المناهج والمنهجية وطرائق جمع القاعدة المعلوماتية للبحث العلمي
"دراسة أكاديمية تحليلية ومنهجية"
د.هيثم الحلي الحسيني
الحلقة الثالثة
تصنيف وطرائق البحوث العلمية ومصادر معلوماتها
التصنيف بمعيار حجم البحث وقيمته العلمية
يعتمد حجم المعلومات وأسلوب جمعها وطرق انتقائها، بجانب كبير على معيار حجم البحث وقيمته العلمية. ولأجل ذلك لابد من تأشير الأنواع المتداولة من البحوث العلمية Scientific Researches نسبة الى هذه المقاييس قبل التطرق الى طرق ووسائل جمع المعلومات والمادة العلمية لإنجازها، ووضع الخطة والبرنامج الملائم لها، وبناءاً على هذا التصنيف، فإن البحوث العلمية يمكن أن تكون كما يلي:
1. ورقة البحث أو ورقة الخدمة أو المقالة العلمية (PAPER, ESSAY)
وهو بحث صغير لا يتوخى منه الامتداد والتعمق كما هو الحال في الأنواع الأخرى من البحوث، ويلجأ إليه عادة في سنوات التحضير أو الإجازة في الدراسات العليا، وذلك لاختبار مقدرة الطالب بصفته مشروع باحث، على جمع المعلومات وترتيبها ترتيباً منطقياً والتوليف بينها وتصنيفها في المتشابهات والمتناظرات, والتدرب على الأمانة العلمية والدقة في النقل والاقتباس، الاستلال والاستنساخ، والنقد والتحليل، ولا يطلب من الطالب في هذا النطاق أن يأتي بجديد, لكن هذا الشكل من البحث العلمي, يفتح أمامه آفاقاً جديدة للاكتشاف والبحث.
وقد تكتب البحوث القصيرة المركزة أيضاً من قبل باحثين متمرسين أو خبراء اختصاصيين، بغرض إلقاء الضوء على معضلة محددة ليكون مشروعاً لبحث مستقبلي معمق. وتكتب ورقة الخدمة أو الإيجاز العلمي عادة، من قبل الخبير الاستشاري في المواضيع التخصصية ذات الصلة بدالة المشورة العلمية وتقديم المقترحات لصنع القرار. إن عدد صفحات هذا الشكل من البحوث، لا يتجاوز عادة عشرين الى ثلاثين صفحة, وقد يقل أو يزيد على ذلك, وعليه فإن طرق ووسائل جمع المعلومات لأغراضها تكون في النطاق الملائم لها أيضاً.
2. الرسالة ( DISSERTATION )
تسمية علمية أكاديمية تطلق على بحث يقدم في أغلب الأحيان لنيل شهادة الماجستير أو دبلوم التخصص أو الدبلوم العالي بعد الشهادة الجامعية الأولية, بشكل رسالة جامعية. والغاية منها تقويم منهج الطالب أكثر من هدف الاكتشاف أو الابتكار، ويعرفها "آرثر كول" و "كارل بيجيلو"، في "المرشد لكتابة الرسالة"، بأنها "تقرير واف يقدمه الباحث عن عمل تعهده وأتمه، يشمل كل مراحل الدراسة منذ كانت فكرة حتى صارت نتائج مدونة، مرتبة مؤيدة بالحجج والأسانيد".
والرسالة تكون عادة مقدمة أو تمهيداً للبحث العلمي المعمق، في أطروحة الدكتوراه، التي تهدف الى الاكتشاف والابتكار والفتح العلمي، ولذلك يتم التركيز في مناقشة الرسالة الجامعية على المنهج والمنهجية العلميين في البحث أكثر من الفتوح العلمية الجديدة التي يتوقع أن تأتي بها الرسالة، ولو توصل الباحث الطالب لشيء من ذلك فهو يسجل إبداعاً وتميزاً له، وغالباً ما يحصل ذلك لطالب الدراسات العليا الذي يتهيأ كمشروع باحث للمستقبل.
وفي الدراسات التراثية والدينية، في علوم الفقه والأصول والتفسير والحديث والرجال والدراية والكلام أو العقائد، وعلومها الساندة في اللغة وآدابها والفلسفة والمنطق والتراث والأنساب وسواها من المعارف الإنسانية، تطلق تسمية الرسالة أيضاً، على البحوث غير المطولة والمؤلفات المصنفة بمنهج بحثي علمي، التي لا يصل حجمها الى مستوى كتاب، غير أنها تخلص الى استنتاجات علمية وتوصيات محددة.
على اختلاف الأغراض البحثية، فإن قيمة الرسالة الجامعية الأكاديمية لا ترتبط بعدد صفحاتها، بل بمنهجيتها وأسلوبها وطرائقها العلمية، وبمنهجها في البحث، ويمكن أن تشمل الرسالة البحثية المجالات التالية:
أ. معالجة موضوع معين في السياسة، الاقتصاد، الحضارة، اللغة، التراث العلمي، الدراسات الإجتماعية والإنسانية، أو غيرها من العلوم المعرفية الصرفة أو التطبيقية أو الطبيعية التي يطلق عليها في التراث بعلم الهيئة، أو مقاربة علمية تحليلية لإحدى الدراسات الاستراتيجية أو الجيوسياسية.
ب. تعريب كتاب، شرط أن يكون على صلة باختصاص الباحث وخبرته، وأن يصدره بمقدمة وافية يعرض فيها خصائص الكتاب المعرّب، وترجمة تعريفية بمؤلفه، وأن يلحق به معجماً للمصطلحات والفهارس التقنية اللغوية اللازمة.
ج. تحقيق لمخطوط كتاب من التراث العلمي، في اختصاص الباحث ومجال خبرته، والتحقيق هو ملازمة النص أو المتن المُحَقَق تدقيقاً وتعليقاً، إخراجاً وفهرسة، كل في مجال دالته الوظيفية، والسير بالنص حتى آخره، بمقابلة النسخة الأم مع النسخ المتيسرة الأخرى، وبيان أوجه الاختلاف بين النسخ المختلفة إن وجدت في الهوامش، بعد تعليم النسخ أو ترقيمها, فيكون إحكاماً وضبطاً لمادة الكتاب كما صدر من مصنفه، متناً ونصاً، عنواناً وأسلوباً, ويرفق بهوامش وافية عن مصادر ومراجع مختلفة تلقي على الكتاب المؤلف مرجعية رصينة.
ويشتمل التحقيق في الكتاب المخطوط أيضاً على رأي وموقف واضح للباحث المحقق في فقراته، فضلاً عن تعليقاته وحواشيه بغرض التعريف بالمفاهيم والأفكار الواردة في النص، وتراجم الشخصيات والأعلام[1]. وتطلق مفردة "التحقيق" في البحوث والدراسات الفقهية والأصولية والكلامية، على ما هو أوسع من هذا العمل, لتشمل البحث العلمي المعمق والأصيل، الذي يرتبط به فتحاً علمياً ومعرفياً رائداً وجديداً، فضلاً عن الجهد العلمي المتعلق بالاجتهاد البحثي والاستدلال العلمي الأصولي لاستنباط الحكم الشرعي, وبهذا المعنى تطلق تسمية المحقق، حصراً على الرواد الأعلام في الموروث العلمي في الحقول البحثية الدينية الفقهية والأصولية والرجالية.
د. فهرسة BIBLIOGRAPHY المؤلفات المصنفة الموسعة أو المجلدات الكبيرة، خاصة الموسوعات العلمية والمعاجم المعرفية ودوائر المعارف، ويدخل في هذا الغرض فهرسة موجودات المكتبات وخزانات الكتب الغنية بمحتوياتها من المصنفات، من خلال عرض وتحليل ودراسة عناوينها ومواضيعها، ويطلق على الفهرسة بعلم المكتبات بفن وصف الكتب أو دراسة الكتب study of books, وتشمل الفهرسة أيضاً الدراسات والبحوث التوثيقية.
هـ. رصد إحصائي بياني لمعلومات مرتبة للوصول الى بيانات رقمية، ذات دلالات ومعايير واستنتاجات مؤشرة ضمن موضوع محدد لمجتمع البحث وهي العينة الإحصائية، أو الدراسة الميدانية وفق المعطيات الاحصائية في اختصاص الباحث.
3. الأطروحة (THESIS)
تسمية علمية أكاديمية تطلق على البحث العلمي الأصيل والمعمق الذي يقدمه الطالب الباحث لنيل شهادة الدكتوراه أو ما يعادلها في اختصاصه، مثل زميل الكلية، أو الجامعة FRCS مثلا[2]، أو شهادة الهيئة العلمية BOARD [3] ، أو المرشح للعلومCANDEDAT [4]، أو شهادة الدراسات العالية في علم معين CSS [5]، أو بطاقة المحاسبة العليا[6], أو أي تسمية لأعلى شهادة في مجال الاختصاص، وفق الأنظمة الأكاديمية العالمية المختلفة.
وتعتبر أرفع درجات البحث قيمة وعلماً ومنهجاً، وتقوم بالإضافة الى منهجها العلمي الرصين، على ما تكتشفه في مجال الدراسة المعتبرة من أمور خفيت على المتقدمين أو التبست عليهم أو أهملوها، وعلى ما تقدمه من مستجدات للعلم تساعد على تطوره ونمائه. أما عدد صفحاته فغير محدد لكنه عادة يزيد على عدد صفحات الرسالة الجامعية لشهادة الماجستير، وليس الاتجاه الأكاديمي الحالي مع التطويل والإطناب والتوسع في عدد الصفحات، وغالباً ما يتطلب إجراء دراسات ميدانية أو تجارب مختبرية من أجل التوصل الى نتائج واستنتاجات واقتراحات وتوصيات ذات قيمة علمية لحل معضلة البحث, وتوسيع حدود المعرفة لموضوع مشكلة الأطروحة خاصة في الدراسات والبحوث الاجتماعية.
ولتوسع الحقول العلمية وفروعها وتخصصاتها الدقيقة والمتقدمة، ظهرت دراسات الدكتوراه العليا أو المتقدمة أو ما فوق الدكتوراه لهذه الأغراض، لتنظم الى تسميات دكتوراه فلسفة أو دكتوراه دولة أو الحلقة الأولى، كما في النظام الفرنسي, أو دكتوراه العلوم كما في النظام الروسي, سواء في العلوم أو الآداب.
وقد ينشر الباحث أطروحته الجامعية بكتاب، أو توصي الجامعة المعنية بتعضيده لنفس الغرض، غير إن الكتب المؤلفة مهما توسع مؤلفوها، لا تعد بأي شكل بحثاً علمياً، وهو ما يشجع المؤلف على تصنيف كتاب بدلاً من كتابة بحث علمي مفصل، حيث يجوز للمؤلف في كتابه ما لا يجوز للباحث في بحثه، من التقيد والتحدد بأحكام مناهج البحث ومنهجيته، وحضور المنطق ترتيباً وتفكيراً، وسلوكياته وموضوعيته وحياديته البحثية، التي تحكمه الأمانة العلمية، في حين يطلق المؤلف العنان لقلمه سياحة وأحكاماً، والتنقل في أكثر من مجال معرفي، مع إمكانية حضور العاطفة والتصميم المسبق برفض أو قبول الأشياء، مدحاً ونقداً وتجريحاً وثناء أو عتاباً، وفقاً لاجتهادات المؤلف.
في حين يكون الباحث أزاء كل ذلك ملزماً بالعرض العلمي المنطقي، والتحليل والاستقراء والاستدلال، لكل ما له علاقة برأى، اتفاقاً أو مخالفة، مع لزوم تجنب العبارة اللغوية التي قد تصلح في كتاب معبر عن لون الكاتب وأحاسيسه، أو الصيغة اللفظية التي تعد أداة المقالة الصحفية ذات الصنعة الإعلامية الحرفية المباشرة المنتجة لصحيفة يومية.
يميل الكتّاب المؤلفون ذوو الخلفيات البحثية العلمية الى إظهار ذلك في مؤلفاتهم تعمداً، أو بإعمال خزين اللاوعي في ذاكرتهم الذهنية الجانحة لمنهجية البحث، وإن حاولوا التحرر منه، فتظهر كتب من هذا القبيل مقيدة بهيكلية منطقية، "تلتزم العناوين الجامعية للمتشابهات والمتناظرات، والتسلسل المنطقي الذهني للأفكار، وتراتبية الفصول والعناوين والمواد والفقرات، الجامعة للمادة المصنفة"[7] لكنها تحظى بهامش واسع من الحرية والتحرر في الكتابة, ما لا يتيسر للباحث المشتغل في البحث الأكاديمي.
4. البحث العلمي القياسي Treatise
وهي البحوث المعمقة المنجزة بجهد فردي أو جماعي التي ينفذها الأكاديميون والجامعيون, كجزء من مهامهم المهنية, وضمن اشتراطات ترفيعهم العلمي, وتنجز بشكل منظم وموجه الأهداف والمواضيع في المراكز البحثية العلمية, المستقلة أو المرتبطة بالجامعات أو المؤسسات العلمية والثقافية والإعلامية التي يعبر عنها بالنظرية, لجهة عدم اشتراط محاكاتها لحاجة عملية قد طلبت إنجازها, وتنجز البحوث العلمية "العملية" لكي تستخدم مخرجاتها في التنمية الاقتصادية والبيئية والاجتماعية والصحية في هيئات حكومية أو مرتبطة بمؤسسات القطاع الخاص الكبرى, وبما يطلق عليها أيضاً أعمال البحث والتطوير .R&D Research and Development
اختيار موضوع البحث وعنوانه
إن المقصد في كل بحث, هو دراسة معضلة ما ، فهو جهد منظّم الهدف منه الوصول الى إدراك معين بدافع الحاجة الملحة لإيجاد حل لمشكلة قد سيطرت على الباحث. وعليه فإن البحث بهذا المعنى، يكون مشروعاً علمياً ينبغي تحديد ملامحه الأساسية والرئيسية من قبل الباحث أو الطالب.
غير أنه من الشائع أن يعتقد الطالب نتيجة لخبرته المحدودة, وكأنّ المجال الذي يهتم به أو العلم الذي يروم البحث فيه قد أشبع بحثاً، وإن مشكلات تخصصه العلمي قد تم حلها أو التطرق إليها، وهي فكرة غير سديدة على الأرجح, فيصاب بالحيرة التي تقوده نحو أساتذته ليدلّوه الى موضوعات بديلة يبحث فيها أو يعدلوا له عنوان بحثه أو نطاقه، فيكون مستعداً أن يغير رأيه المسبق، لأنه يبحث في جوهر الحقيقة العلمية، دون أن يكون له رأي في بادئ الأمر. إن الأستاذ الجامعي، لا يكون على اطلاع تفصيلي دائم برغبات الطالب وميوله وقدراته، لذا قد تكون إرشاداته غير متطابقة مع هذه الجوانب، مما يجعل الطالب يعود الى خيارات جديدة.
وعليه فإن على الطالب أن يبدأ رحلة البحث عن المعلومات وجمعها والبدء بتشكيل القاعدة المعلوماتية للبحث المراد الاشتغال به, في مرحلة اختيار عنوان ومجال البحث ونطاقه وموضوعه، لأنها الخطوة الأولى في عملية الجمع الصحيح عن المعلومات، بما يلائم امكانات الطالب وقدراته ورغباته, وحيوية الموضوع وأصالته، وفق خطته البحثية لجمع المعلومات، وتستمر عملية التنقيب المعلوماتي حتى الانتهاء من البحث. وهنا يأتي دور الاستعانة بالأستاذ للاستيضاح العلمي والمنهجي في اختيار موضوع البحث وعنوانه، وفق المؤشرات التالية:
أ. الرغبة والميل لدى الباحث الطالب في موضوع البحث، التي توفر له المتعة والتشويق للبحث, وتحمّل متاعبه والجهود والمسؤولية المطلوبة، كما لا ينصح أن يختار الباحث الطالب موضوعاً يتنافى مع عقيدته وعاطفته، ولا موضوعاً توجب عاطفته أن يسير فيه سيراً معيناً, خشية المبالغة في التصور والتقييم غير المجرد، بعيداً عن الحيادية العلمية والموضوعية والمصداقية البحثية، وهو نطاق قد يصلح لتأليف كتاب، ولكن ليس رسالة بحثية جامعية, وعادة ما يفضل البحث في هذه الخيارات من قبل الباحثين المتمرسين في بحوثهم المنجزة لاحقاً للأطروحة أو الرسالة الجامعية. إن البحث لصاحبه كاللوحة الفنية التي يرسمها الفنان بمتعة ومسؤولية واختيار، ليبدع فيها، وإلا فلا يوفق.
ب. الجدة والحداثة في الموضوع، ولا بأس البحث في موضوع مطروق سبق الباحث إليه غيره, على أن يأتي الباحث بجديد بأسلوب تقديمه للمادة العلمية, وطريقة بحثه أو منهجه وما يتوصل إليه، مما يتطلب من مشروع الباحث، متابعة العناوين البحثية المنفذة في مجال تخصصه قديماً وحديثاً، وما توصلت إليه ليتجنب البحث المكرر, أو المنهجية والهيكلية المكررة. باستثناء بعض المؤسسات العلمية وخاصة في الدراسات العسكرية العليا, التي لا تحبذ اطلاع الطالب الباحث على البحوث المنجزة, بهدف منعه من تاثره بمسلكها, غير إن ذلك لا ينسحب على البحوث التي تنجز فيها في مستوى الدراسات الاستراتيجية العليا للسبب ذاته.
وتوفر تسهيلات المواقع الإلكترونية على الشبكات المحلية أو الدولية، دليلاً معاصراً ومحدثاً بعناوين البحوث الأكاديمية المنجزة أكاديمياً وجامعياً أو في المراكز البحثية، بهدف طلبها والاطلاع عليها والاستفادة منها، فضلاً عن العناوين المطلوبة للبحث لمختلف المعارف والعلوم، وفي ضوء هذه المعلومات يتمكن الباحث من تكوين فكرته حول عنوانه المختار للبحث الرصين.
ج. أهمية الموضوع، سواءاً للباحث أو الجهة المستفيدة أو المجتمع، العنوان الذي يربط العلم في الحياة من خلال الانتفاع به، بحيث لا ينكفي البحث بعد اتمامه في زوايا خزانات الكتب المظلمة. إن العمل البحثي المنجز قد يشكل للباحث مادة للتدريس إذا توجه لممارسة التدريس، أو مادة للكتابة إذا توجه للكتابة والتأليف, خاصة إذا تم تعضيد البحث، أو مادة لبحوث أكاديمية لاحقة متفرعة عناوينها عن العنوان الأصل، أو للتطبيق العلمي العملي في الممارسة بعد نيل الشهادة.
د. حصر المشروع وتحديد وتضييق ميدانه، لأن الموضوع الموسع أفقياً ستكون معالجته سطحية, ويطلق عليها الفرشة المعلوماتية البحثية، في حين أن التوسع العمودي يمكن الباحث من التعمق والإلمام بتفاصيله الدقيقة وسبر أغواره. إن منهج البحث العلمي التاريخي مثلاً، يفرض تحديدات زمانية ومكانية للبحث في عنوانه، بما يضمن العمق العلمي للدراسة، وهو أقدم مناهج البحث العلمي, وهكذا يجري تقييد العنوان للتخصصات الأخرى في الزمان والمكان أو الدالة البحثية أو مركز الاهتمام.
ه. وفرة المادة العلمية وتيسرها، ووفرة مصادر البحث ومراجعه، فضلاً عن وجود بيئة قريبة تناسب ثقافة الباحث تقدمها مراكز علمية أو خزانات كتب في متنوعة، تغذيه بالقسط الوافر من المراجع، ويتوفر القرار على تيسر تلك المادة ضمن خطة جمع المعلومات، مما تمكن الباحث من إعادة النظر في العنوان.
و. القدرة العلمية والثقافية واللغوية، فإجادة لغة معينة غير منتشرة في بلد الدراسة سيشجع الباحث لاختيار عنوان كتب عنه باللغة التي يتقنها، ليتمكن من نقل أفكار جديدة الى بيئته العلمية، ما لم يتوفر لغيره، مما يعطي البحث اصالة علمية.
وكذلك الأمر بالنسبة لمن يلم بثقافة أو دراية بمعارف علمية معينة، عليه استثمارها في اختيار البحث، وفي الحالات الأخرى عليه الابتعاد عن تلك الخيارات. وكذلك بالنسبة للقدرة المادية للباحث أو المؤسسة البحثية القائمة بالبحث أو الدراسة، لمعالجة الموضوع. إن هذه القدرات المطلوب توفرها يجري البحث فيها عادة بعد الفراغ من قدراته الأساسية في حقله العلمي، وتمكنه من تخصصه ومعالجة العنوان.
ز. الروح العلمية، تجري وراء الحقيقة لا يقودها أو يؤثر بها رغبة أو هوى، فلا يجوز اختيار عنوان مع نية مسبقة للثني عليه أو معارضته، الباحث العلمي هو من يترك ذلك تبعاً للاستقراء العلمي والنتائج المنطقية التي سيخلص لها البحث نتيجة المناقشة للعوامل المؤثرة في البحث, التي تجمعت من المادة العلمية خلال عملية جمع المعلومات البحثية. ويتوجب في البحث العلمي الرصين, أن لا وجود ثابت لتلك النتائج في ذهن الباحث، بما يطلق عليه بالتصميم المسبق لنتائج البحث، وهو المقتل لنجاحه، لأنه سيتحول من بحث علمي الى مناظرة.
عليه فإن عنوان البحث سيكون شاملاً ببلاغة لكل مايستوعبه البحث من جزئيات وتفاصيل، وما يتفرع عنه من أبواب، التي بدورها تعامل عناوينها بنفس السياق لجهة شمولها لجزئيات وتفاصيل مادتها العلمية، وتفرعاتها الى فصول ثم مباحث، التي ينسحب السياق أيضاً على عناوينها الفرعية والمادة المتعلقة بها.
مدخل للمناهج والمنهجية للبحث العلمي
إن عملية تفريع العنوان الرئيس للبحث العلمي الى عناوين لأبواب، والأبواب الى فصول ومباحث وعناوين فرعية، تمثل التخطيط لهيكل البحث وتبويبه، وتخضع الأبواب والفصول والمباحث في ترتيبها الى أساس سليم وفكرة منظمة ورابطة خاصة، مثل الترتيب وفق التسلسل الزمني، وهو الذي تعتمده بحوث المنهج التاريخي، أو وفق الأهمية والتسلسل المنطقي، ونحو ذلك كما في بحوث المناهج التحليلية، التي تعتمد الاستقراء المنطقي، وهو ما يطلق عليه أهل المنطق أو المناطقة بالمناهج العامة.
وقد ينحو البحث مسلك المناهج الخاصة، كالمناهج الاحصائية أو الرياضية والتجريبية والمختبرية وسائر مناهج العلوم الصرفة والتطبيقية، وهي بمجموعها طرائق ومذاهب للأسلوب المتبع في البحث في التفكير الذهني الذي يتبعه الباحث للوصول بالحقائق المتحصلة عن جمع المعلومات الى استنتاجات علمية تفتح له المسالك لحل المعضلة أو المعاضل التي استهدفها البحث.
إن المنهج البحثي المتبع يؤثر بمنهجية البحث، وهي الجوانب الشكلية والهيكلية فيه، وتبويب الرسالة أو البحث أي تفريعها الى أبواب وفصول ومباحث، وعناوين رئيسة وسطية، وفرعية جانبية، وصولاً الى الانتهاء من تخطيط البنية الأساسية للبحث، وهي اتمام وضع الهيكل التصميمي للبحث, ومن ذلك يفهم الفرق بين مفهومي "المنهج" و"المنهجية" في البحث العلمي.
لتدخل بذلك المرحلة اللاحقة وهي جمع المعلومات، التي سترتب وتضمّن تحت كل عنوان، ضمن الهيكل المخطط للبحث، لتكسوه بالمادة العلمية والمعلومات اللازمة للعنوان، اقتداءا بالخلق الإلهي المقدس "وجعلنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً فتبارك الله أحسن الخالقين"[8]، وكذلك عملية الخلق البحثي، حيث يشرع الباحث لأجل ذلك بوضع خطته لجمع المعلومات، مستحضراً كافة الوسائل المتاحة، المكتوبة والميدانية، المتحصلة تقليدياً، او بالتقانات المعلوماتية الحديثة.
ويمكن أيضاً تصوير التكليف الإلهي بعملية الخلق البحثي أيضاً, من حيث اعتبار دلائل التكليف الإلهي أربعة, وهي "الكون", في التفكير به وعظمته وهو بذلك يشكل العنصر الأول في البحث وهو التفكير أو وسيلة وطريقة للتفكير بالحقائق بهدف الخروج باستنتاجات أو قوانين, ومن ثم "العقل" وهو العنصر الثاني في في البحث العلمي, الذي بإعماله يسير البحث بالمنهج والمنهجية المطلوبة, و"الفطرة" باعتبارها في التكليف الإلهي دالة لحب الإيمان وقبوله وكره الكفر ورفضه, وهي في البحث العلمي إعمال للمنهج في التجريب أو التجربة والوصف والاستدلال المنطقي, فتشكل عنصره الثالث, ثم "الرغبة" أو النزعة أو الطموح أو ما يصفها بعض الفقهاء بالشهوة الإنسانية, ويقصد بها المحرك والدافع والرغبة لدى الإنسان ليلقى الله غانماً. وعليه سيكون الخلق والابداع البحثي من خلال التشبه بالتكليف الإلهي, هو بمثابة عملية يكون العقل فيها هو المقود للعجلة التي يحركها الرغبة والنزعة الإنسانية للفلاح والنجاح, وذلك على طريق معبد مرسوم سالك, ألا وهو "المنهج" البحثي العلمي ومنهجية البحث, لينجز في نهايته "القانون" المكتشف باستنتاجه واستنباطه بحثاً واستقراءاً وتجربة حسب المنهج المسلك, وهو غاية التكليف الإلهي كما هو غاية البحث العلمي وهدفه.
ويمكن أيضاً تصوير عملية البحث العلمي بالطريقة الاستقرائية بالتربية والتعليم, حيث يحمل الطالب على اكتشاف المعلومات أو القواعد بنفسه وبتوجيه وتصويب من الأستاذ, فتجعله إيجابياً, يلاحظ ويقارن ويفكر ويستنتج, ثم يكتشف القانون والقاعدة ويحددهما, من خلال طريقة "إستجواب" الطلابinterrogation , بمعنى إثارة الإجابة واستنهاضها فيهم, وليس امتحانهم examination وذلك بأسلوب طرح الأسئلة على الطلاب لاستقراء الإجابات الدالة الى المعلومات الصحيحة المطلوبة.
مدخل لطرائق جمع القاعدة المعلوماتية للبحث العلمي
تستند عملية جمع المعلومات الى الخطة البحثية العامة المتضمنة تحديد الطرائق التي سيسلكها الباحث لجمع المادة العلمية لأغراض البحث، ويشتمل ذلك وضع المحاور العامة لمقاربة المصادر والمراجع المختلفة، المتوقعة احتوائها للمعلومات، بما فيها وضع الجداول بالقوائم المعرفة بها والمبينة لمواقعها من خلال الفهرسة العلمية المكتبية والمعلوماتية التي يطلق عليها البيبلوغرافيا BIBLOGRAPHY.
وتتوفر للباحث عدة طرق ونماذج لخطة جمع المعلومات البحثية، وستتضمن الفصول اللاحقة عرضاً ودليلاً لهذه النماذج، وطريقة إعمالها بهدف جمع المعلومات، وتيسير دراستها ومناقشتها، وتضمينها وتسجيلها أو الإشارة إليها والبناء على مبانيها والاستدلال بها، في مكانها المناسب من هيكل البحث.
تصنيف المعلومات وأغراضها
هنالك أسلوبان رئيسان يسلكهما الباحث، ويستخدمهما كمرجعيات لأغراض جمع المعلومات، أحدهما أو كلاهما, وهي المصادر والمراجع المكتوبة لجمع المعلومات, والمصادر الميدانية لجمع المعلومات.
المصادر والمراجع المكتوبة
المصادر والمراجع المكتوبة, هي التي قد تكون كتباً مطبوعة أو مخطوطات أو دوريات أو مجلات أو صحف أو بحوثاً جامعية أو بحوثاً ودراسات موثقة أو منشورة. ويدخل في هذا المسلك التقارير والدراسات والوثائق والسجلات والاستعارات وأية مطبوعات أو منشورات موثقة، سواء المسجلة على الوسائل التقليدية، أو على الأقراص المدمجة أو المسطحة أو الليزرية، وكذلك الأدبيات المنشورة في الشبكات المعلوماتية الإلكترونية، المحلية والدولية، من خلال المواقع العلمية والبحثية والأدبية والإعلامية الصحفية والثقافية والتربوية.
وتقسم المصادر المكتوبة الى المصادر أو المراجع الاصلية "الأولية" SOURCE، التي تحتوي على المادة الأصل عن مؤلفيها والوثائق والمخطوطات، أما الكتب والمواد المؤلفة الأخرى المستندة الى تلك المصادر أو المقتبسة عنها، فتعتبر مصادر ثانوية أو مراجع REFERENCE.
ويعبر علماء التراث العلمي والدراسات الدينية والموروث التراثي العلمي، الفكري والأدبي، عن النوع الأول من المصادر، بالأصول المؤلفة أو المتون المعتبرة، والبعض يخصها بتسمية المؤلفات دون المصنفات، أو التحقيق المعمق، في الإشارة الى المصادر الأولية أو الأصلية.
أما النوع الثاني من المصادر المكتوبة وهي الثانوية أو المراجع، فهي تشمل في حقل التراث العلمي والدراسات والتحقيق العلمي، المصنفات أو المؤلفات العلمية المجمعة أو الموسوعات، الكشاكيل، الشروح، الحواشي أو التعليقات، والتقريرات أو الأمالي, وبشكل عام الكتب المؤلفة عن المادة العلمية المنتقاة في المصادر الاولية.
إجراء البحوث الميدانية
وهي الشكل الثاني من مصادر جمع المعلومات والمادة العلمية للبحث العلمي, وذلك بالاعتماد على الاختبار الشخصي والمراقبة والملاحظات الخاصة والتجارب والمسح الميداني الإحصائي والمقابلات الشخصية والاستبيانات على اختلاف أنواعها، وهي وسائل مهمة لقياس الرأي العام لأغراض تدعيم البحث العلمي، فضلاً عن استخلاص المعلومات عن أصحابها والقائلين بها، والذين وصلتهم ويحتفظون بها، وأهل الفكر والرأي، وشهود العيان أو المعاصرين للوقائع والأحداث مباشرة. ويمكن تقسيم طرق البحوث والمسح الميداني، الى كل من طريقة الاتصال التي تشمل أسلوبي الاستبيان والمقابلة، وطريقة الملاحظة.
[1] الحلقة الدراسية الموسومة "مقاربة في الفهرسة والتوثيق والتحقيق في كتب التراث العلمي".
[2] زميل كلية الجراحين البريطانية. وتعادل شهادتها للدكتوراه في الاختصاصات السريرية.
[3] البورد أو شهادة الهيئة العلمية العليا في الطب, وهو التسمية المعتمدة لأعلى شهادة تخصصية سريرية في الطب من الجامعات الأمريكية, وقد جرى تداولها في شهادة الهيئة العلمية الطبية العربية لنفس الدرجة العلمية, وكذلك في الشهادة العليا المعادلة للدكتوراه في الاختصاصات السريرية في العراق.
[4] الكانديدات, وهي مفردة في اللغة الروسية تعني المرشح للدرجة العلمية KANDEDAT NAUK وقد تعارف دوليا وفي العراق, على تقييمها معادلة للدكتوراه, لوجود شهادة الماجستير في النظام التعليمي في روسيا (الاتحاد السوفيتي السابق).
[5] وهو تعبير عن الشهادة العليا المعادلة للدكتوراه في النظام التعليمي العالي الفرنسي, ويعتمد في بعض الجامعات اللبنانية.
[6] ويطلق عليهاTICKET المحاسبة, وهي شهادة مهنية عليا مقابلة للدكتوراه في التخصص, تمنحها المعاهد المتخصصة في المحاسبة التطبيقية, كما في معهد المحاسبة العالي.
[7] الدكتور حسن العلوي، باحث وكاتب.
[8] سورة المؤمنون, الآية 14
ساحة النقاش