات دالة عليها.
(**) يحدد الكاتب عواقب الأزمة في تلك الامتدادات والآثار العميقة والسلبية عموما لهذه الأزمة، أي تغلغل مفاعيلها في ثنايا النسيج المجتمعي برمته، فكرا وممارسة عينية ملموسة.
[17] ـ مصطفى محسن، مرجع مذكور سالفا، ص19.
[18] ـ نفس المرجع السابق، ص23
[19] ـ نفس المرجع السابق، ص23-24
[20] ـ يراجع في هذا الإطار المبحث الثاني من الكتاب المذكور سالفا، والمتحور حول أهم تمظهرات الوضع المأزمي التربوي الراهن في المجتمع المغربي المعاصر، ص27-41.
[21] ـ انظر المبحث الثالث من نفس المرجع السابق ص43-
[22] ـ مصطفى محسن، مرجع مذكور سالفا، ص61
[23] ـ فيما يتعلق بالاعتبارات المنهجية والاجتماعية للمرجعية الحوارية عند الباحث، راجع المرجع السابق نفسه، ص67-70
[24] ـ المرجع السابق نفسه، ص69
[25] ـ مصطفى محسن، الخطاب الإصلاحي...، مرجع مذكور سالفا، ص84
[26] ـ لقد خصص الباحث المبحث الخامس لموضوع العناصر الأولية للتفكير في بناء رؤية اجتماعية نقدية لأهم شروط ومستلزماتن مشروع الإصلاح التربوي، ص71-88.
[27] ـ مصطفى محسن، الخطاب الإصلاحي...، مرجع مذكور سالفا، ص103.
[28] ـ نفس المرجع السابق، ص106-107
[29]ـ يميز الجرجاني في تعريفاته بين الماهية والهوية والحقيقة والذات والجوهر، فيقول: "والأمر المتعقل (أي فكرتنا عن الشيء) من حيث إنه مقول في جواب ما يسمى ماهية، ومن حيث ثبوته في الخارج يسمى حقيقة، ومن حيث امتيازه عن الأغيار هوية، ومن حيث حمل اللاوازم له ذاتا، ومن حيث يستنبط اللفظ مدلولا، ومن حيث إنه محل للحوادث جوهرا".
[30]ـ مصطفى الحاج علي، الهوية من منظور فلسفي-إسلامي، مدخل نظري لنقاش علاقة المثقف بالهوية، مجلة المنطلق، العدد 99، شعبان/رمضان، 1413، ص23
[31] ـ محمد عابد الجابري، مسألة الهوية: العروبة والإسلام... والغرب، مركز دراسات الوحدة العربية، سلسلة الثقافة القومية.(27)، الطبعة الأولى بيروت، أبريل 1995، ص126.
[32] ـ نفس المرجع السابق، ص136-137
--------------------------------------------------------------------------------
حصار الثقافة
بين ثقافة الصورة والثقافة الأصولية
بقلم: لقمان محمود
تكمن أهمية كتاب حصار الثقافة - بين القنوات الفضائية والدعوة الأصولية للدكتور مصطفى حجازي في شموليته التي يعرض من خلالها ثقافة الصورة والثقافة الأصولية، وتجلياتهما على المشهد العالمي، مع استعراض كل منهما بمقاربة تحليلية، آخذا بعين الاعتبار أسس وآليات ووظائف وتوجهات هاتين الثقافتين، بالإضافة إلى وقفة نقدية لمسألة شراكتهما وتحالفهما في حصار الثقافة. وهذه الدراسة تفترض كما يقول المؤلف في الصحفة (19) أن كلا من الثقافة الإلكترونية والأصولية تشكلان مشروعا لتشكيل أساليب التفكير والمعرفة والسلوك والتفضيلات والمواقف والنظرة إلى الذات والكون والمرجعية الجماعية، وصولا إلى توحيد المنتمين إليها في فئة اجتماعية خاصة بهم وكيان ينتمون إليه. فالثقافة الإلكترونية ليست مجرد متعة وتسلية، كما أن الثقافة الأصولية ليست مجرد دعوة أو التزام. من هنا زعم القول بالحصار الثقافي. ذلك أن الشأن الثقافي مع تهاوي حدود الزمان والمكان أصبح من قضايا الإنسانية الكبرى، كما هو قضية وطنية في المقام الأول. لأن لكل مجتمع ثقافته ووسائطه. والمجتمع هو في الأصل حالة حضارية. وبالتالي فثقافة المجتمع هي التعبير عن حالته الحضارية.
يأتي الكتاب في أربعة فصول. ففي الفصل الأول والمعنون بـ ثقافة الصورة واقتصاد السوق نجد أن �
ساحة النقاش